لقد كانت الموصل في يوم من الأيام محطة رئيسية على طريق الحرير ومنارة ثقافية للعالم العربي، لكنها عانت كثيرا في السنوات الماضية من اعتداءات تنظيمي “القاعدة” و”داعش”. واليوم، تنوي هذه المدينة التألق من جديد.

تقف إيفانا فارس في عتمة غرفة التدريب وتوزع تعليماتها على المنصة، بينما ينشغل ثلاثة من رفاقها هناك، متنكرين في زي أطباء وممرضات ومرضى في المستشفى. تدير هذه الطالبة المسرحية من جامعة الموصل، والبالغة من العمر 23 عاما، المسرحية التي من المفترض أن تسمح لها بالحصول على درجة الماجستير. “المسرحية تتحدث عن الاضطرابات النفسية والعقلية للعديد من المرضى في المستشفى. كلهم أصيبوا بهذه الاضطرابات بسبب ما عاشوه هنا في الموصل. الفكرة هي إظهار درجة الجنون في كل ما حدث”، توضح الطالبة الشابة.

تعطش للحياة بعد داعش

كما هو حال إيفانا، انضم الكثيرون إلى قسم المسرح فور تحرير مدينة الموصل عام 2017، فسرعان ما نفهم أنه بعيدا عن إرواء عطش شباب الموصل للثقافة، فإن قيود تنظيم داعش لم تؤد إلا لتعزيز هذا التعطش. هذه الظاهرة واضحة جلية في جميع أنحاء المدينة، حيث تزدهر المبادرات لجعل الناس ينسون الفوضى، ولإعادة القليل من الأمل إلى هؤلاء السكان، الذين طالما تعرضوا للقمع من قبل تنظيم “داعش” و”القاعدة” قبله.

فبعد قرابة خمس سنوات على تحريرها، لا تزال ثاني أكبر مدن العراق تكافح من أجل إعمارها، لكن بفضل حشد المنظمات الإنسانية والمبادرات المحلية، بدأ المركز التاريخي يعود تدريجيا إلى الحياة. كذلك أعيد تدريجيا بناء المباني وفتح المحلات التجارية، وبدأ السكان في الاستثمار في الشوارع، بحسب تقرير صحيفة “لتيمب” السويسرية وترجمه موقع “الحل نت”.

وفي الوقت نفسه، تعمل منظمة “اليونسكو” على مشروع “إحياء روح الموصل” لإستعادة التراث الثقافي الذي دمره تنظيم “داعش” الإرهابي. بينما سيستغرق تجديد جامع “النوري الكبير” ومتحف “الموصل” بعض الوقت، من المفترض أن تستقبل المكتبة المركزية الزوار من جديد في الأسابيع المقبلة.

علاج الروح بالموسيقى

يبقى التحدي الأصعب هو علاج ملايين النفوس التي أصيبت بصدمة جراء الأحداث التي أعقبت العام 2003. لقد انتشرت الأيديولوجية السلفية لتنظيم “القاعدة” في المدينة، وفي أغلب الأحيان على حساب الحريات الفردية للسكان الذين باتوا رهائن لهذه الأيديولوجية. كانت التأثيرات على الحياة الثقافية والفنية للمدينة كارثية، طباعة الكتب والفنانون والموسيقيون تركوا المدينة بأعداد كبيرة تحت التهديد، مما حرم جيل كامل تقريبا من حرية الوصول إلى الثقافة.

وفور تحرير المدينة، قرر خالد الراوي وحكم الزراري النزول وعزف الموسيقى في الشوارع المنكوبة. فكانوا أول من يقدم عروضه علنا في الموصل منذ ما يقارب من خمسة عشر عاما. حيث يختار الموسيقيون الشباب أماكن ذات رمزية عالية، مثل الأحياء الأكثر تضررا من القصف وتلك التي نفذ فيها تنظيم “داعش” عمليات الإعدام. ويتذكر حكم قائلا: “أردنا محو الصور السيئة المرتبطة بهذه الأماكن من أذهان الناس، بحيث تستحضر هذه الأماكن مشهد الموسيقى وليس الرعب الذي رأوه هناك”.

