تكشف الحرب في أوكرانيا مدى هشاشة القوى المحلية الفاعلة في الساحة السورية سواء النظام أم المعارضة، ومدى تبعية هذه القوى للفاعل الخارجي، مثلما توفر فرصا مفترضة للطرفين، لاختراق مساحات جديدة، كانت صعبة حتى الأمس القريب.
ورغم أن حسابات الربح والخسارة تشير الى أن كلا الطرفين النظام و المعارضة، ليس بين الرابحين في المحصلة النهائية، الا أن الفورة الدولية المرافقة للحرب، والفرص المطروحة، تغريهما بمحاولة اللعب مع الكبار وتحصيل مكاسب مواتية.
وبالنسبة لنظام الأسد، فقد سعى إلى تقديم كل ما بحوزته لروسيا من خلال الدعم العلني للحرب، وكان بين قلة من الدول المعزولة التي فعلت ذلك، أو من خلال تجنيد المرتزقة لصالح روسيا وفق تقارير محلية ودولية عديدة، من باب رد الجميل لروسيا التي أنقذته من السقوط بتدخلها العسكري عام 2015، أو ربما بأوامر روسية مباشرة، بعد أن باتت موسكو صاحبة النفوذ الرئيسي على النظام.
غير أن الأداء الروسي المتعثر في الحرب حتى الآن، والعقوبات الضخمة التي يواصل الغرب فرضها على موسكو، لا تعتبر أنباء سارة للنظام الذي راهن على نصر سريع لحليفه الروسي، يكسر من خلاله شوكة الغرب، ما يرفع من شأن الأنظمة التابعة لموسكو، ويساعد على إعادة تعويمها في الساحة الدولية.
أما التطورات على الأرض، فتشير إلى أن روسيا ليست على أعتاب نصر مؤزر في أوكرانيا، وحتى لو حققت بعد حين بعض أهدافها المعلنة في الحرب، فسوف تخرج منها، منهكة عسكريا ومأزومة اقتصاديا ومعزولة سياسيا، وهو ما سيلقي بظلاله على حلفائها الصغار، وفي مقدمتهم نظام الأسد، خاصة أن روسيا ستكون بعد الحرب مشغولة بتضميد جراحها، وأقل بسالة في الدفاع عن الأسد إذا ما جرى استهدافه سياسيا أو حقوقيا في الساحة الدولية، أو حتى عسكريا في جبهات القتال الحالية. وفي الوقت نفسه، فإن هذا النظام لا يشكل رصيدا عاليا يمكن المقايضة عليه مع الغرب الذي ما زال يتعامل بقدر عال من عدم الاكتراث مع الوضع في سوريا، إلا كأزمة إنسانية وميدان هامشي لمناكفة روسيا.
أما خروج روسيا من أوكرانيا من دون تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها، فسوف يكسر شوكتها عالميا، ويغري الغرب بالتمادي في معاقبتها في ساحات أخرى، وفي مقدمتها سوريا، بعد أن تكون القوات الروسية الموجودة فيها قد أصبحت مجرد امتداد للقوات المهزومة في أوروبا.
وفي حال، اتخذت الحرب الأوكرانية منحى الحرب السورية، أي الاستطالة الزمنية دون حسم ميداني، فقد تكون الساحة السورية الساخنة والمنفلتة، هي أيضا ميدانا للضغوط المتبادلة بين روسيا والغرب، في وقت تشير تقارير صحفية الى جهود أميركية لإحياء الجبهة الجنوبية في سوريا، بهدف إثارة المتاعب لروسيا. وقد تكون مناطق شرق سوريا ميدانا أيضا لهذه المناكفات، في حين تظل مناطق الشمال والغرب الخاضعة لنفوذ الفصائل الموالية لتركيا، بما فيها ادلب ومحيطها الواقعة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”، محكومة بالتفاهمات مع تركيا، وبالموقف التركي المتأرجح من حرب أوكرانيا والذي يحاول اللعب على الحبال في مسعى لإرضاء الغرب وتحسين العلاقة معه من جهة، وعدم التفريط بالعلاقات مع روسيا التي تعتمد عليها تركيا بالوقود والحبوب والسياحة من جهة أخرى. كما أن تركيا تخشى أن يؤدي فتح الجبهات إلى تدفق موجات جديدة من اللاجئين نحو أراضيها أو حدودها، لكنها قد لا تتوانى عن إثارة المتاعب لروسيا إذا سنحت الفرصة، خاصة عبر السماح بإرسال مقاتلين من الفصائل التابعة لها.
