في ظل مخطط أنقرة بإقامة “منطقة آمنة في الشمال السوري، وإعادة مليون لاجئ سوري يتواجد على أراضيها، والتهديدات التركية بشن عملية عسكرية هناك، يعود ملف “إعادة توطين” السوريين إلى الواجهة من جديد، فالمنطقة الآمنة بنظر العديد من المراقبين والسكان المحليين، لن تعيد السوريين الذين غادروا بلادهم إلى مناطقهم التي خرجوا منها، ما يعني أن “إعادة التوطين” ضمن “المنطقة الآمنة” التركية المزمعة هو خطر يتهدد السوريين، بتثبيت سياسة الأمر الواقع، وعرقلة تراتبية الحل السياسي في سوريا، وبالتالي بقاء السوريين العائدين في المناطق المؤقتة الآمنة.

خطر إعادة التوطين في مناطق مؤقتة، دون السعي الحقيقي لتفعيل حل سياسي وفق القرارات الدولية للسوريين، سيساهم بتكريس الانقسام في سوريا وتموضع مناطق النفوذ الأجنبي، بما يعني تهديد وحدة البلاد وعرقلة أي حل فيها.

“إعادة التوطين” كانت وستحصل بإعادة السوريين إلى مناطق غير مناطقهم، هذا على ما يبدو ستفعله تركيا وتوافق عليه موسكو ودمشق منذ وقت سابق لاسيما بعد اتفاقات “التسوية” أو ما يسمى بـ”المصالحة الوطنية” التي رعتها موسكو ونفذتها دمشق، وكأنهم شركاء في تكريس هذا المشروع الذي يهدد مستقبل سوريا واستقرارها ووحدتها، كذلك على الجانب الآخر فإن الإيرانيين ساهموا بشكل مواز لهذا المشروع من خلال التغيير الديموغرافي في مناطق عدة من سوريا سواء في شرقها أو وسطها وجنوبها، فضلا عن مشاركة تركيا أيضا بذلك مثلما حدث في عفرين وبعض المناطق الكردية خلال العملية التركية المسماة بـ”غصن الزيتون”.

التلاعب بالمنطقة الآمنة

وظائف إعادة التوطين، برأي الباحث الاجتماعي، في مركز “كولومبيا” للدراسات، وائل بركات، تبدلت وفق “أهواء الدول الإقليمية” المنخرطة في الصراع السوري، حيث تلاعبت فعليا بهدف إعادة التوطين، والذي يجب أن يكون حلا دائما ينهي دورة النزوح.

وخلال حديث بركات، لـ”الحل نت”، قال إن حل أزمة النزوح السوري سواء من الخارج إلى الداخل أو من الداخل إلى مسقط رأسهم، يجب أن يتم عبر البحث عن حلول دائمة، لكن ولاية بعض الدول على القضية السورية، أنتجت حلولا مؤقتة غيرت من شكل النسيج المجتمعي.

وأضاف بركات، أن الحلول الدائمة الثلاث للقضية السورية، تكمن في العودة الطوعية للوطن، والاستفادة من الحماية الوطنية عبر حل سياسي شامل، ونقلهم وفق قبولهم إلى بلدهم دون عودة قسرية، أو إلى مناطق أخرى وفق خيارات الدول الراعية.

وأشار الباحث الاجتماعي، إلى أن العودة الطوعية الحالية، تندرج بشكل أو بآخر تحت بند التغيير الديموغرافي، والتي بدأتها إيران في سوريا، ومن ثم تبنتها روسيا وفرضتها على دمشق، عبر التهجير لمن لا يوقع على اتفاقية المصالحة أو التسوية كما يسميها المجتمع المحلي.

وحاليا، وما تلوح به تركيا عبر “المنطقة الآمنة”، هو شكل آخر من “خلط للنسيج المجتمعي السوري والتي ترجع أصوله إلى آلاف السنين، إذا افترضنا أن الجميع عاد وفق عودة طواعية”. في حين شكك بركات، من مسار إعادة السوريين بشكل طوعي، قائلا: “أعتقد أن السياسة الوطنية التركية ستعمل على إعادة القسم الأكبر قسريا، عبر ترحيلهم بدعوى أنهم مخالفين للقوانين التركية”.