واليوم، حكم هو عضو في أول أوركسترا في المدينة، حيث تأسست في تشرين الأول/أكتوبر 2020، وهي تجمع موسيقيين من جميع الأعمار والأنواع والمعتقدات، وقد قدمت عروضا على خشبة مسرح الربيع منذ نيسان 2021. هذا المسرح، الذي دُمر جزئيا خلال الحرب، جسد في يوم من الأيام مكانة عالية في المشهد الثقافي للموصل، حيث توافد الموسيقيين والشعراء من جميع أنحاء المنطقة العربية.

أما خالد، فقد ساعد في تطوير مساحة إبداعية داخل حاضنة فنون “المحطة”. وبتمويل من اليونسكو، يحتوي المبنى اليوم على طابق مخصص للممارسات الفنية، حيث يتم تقديم الدروس بانتظام هناك للمبتدئين في الموسيقى أو الرسم أو الخط.

وعلى خطى “المحطة”، تقدم ستة أماكن أخرى الآن فعاليات ثقافية، مثل مقهى “بيتنا”، الواقع في مبنى مهجور في المركز التاريخي ويديره فريق شاب من المتطوعين، من بينهم “مورامار”، هو أول مغني راب في المدينة، أو مقهى “منتدى الكتاب” الذي أسسه حارث عبد القادر وفهد صباح في عام 2017، حيث خطرت لهما فكرة إنشاء مكتبة المقهى هذه. ويوضح حارث قائلا: “لقد أصبح ملاذا للفنانين والمثقفين والناشطين على اختلاف أنواعهم”. ويقدم حارث وصديقه الآن ورش عمل في الكتابة ودروس تصوير سينمائي ونادي لغوي، وقد بات هذا المقهى أيضا واحد من الأماكن النادرة التي يمكن أن تلتقي فيها النساء مع بعضهن البعض ويختلطن بالرجال.

تحرر نسوي

لقد استثمرت النساء على وجه التحديد بشكل كبير في عالم الفن. فبينما كن غير ممثَلات إلى حد كبير قبل عام 2014، باتت النساء يشكلن غالبية الملتحقين الجدد بكلية الآداب في جامعة “الموصل”. هذه ثورة حقيقية! “لقد خطت النساء خطوة كبيرة إلى الأمام”، يوضح الدكتور مصعب محمد، نائب مدير الكلية، ويتابع قائلا: “لم يعدن يريدن أن يخضعن للسيطرة ويردن أن يصبحن ما يريدن”.

ونفس الملاحظة نجدها في معهد الفنون الجميلة. فبالنسبة لـ سليق الخباز، رئيس قسم المسرح، يجب أن يكون هذا الجيل الجديد بالكامل في المقدمة، حيث يقول: “طلابي رائعون، طيبون، وطاهرون. إنهم لا يستحقون كل ما حدث لهم”.
وهو يعمل معهم اليوم في مشروع سينمائي يديره فريق بلجيكي من مسرح “غينت”، حيث سيتم عرض تسعة أفلام قصيرة، جميعها تتعلق بالموصل وتاريخها الحديث، في نيسان/أبريل المقبل في مهرجان ترعاه “اليونسكو”.

وحتى ذلك الحين، ستقدم جامعة “الموصل” سلسلة من المسرحيات في شهر شباط/فبراير الجاري، كما ستواصل “المحطة و”منتدى الكتاب” و”بيتنا” استضافة الحفلات الموسيقية وعرض الأفلام بانتظام، وستقدم الأوركسترا عرضها الثالث في نهاية هذا الشهر، ومن المقرر إقامة مهرجان موسيقي متعدد الأيام في شهر آذار/مارس المقبل. وفي غضون ثلاثة أشهر، ستستضيف مدينة الموصل أحداثا ثقافية أكثر مما شهدته بين عامي 2003 و 2017.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة