ثوريا ومناهضا للعمالة والفساد، ومعتقلا وشريدا عاش لأجل الحرية وضد الاستبداد، الشاعر العراقي الكبير والراحل مظفر النواب، وصل جثمانه صباح اليوم السبت، إلى العاصمة العراقية بغداد٫ قادما من الإمارات حيث توفي هناك يوم أمس الجمعة.

وكان رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في استقباله بمراسيم رسمية في مطار بغداد الدولي إلى جانب عدد من المسؤولين وعائلة النواب، قبل أن يتم تشيعه من مقر اتحاد الأدباء في ساحة الفردوس إلى ساحة التحرير حيث ألهمت قصائده المحتجين العراقيين الذين اتخذوا من الساحة مركزا لحراك تشرين الأول/أكتوبر 2019، وسط بغداد.

اقرأ/ي أيضا: مظفر النواب يسير إلى الموت دون عيون عراقية في الشبابيك

وصية النواب

جماهير كبيرة احتشدت في مقر اتحاد الأدباء لاستقبال نعش النواب، بحضور أدبي وفني واسع، حيث تم تشيعه بمسيرة ضخمة لم تستمر طويلا، قبل أن يتم نقله مجددا بطائرة خاصة إلى محافظة النجف، حيث وصيته أن يدفن هناك إلى جوار والدته، ومرقد الأمام علي.

تم نقل النعش من مطار بغداد إلى مقر الاتحاد، بموكب حكومي رسمي، رافقه موكب الكاظمي، حيث كان ينتظره المشيعون، وقبل أن يتحول التشييع إلى احتجاج شعبي ضد رجالات السلطة والحكم في العراق.

احتج المشيعون الذين ساروا بنعش النواب من مقر الاتحاد إلى ساحة الأندلس بمسافة لا تزيد عن الـ100 متر حتى فرقت قوات حماية الشغب التابعة لوزارة الداخلية المحتجين، لاعتراضهم حضور الكاظمي، معتبرين ذلك محاولة لاستغلال جنازة النواب لكسب ود الرأي العام، الذي يواجه الكاظمي من خلاله رفضا واسعا.

تحولت جنازة النواب الذي رحل عن عمر ناهز الـ88 عاما في إحدى مستشفيات الشارقة بعد صراع طويل مع المرض، إلى تظاهرة تعبر عن الرفض الشعبي للحكومة العراقية والمسؤولين، مطالبين الكاظمي بترك الجنازة بهتافات “مظفر للشعب مو للحرامية”.

محبو الشاعر الذي قضى أكثر من خمسة عقود بمناهضة الأنظمة العربية “الدكتاتورية والفاسدة”، كما ظل ثابتا في مواقفه من”الاحتلال الإسرائيلي” لفلسطين، هاجموا موكب الكاظمي ومن حاول من السياسيين الوصول إلى الجنازة، بالحجارة والهتافات المنددة بالفساد.

وعلق أحمد التميمي أحد محبي النواب على الحضور السياسي للجنازة، قائلا إن “هذا النعش ليس من أجل الأساليب الرسمية، مظفر المتمرد لا يعجبه كل هذا، إنها مسألة الحرية و التمرد التي كانت حاضرة بجميع خطاباته والتي أورثها لقلوب هؤلاء الشباب المخلصين، المنخرطين في صراع كبير وشاق من أجل الحرية”.

ومنذ يوم أمس، اجتاح العراق حزن قل مثيله، على رحيل أحد الشخصيات التي مثلت رمزا وطنيا وعربيا بمواقفه المطالبة بالحرية، والذي أمضى كثيرا من حياته معتقلا بسببها.

ولد النواب عام 1934 في الكرخ بالعاصمة العراقية بغداد، لعائلة أدبية ثرية تنتمي إلى البيت الهاشمي، ويمتد نسبها إلى الإمام موسى الكاظم.