من جهتها، سعت المعارضة عبر الائتلاف الوطني إلى استثمار ما تعتقد أنها أجواء دولية مواتية لانتزاع مكاسب سياسية على حساب النظام في الساحة الدولية بسبب تورط النظام مع روسيا، وزار وفد من الائتلاف العاصمة الفرنسية والتقى بمسؤولين من الخارجية الفرنسية، وكذلك القاهرة واجتمع مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، إضافة إلى الاجتماع مع مسؤولين أميركيين وغربيين في تركيا. وهذه التحركات والتي تناغمت معها السفارة الأميركية في دمشق عبر تغريدة على في “توتير” قالت فيها إن شهر مارس آذار سيكون “شهر المحاسبة” للنظام السوري، من غير المتوقع أن تثمر عن نتائج ملموسة، ولا يتعدى مفعولها السياق الإعلامي، ذلك أن القوى الدولية التي سلمت منذ وقت مبكر “الملف السوري” لروسيا، لم يعد أمامها الكثير لتفعله لتصحيح أخطائها السابقة، خاصة أنه ليس لديها العزيمة ولا الخطط لتغيير المعادلة الميدانية الراهنة التي استقرت خلال السنوات الأخيرة بجهود مضنية من نظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني، بينما ظل الغرب يبيع الأوهام المعارضة السورية.
وما أن تضع الحرب في أوكرانيا أوزارها، سوف تركز روسيا جهودها داخل حدودها للتعافي من آثار الحرب ومعالجة عواقبها، حيث من غير المتوقع أن ترفع العقوبات الغربية والعالمية عنها قبل سنوات، حتى لو خرجت غدا من أوكرانيا. وليس مستبعدا أن يضاعف الغرب ضغوطه لإخراج روسيا من سوريا، كمقدمة لإنهاء نفوذها في الشرق الأوسط، أي الرد على روسيا في سوريا والشرق الأوسط.
ومن المفهوم، أن الحديث عن دحر روسيا في سوريا، لا يعني بالضرورة المس بنظام الأسد، لأن ذلك غير مطروح أميركيا ولا عربيا ولا حتى إسرائيليا، بزعم أنه لا بديل حاليا جاهز عن النظام الذي نجح في تصدير نفسه بوصفه الحاجز في وجه التطرف والإرهاب في سوريا، إلا إذا أقدم بوتين على توريط نظام الأسد بشكل مباشر في حرب أوكرانيا مثل استخدام الأراضي السورية كمنطلق للعمليات العسكرية الروسية ضد أهداف غربية وأوروبية، في حال طال أمد الحرب، وتشعبت امتداداتها. ومع ذلك، فمن المتوقع أن يكون هناك تشدد أميركي وغربي في معاقبة نظام الأسد اقتصاديا في المرحلة المقبلة، بسبب جهره في تأييد حرب بوتين في أوكرانيا، بوصفه حال النظام في بيلاروسيا، مجرد دمية عند بوتين.
ولذلك فقد استشعر النظام مخاطر المرحلة المقبلة، وبات يسعى للعثور على بدائل إقليمية في حال تراجعت مكانة الحليف الروسي، وهو لا يريد في هذه الحالة أن يرمي كل أوراقه في سلة إيران، لأنه يدرك أن إيران مجرد شريك مرحلي، وليست هي البوابة المناسبة للحصول على الشرعية الدولية، وإعادة الانفتاح على العالم. ومن هنا ربما جاءت زيارة بشار الأسد الى دولة الامارات العربية المتحدة، بهدف إيجاد بديل مواز لإيران في حال باتت روسيا في وضع لا تقدر على مساعدته كثيرا خلال الفترة المقبلة. وربما حصلت الزيارة بمساعدة من روسيا نفسها التي كان وزير خارجيتها في أبو ظبي قبل يومين من وصول الأسد، حيث للإمارات كما للسعودية، حسابات لم تتم تصفيتها مع الولايات المتحدة، تتعلق باستيائهما المعلن من المواقف الأميركية الرخوة حيال الهجمات التي تعرض لها البلدان من جانب الحوثيين في اليمن، وهو ما تحاول روسيا الاستثمار فيه أيضا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.