تقسيم سوريا

الخطر الأكبر في مسألة إعادة التوطين المطروحة اليوم، تراه السياسية والباحثة الأكاديمية، وعضو اللجنة الدستورية السورية، الدكتورة سميرة مبيض، أنها ليست موجهة لتحقيق استقرار وأمن السوريين، قائلة “لقد كان من الأجدى تحقيق أمنهم واستقرارهم في مكان لجوئهم بالدرجة الأولى”.

وتابعت مبيض، “هناك استخدام للاجئين لتحقيق توجهات سياسية تعتمد على التهجير القسري، وتصنيع مناطق تعتبرها هذه الجهات متجانسة أيديولوجيا، وقوميا أو مذهبيا أو غير ذلك، فيستمر إخضاعها للحروب والصراعات واستنزافها”.

وتعتقد مبيض، أن “ذلك ليس بطرح جديد، فهو ما قامت عليه المنظومة الحالية ويعتبر استمرارية لما حصل عند تقاسم حدود سوريا بعد الحروب العالمية”.

وتؤكد عضو اللجنة الدستورية السورية، أن “دول الجوار اليوم ساعية للامتداد في الأطراف الحدودية السورية، والذرائع التي توضع في هذا السياق لا تعدو كونها حجج واهية، حيث تتناغم المنظومات الساعية لها مع (النظام السوري) ومع استمراريته في السلطة”.

وبرأي مبيض، فإن الحل السياسي المنشود، هو تغيير جذري في آلية حكم دول المنطقة، التي يسودها نهج القتل والإبادة والتهجير، والعمل على بناء نظم تحترم الإنسان والتنوع والمواطنة المتساوية ولا تعتاش على الموت والفتنة والدمار.

وتشير مبيض، إلى أن “هذه الآلية إن تمت (المنطقة الآمنة والعودة القسرية)، ستؤدي إلى تقسيم سوريا وليس ذلك فحسب بل إلى تكريس نموذج الصراع البيني الدائم، وبالتالي ستتضاءل إمكانية الحلول، ومعها إمكانية الاستقرار والسلام المستدام في عموم المنطقة، وإمكانية انفتاحها وتفاعلها الإيجابي مع العالم أجمع، في حين أن ما تحتاجه المنطقة اليوم بمواجهة تحديات مناخية وصحية متصاعدة، هو الاستقرار على كافة الصعد والتقدم على صعيد التنمية والاكتفاء والنهوض”.

مناطق تركية الآمنة تبدأ بالتهجير؟

بعد قرابة الثلاثة أعوام من طرحها أمام الأمم المتحدة، يعاود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحديث عن فرض “منطقة آمنة تركية” في الشمال السوري بقوة التصعيد العسكري هناك.

مؤخرا وبعد طرح أنقرة لمشروع إعادة أكثر من مليون لاجئ سوري في تركيا إلى الأراضي السورية خلال الشهور المقبلة، وإثر طلب الأتراك من “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) المساعدة بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري مقابل الموافقة على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، صدرت الاثنين الفائت، تصريحات رسمية تركية تشير إلى قرب انطلاق عملية عسكرية جديدة لها في الشمال السوري، على غرار آخر العمليات التركية هناك (نبع السلام أواخر عام 2019).

وجاء تصريح أردوغان عقب ترؤسه اجتماع الحكومة، في المجمع الرئاسي بأنقرة. وقال: “سنبدأ قريبا باتخاذ خطوات تتعلق بالجزء المتبقي من الأعمال التي بدأناها لإنشاء مناطق آمنة على عمق 30 كيلومترا، على طول حدودنا الجنوبية (مع سوريا)”.

ويدعم أردوغان ما يطلق عليه “المنطقة الآمنة”، مدعيا إبعاد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عن حدوده بلاده، مقابل نقل لاجئين سوريين في تركيا إليها، والسماح للمعارضين في سوريا بالعثور على ملاذ بدون دخولهم الأراضي التركية، وفق زعمه.

