بثّ صانعو محتوى أجانب، خلال زيارتهم لسوريا، عدة فيديوهات تكرر المشاهد ذاتها: لقطة من أحد الشوارع الحيوية الفاخرة وسط العاصمة السورية دمشق، التي تعجّ بالحياة، مرفقة بـكليشيه “لا يُصدّق أن هذه هي سوريا”.
المشهد، على الرغم من حالة التنميط والتكرار وغياب الابتكار فيه، بات دعاية سياسية دسمة، تتواءم مع سردية حكومة دمشق بأن “سوريا آمنة وجميلة ودافئة الحضن”.
في السنوات الأخيرة، التي أعقبت هدوء الجبهات في محيط دمشق وحلب وحمص ومدن أخرى، بدأ صانعو محتوى أجانب، على منصّة الفيديو “يوتيوب”، يجرون زيارات دورية ومنظمة لتصوير فيديوهات في سوريا. هؤلاء باتوا يضخّون دعاية سامّة متعددة الاتجاه، تضر باللاجئ السوري في دول الجوار، ونظرة المجتمعات المستضيفة لبقائه لاجئا؛ وتضر بالسوريين أنفسهم، الذين هُدمت منازلهم، وخسروا أحباءهم، فهي توصل رسائل على مستوى الوعي الجماعي للمتلقين، بأن سوريا ليست في حالة تستدعي مخرجات الحرب المعروفة، بما في ذلك محاسبة القتلة، أو تحقيق العدالة الانتقالية، أو حتى تنفيذ القرارات الدولية.
لماذا سوريا؟
في نظريات الإعلام والتأثير، هناك ما يُعرف بنظرية “البطل الواحد”، لجأت إليها وسائل الإعلام التقليدية، ضمن قالب صحافي يدعى “وول ستريت جورنال”، ويقوم على سرد حكاية إنسان واحد، عانى مع إحدى مصاعب الحياة، من أجل تمرير معاناة جماعية عبر قصته، فوجود بطل للقصة له دور حاسم في التأثير.
هذا النموذج طوّره صنّاع المحتوى مع انتشار هذه المهنة، وباتوا يلجأون لمغامرات مجنونة، من أجل جذب الجمهور، مثل عرض تفاصيل مخزية عن حياتهم الشخصية، أو الخوض في مغامرات تشكّل خطرا على الحياة، مثل أحد صانعي المحتوى، الذي دفن نفسه في قبر لليلة كاملة، من أجل جلب المشاهدات عن تلك التجربة الغريبة. وبالتالي فإن زيارة دولة لها صيتها دموي في هذه الأيام، مثل سوريا، يندرج ضمن “المغامرات التي لا تُصدّق”.
المشي فوق الركام المدمّرة، أو التجوّل في شوارع وأحياء تُبدي آثار الدبابات التي مرّت عليها، تعتبر مغامرة مثيرة بالتأكيد، وكذلك الحال عند تقديم معلومة “عكس التيار”، مثل التصوير في ملهى ليلي يعيش طقوس فتح زجاجات الشمبانيا خلال الحرب، أو حالة الاسترخاء على الشواطئ المشمسة في البلد الأخطر في العالم، كل هذه الأفكار تعني الملايين من المشاهدات الجديدة.
انصب التركيز على صانعي المحتوى الأجانب، خلال السنوات الماضية، بسبب التأثير العميق الذي يحدثونه لدى الجمهور، فالبعض منهم بات عدد مشتركيه يفوق عدد المشتركين بكبرى القنوات التلفزيونية العربية مجتمعة، وهو ما دفع المعلنين إلى التوجّه إليهم بدلا من الإعلام التقليدي، وكذلك باتوا مصدرا مهما للدعاية السياسية، عن قصد أو غير قصد.
في هذا التقرير يسرد “الحل نت”، نماذج محدّدة لصناع محتوى أجانب زاروا سوريا، وقدّموا روايات مضللة. والتضليل في الإعلام يعني إما تقديم معلومة مجتزأة، أو إبراز معلومة على حساب إبعاد أخرى، أو حتى إخراج معلومة من سياقها.
صانعو المحتوى والرواية السياسية المضلّلة
قبل أشهر، دخل اليوتيوبر التركي، غوكهان يلدريم، إلى سوريا، وزار حمص وحلب ودمشق، تمشّى في أسواق هذه المدن، وتمتع بالأطعمة والأشربة والأماكن الترفيهية، ليوجه من خلال هذا الفيديو رسائل مختلفة حول الوجود السوري في تركيا. فبحسب الفيديو سوريا آمنة، والحرب انتهت، وعلى اللاجئين السوريين في تركيا أن يعودوا إلى بلدهم. معتبرا أن الأخبار التي يتداولها السوريون حول الحرب في بلادهم غير صحيحة، وأنه تأكد من الأمر بنفسه، كما أن الدمار قديم، وأكبر مشكلة هي انقطاع الكهرباء فقط.
إلّا أن الرسالة الأخطر كانت من مدينة حمص، فخلال سيره بين الأحياء والمباني المدمرة في المدينة، أوضح يلدريم، أن كل هذا الدمار سبّبه الإرهابيون، مثل داعش والقاعدة، إذ أنه خرج عن السردية الاعتيادية بالاكتفاء بالقول إن البلاد آمنة، لينتقل إلى توجيه اللوم إلى أطراف محددة في التسبب بالدمار، وتبرئة أطراف أخرى. علما أن مدينة حمص كان فيها مقاتلون محليون، خرجوا بعد حصار طويل، دون أن تدخل المدينة أي تنظيمات متشددة، مثل داعش، أو القاعدة بشقها السوري.
نمط حياة لا يشبه المواطن السوري
زار اليوتيوبر، أندراوس باسوس، سوريا ثلاث مرّات في أعوام 2018، 2019، 2020. وقدّم في هذه الزيارات الأماكن الفاخرة والمطاعم الشهية والفعاليات الترفيهية.
في زيارته دمشق، للمرّة الأولى عام 2018، نشر باسوس، مقطع فيديو بعنوان “الوجه الآخر لدمشق”، جال فيه بضعة كيلو مترات داخل العاصمة، لا تتعدى سوق الحميدية والمدينة القديمة الواقعة خلف السوق داخل سور قلعة دمشق. ويبدو أنه تجاوز المشاهد التي رأتها عيناه للأبنية المتحوّلة إلى ركام، والتي هجرها سكانها، خلال طريق الذهاب والعودة من المطار إلى قلب المدينة وبالعكس.
غير أن زيارته الأخيرة لمدينة حلب عام 2020 كانت مختلفة، ففي تلك الزيارة، التي نشر فيديو عنها بعنوان “يوم في مدينة حلب”، أنفق في يوم واحد ما يعادل راتب المواطن السوري لبضعة أشهر، على الأماكن السياحية، والمطاعم الفاخرة، والوجبات الدسمة، وسهرات الطرب الحلبي، في أماكن السهرة باهظة الثمن.
تأتي كل تلك المشاهد في وقت يرزح فيه السوريون تحت وطأة انخفاض الدخل والغلاء الفاحش، الذي جعلهم غير قادرين على الوصول إلى أبسط أساسيات الحياة، مثل الأطعمة الضرورية للإنسان والمياه والكهرباء والمواصلات الآمنة. إذ تجاوزت نسبة من هم تحت خط الفقر حاجز الثمانين بالمئة، من عموم السوريين في الداخل.
صانعو المحتوى الأجانب وتطبيع ممارسات حكومة دمشق
قبل بضعة أسابيع، نشر موقع “بزنس إنسايدر” الشهير، تقريرا تحدّث فيه عن تدفّق المؤثرين (إنفلونسرز) إلى سوريا للسياحة والتصوير، موضحا، أن “هؤلاء يطبّعون مع النظام، ويروّجون لرؤيته وروايته عن الحرب”.
وقال بيل بوتسوك، معد التقرير: “بعد رفع القيود عن السفر، بسبب كوفيد- 19، بدأ مؤثرون على موقع يوتيوب، بالوصول إلى سوريا بأعداد كبيرة، حيث قدّموا للمعجبين بهم رؤية من الداخل عن البلد الذي يعيش حربا منذ عام 2011، لكن هؤلاء، الذين يحاولون تقديم أفلام وبرامج عن سوريا، يُتهمون بأنهم، وبطريقة غير مقصودة، يرددون رواية النظام عن الحرب الأهلية، مما دعا نقادهم لتوجيه اتهامات لهم بأنهم يطبّعون النظام، ويبيّضون صفحته”.
التقرير أوضح، أنّ “دخول السياح إلى سوريا من غالبية الجنسيات كان ممنوعا خلال عقد من الحرب، ولكن مع تراجع القتال في عام 2019، عاد السيّاح الباحثون عن المغامرة والمؤثرون على يوتيوب”، مؤكدا أن “عشر شخصيات مشهورة على الأقل سافرت إلى سوريا خلال الاثني عشر شهرا الماضين، ومنهم سايمون ويلسون، ونجم برنامج “بولد أند بانكربت” بنجامين ريتش، وجانيت نيوينهام، وغوغهام يلدريم. وقام هؤلاء بالتجوّل في سوريا عبر السيارات، حيث نقلهم مرشدون سياحيون إلى الأسواق والمعالم التراثية والتاريخية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، مثل حمص ودمشق، وقدّم لهم المرشدون دروسا في التاريخ. وتجنّب كل صناع المحتوى تقريبا أي ذكر للحرب، وركزوا بدلا من ذلك على الشعب السوري وكرمه ولطف معشره”.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.