غلب على عائلته لقب “النواب” الذي قد يكون جاء من “النيابة” أي النائب عن الحاكم، إذ هاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق (موطنها الأصلي) بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بالهند بسبب مقاومتها للاحتلال.

نال النواب شهادة البكالوريوس من كلية الآداب بجامعة بغداد، وفي فترة لاحقة، انتسب إلى جامعة فانسان الفرنسية وسجل رسالة ماجستير كان موضوعها “باراسايكولوجي” أو “القوى الخفية في الإنسان”.

اقرأ/ي أيضا: لا مجال لالتقاط الأنفاس.. الغبار يجثم على العراقيين مجددا

موهبة النواب

نمت موهبة النواب الشعرية بفضل ما كان ينشده إياه جده الشاعر في منزلهم من قصائد ومختارات أدبية، وفي الصف الثالث الابتدائي بدأ نظم الشعر حين كلفه أحد أساتذته بإكمال بيت أعطاه شطره الأول، وكان -وهو في المرحلة الإعدادية والثانوية- ينشر قصائده في المجلات الجدارية المدرسية.

سياسيا، انتمى مظفر النواب إلى “الحزب الشيوعي” العراقي وناضل في صفوفه، خاصة بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، واضطر في عام 1963 إلى مغادرة البلاد باتجاه إيران إثر اشتداد الصراع بين الشيوعيين و”حزب البعث”، الذي وصل إلى الحكم بانقلاب نفذه في نفس العام.

إبان حكم الشيوعيين للعراق من 1958 وحتى 1963، عُيّن النواب مفتشا فنيا في وزارة التربية، ثم فقد وظيفته بسبب خروجه من البلاد.

أواخر عام 1963، سلّمت السلطات الإيرانية، النواب إلى السلطات العراقية، ليتم زجه في السُجن فترة، تمكن خلالها من الهرب والاختفاء بجنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية.

لفت مظفر النواب الأنظار إليه منذ عام 1969 بقصيدته “قراءة في دفتر المطر”، وقد عرفه الجمهور العربي من خلال ملحمته الشعرية “وتريات ليلية” التي كتبها خلال 1972-1975، وظهر فيها ملتزما بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.

اشتهر منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والموغل في نقد الأنظمة العربية الحاكمة نقدا لاذعا، يصل أحيانا مستوى “الشتيمة”، حتى لقبه بعضهم بـ “الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”، كما مثلت قصيدته “القدس عروس عروبتكم”، إحدى أهم القصائد التي التف حولها الجمهور العربي.

فرضت على النواب قصائده السياسية الهجائية أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش 4 عقود طريدا بين المنافي العربية والأجنبية، متوزعا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وفنزويلا والبرازيل وتشيلي.

بدأت عزلة مظفر النواب، عندما اختار دمشق مُقاما له آخِر تسعينيات، بمعاش خصصه له الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، واتسعت عزلته منذ ذلك الوقت، فاكتفى بداية بالجلوس في مقهى الهافانا بشارع 29 أيار مرتين أو 3 أسبوعيا، ثم أصبحت مرة يتيمة قبل أن يعتزل نهائيا في بيته الذي لا يفارقه إلا ليلتقي القليل من الأصدقاء في أوقات متباعدة.

البعض من النقاد العرب، يرى أن النواب تنبأ بـ “الربيع العربي” وما أعقبه من تداعيات دامية بقوله في مجموعته “وتريات ليلية”: “سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درسا في التخريب”.

رفض النواب على الدوام تخليد سيرة حياته في فيلم سينمائي، فلم يلبّ رغبة الشاعر والمخرج السوري علي سفر والكاتب السوري إبراهيم الجبين في إنتاج شريط وثائقي حول تجربته، كما رفض عرضا مماثلا من القناة الفرنسية الخامسة قدمته له بداية عقد التسعينيات.

اقرأ/ي أيضا: العراق.. إعفاء أمين عام ورئيس كتلة “حركة امتداد”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.