وحول تفاصيل المنطقة الآمنة المزعومة والتي طُرحت لأول مرة في عام 2013، والتي تعتزم تركيا إقامتها على طول الحدود مع سوريا، فإن المنطقة الآمنة تشمل مدنا وبلدات من محافظات حلب والرقة والحسكة، وتمتد على طول 460 كيلومترا، على طول الحدود التركية السورية، وبعمق 30 كيلومترا.

وأبرز المناطق المشمولة في “المنطقة الآمنة” التركية، المعلن عنها عام 2019، المناطق الواقعة شمالي الخط الواصل بين قريتي صرّين (محافظة حلب)، وعين عيسى (محافظة الرقة)، كما تضم المنطقة الآمنة مدن وبلدات سري كانيه/رأس العين (مدينة تحت سيطرة تركيا)، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، ووردية، وتل حميس، والقحطانية، واليعربية، وديريك/المالكية (محافظة الحسكة).

وكذلك ستضم المنطقة كلا من كوباني/عين العرب (محافظة حلب)، وكري سبي/تل أبيض (الرقة) (مدينة تحت سيطرة تركيا)، أما مدينتي منبج والقامشلي في ذلك فهما خارج “المنطقة الآمنة” التركية.

محنة السوريين تتفاقم

استراتيجيات التغيير الديموغرافي في سوريا، بدأت بسبب الحرب الجارية في سوريا، حيث تغيرت الخريطة السكانية، وأسهمت في ذلك حكومة دمشق بما يتلاءم مع حاجاتها الأمنية، وروسيا، وتركيا، بالإضافة إلى إيران. ففي منتصف عام 2011، قدر عدد السكان في سوريا رسميا بأكثر من 21 مليونا، وفي عام 2021، أصبح العدد الإجمالي للسوريين أكثر بقليل من 26 مليون نسمة موزعين على مناطق ومجموعات مختلفة، منهم حوالي 16 مليون داخل البلاد، وما يقرب من 9 ملايين خارجها، بالإضافة إلى أكثر من مليون قتيل أو مفقود.

مع دخول روسيا وإيران الحرب السورية، استخدمت هذه الأطراف استراتيجية الاتفاقيات المحلية مع المدن و/أو الأحياء المحاصرة، لإجبار السكان المحليين المعارضين على ترك منازلهم، والنزوح إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. في العام 2016، مررت دمشق اتفاقيات، مثلا، مع مدينة داريا، وأحياء الوعر في حمص، وأحياء شرق حلب، بعد أن عانت جميعها من الحصار والقصف، بهدف نقل السكان والمقاتلين إلى محافظة إدلب.

استُكمِل هذا السيناريو في العام 2017، من خلال الاتفاقية التي عقدت بين الحركات الإسلامية من جهة، والجيش السوري و”حزب الله” وإيران من جهة أخرى، والتي غطت أربع مدن محاصرة، هي: الزبداني، ومضايا، بريف دمشق والفوعة، وكفريا، في الشمال السوري والتي تم تنفيذها بعد ذلك، حيث تم تغيير تركيبة سكانية لحوالي 12 ألف شخص في هذه المدن.

في نهاية نيسان/أبريل 2017، قامت إيران بتوطين بعض المقاتلين مع عائلاتهم، في منطقة القصير بريف حمص، والتي تم تهجير معظم أهالي قراها، فيما تحولت البلدة الرئيسية (القصير) بحدّ ذاتها إلى ثكنات ومراكز تدريب عسكرية لمختلف الميليشيات الإيرانية، وفي ذات الشهر 2017، حدث تهجير قسري مماثل، لبضعة آلاف من السكان في أحياء القابون وبرزة وتشرين بدمشق والتوجه نحو إدلب (الشمال السوري).

منذ بداية العام 2017، أفادت تقارير بتزايد حضور عائلات المليشيات الإيرانية في بعض مناطق العاصمة، قادمة من دير الزور (شرقي سوريا) ولبنان، وانتقلت إلى حي دمر، غرب دمشق، بعد شراء عقارات، وبيوت، ومتاجر، وأراض، بأسعار مرتفعة، فيما بدأت روسيا منذ عام 2018 بعقد اتفاقيات “مصالحة” في حمص ودمشق ودرعا، وقامت بتهجير السكان غير الراغبين بتوقيع هذه الاتفاقية إلى شمال سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة