“السكافي حافي” المثل الشعبي بعينه ينطبق على المهندس، سفيان جبري، خريج المعهد التقاني للهندسة الميكانيكية والكهربائية، ليس فقط لأن بيته الذي يبعد 500 متر عن ساحة السبع بحرات، إحدى ساحات مدينة دمشق الرئيسية، تحوي مبنى مصرف سورية المركزي، والتي أنشأت الساحة في النصف الأول من القرن العشرين، كرمز للتوسع العمراني في دمشق، بعد أن كانت المنطقة في السابق منطقة بساتين غير سكانية، لا يصله الكهرباء بسبب التقنين الطويل والمستمر لمدة 20 ساعة يوميا، بل لأن شمعة جهده الدراسية انطفأت أيضا وبات حبيس جدران منزله.

يقال أن الشخص يكتسب بعض صفاته من اسمه أو من التضاريس التي يعيش عليها أو من طبائع الأسرة والمقربّين وأصدقاء الطفولة. وبالتأكيد فإن الحقل الذي يختص فيه كمهنة أو دراسة ستؤثر في سلوكه وطريقة تفكيره لتلائمها، وهو فعلا ما ينطبق على مهنة “الكهربجي” في سوريا.

واقع الكهرباء في سوريا منذ عام 2011 ليس بأحسن حال من الواقع الاقتصادي والذي تضرر بنسبة 80 بالمئة، فالوعود الحكومية والادعاءات بتحسين واقع الكهرباء التي تُلقى على مسامع السوريين منذ نحو عامين كلها دون أي نتائج ملموسة، لتعود الجهات الحكومية نفسها لتخالف وعودها بوضع حجج تتعلق بالغاز تارة وبالجو تارة أخرى، وهذا انعكس تماما على حالة جبري والعديد من أقرانه في المهنة ذاتها.

في مطلع شهر آب/أغسطس الفائت، مدير مؤسسة نقل وتوزيع الكهرباء بدمشق، هيثم ميلع، قال في تصريحات صحيفة، إن تحسن الواقع الكهربائي مرهون بواردات الغاز، حيث أرجع ازدياد عدد ساعات التقنين، لانخفاض واردات الغاز بمحطات التوليد وارتفاع درجات الحرارة. مبينا أن الواقع الكهربائي يتحدد بكمية التوليد مع كمية الكهرباء التي يتم استهلاكها، مضيفا أن تحسن واقع الكهرباء مرهون بتحسن واردات الغاز إلى محطات التوليد.

وجاء كلام ميلع، مخالفا لتصريحات وزير الكهرباء قبله بأيام، حيث كان أكد تحسن الواقع الكهربائي، ووصلت ساعات تقنين الكهرباء الى نحو 8 ساعات في العاصمة دمشق مقابل ساعة تغذية، بينما تعاني باقي المحافظات من ساعات تقنين أعلى، في حين يؤكد جبري وغيره من قاطنو العاصمة، أن الكهرباء لا تنير منازلهم سوى سويعات، في حين أن أعيتهم اعتادت على الظلمة الحالكة.

مهنيّ بلا مهنة

“سنوات دراستي وخبرتي في مجال الكهرباء في سوريا، بلا فائدة”، هذا الوصف ينطبق على مهندسي الكهرباء أو ما يعرف محليا بـ “الكهربجي”، كجبري الذي يعيل 3 من الأبناء، أكبرهم سمية التي دخلت قفزت من المرحلة الأساسية إلى الإعدادية، وعبير التي تدرس في الصف الثالث، وكريم، ذو الخمس سنوات، والذي لا يزال يحتسي الشاي البارد يوميا مع والده.

يقول جبري، سابقا “في سوريا كان الكهربجي أساسي، إذ كلنا يعرف أن من مهام الكهربجي أن يقوم بتثبيت الأباريز وعلب الكهرباء، وتأسيس الجدران بأفضل الخراطيم والأسلاك وهذا كله يعتد على الشبكة التي تم تأسسيها عند البناء، لما تساهم في تشغيل معظم أجهزة المنزل”.

أمّا اليوم، ومع انعدام شبه كامل للتيار الكهربائي في سوريا، فأصبح جبري وزملائه بلا عمل، “الناس بطلت تمدد كهرباء لأنو الكهرباء ما بتجي إلا بأحسن الأحوال ساعتين إلى أربع ساعات، وبقية اليوم الاعتماد إما على بدائل، أو العيش مع العتمة، حتى عيون الناس تعودت عالعتمة”.

ولا يعد التقنين السبب الرئيسي لفقدان جبري عمله، فارتفاع الأسعار المحموم في سوريا له يد أيضا، فوفقا لحديثه، فإن تأسيس شبكة المنزل من 100 متر، باتت اليوم تكلف حوالي 30 مليون ليرة، بالإضافة إلى أن أجرة المعلم مع ورشته، تتجاوز 100 ألف ليرة يوميا، وهذا كان سببا بعزوف المواطنين عن إعادة تمديد الكهرباء.

التجارة.. خسارة

لعل ما يدور في بال جبري وغيره من مهندسي الكهرباء، أن مهنتهم ذاهبة نحو الانقراض، وعليهم التفكير جديا بتعلم مهنة أخرى أو طلب التماس من الحكومة، بتعينهم في وظائف لا تتجاوز رواتبها 60 ألف ليرة سورية، لأن الساحة السورية المطفئة بسبب التقنين، أشعلها التجار ببدائل الطاقة.

يقول عبد الحكيم الزوباني، تاجر مواد البناء والكهربائيات، لـ”الحل نت”، إن بدائل الطاقة وتشجيع الدولة لها فتح سوقا مربحا لهم، فحتى المواطنين لجأوا إلى الاعتماد على ألواح الطاقة الشمسية والمولدات التي تعمل على الوقود من أجل إنارة منازلهم.

وعلى الرغم من الفوضى المحيطة بالبطاريات وألواح الطاقة الشمسية في سوريا، وغير ذلك من متطلبات نظام الطاقة البديلة، إلا أنها لا تزال مقبولة لدى العامة، فبحسب جبري، هذه البدائل لا تحتاج إلى “الكهربجي” لتركيبها، فأي شخص يقرأ ويكتب يستطيع إتباع التعلميات المكتوبة لتشغيلها.

ونتيجة لذلك، لا يشغل بال جبري، إلا كيف سيأمن مستقبل أولاده، فحتى اتفاق نقل الكهرباء الذي وقع بين مصر، والأردن وسوريا ولبنان، والذي استبشر به جبري خيرا، لا يزال معلقا بسبب المشاحنات السياسية، في حين أن السوق السوداء وتجارة الأمبير التي كانت ربما في يوميا من الأيام رافد صغيرا له، قد خفت سوقها، بسبب تحول الناس إلى بدائل الطاقة.

تراجع ساعات التغذية صيفا

بحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”، تشهد سوريا انخفاضا حادا في إمدادات الكهرباء، منذ بدء فصل الصيف، حيث سجلت العاصمة دمشق زيادة في عدد ساعات التقنين إلى 4 ساعات فأكثر، فيما ارتفعت إلى 8 ساعات في المتوسط ​​في ريف دمشق وباقي المناطق، ويأتي هذا التراجع دون تفسير من قبل الوزارة.

وفي أيار/مايو الماضي، تغير برنامج التقنين، حيث زادت ساعات التوقف من 3 إلى 4 ساعات، فيما انخفضت ساعات التغذية من 3 ساعات إلى ساعتين، كما أن بعض المناطق شهدت انقطاعا حادا لمدة 10 ساعات تقريبا، من الساعة 12 ليلا حتى 10 صباحا، ولكن مؤخرا ازدادت ساعات التقنين مع الارتفاع في درجات الحرارة.

أما في ريف دمشق، فإن ساعات القطع وصلت إلى 12 ساعة مقابل نصف ساعة تغذية، فيما بلغت ساعات التغذية خلال 10 ساعات ساعة واحدة فقط في الكثير من المناطق.

التحول إلى الطاقة البديلة.. إجباري

في ظل التدهور الذي يشهده قطاع الكهرباء في سوريا، بات اللجوء إلى استخدام الطاقة البديلة خيارا لمعظم السوريين؛ إن سمحت لهم القدرة المالية، حيث يتم استخدام ألواح الطاقة الشمسية ومستلزماتها منزليا وحتى في المنشآت، وهذا ما جعل أسعار هذه المستلزمات أشبه بالبورصة نظرا للإقبال عليها، وأصبحت مصدرا مدرا لأرباح خيالية على التجار الذين يستوردونها.

وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أخضعت في بداية آب/أغسطس الفائت، نسب الأرباح المسموح بها لبيع مستلزمات الطاقة البديلة للقرار /1201/ لعام 2021، ليكون بموجبه هامش الربح لهذه المستلزمات 15 بالمئة للمستورد وتاجر الجملة، و15 بالمئة لبائع المفرق.

وفيما يبدو أن القرارات الحكومية عاجزة عن ضبط أسواق مستلزمات ألواح الطاقة البديلة في سوريا، اعتبر رئيس جمعية حماية المستهلك، عبدالعزيز المعقالي، أن معظم الباعة في السوق لا يلتزمون بهوامش الأرباح التي تحددها وزارة التجارة الداخلية ومديرياتها في المحافظات، مقدرا هوامش الربح التي يتقاضاها باعة مستلزمات الطاقات البديلة (ألواح – بطاريات- انفرترات) بأنها تصل لـ100 بالمئة ولابد من التشدد في التعامل معهم وتكثيف الرقابة على بيع هذه المستلزمات التي ارتفع الطلب عليها كثيرا أمام تراجع توافر الكهرباء وارتفاع ساعات التقنين.

ويبلغ إجمالي المشتركين في القطاع المنزلي نحو4,5 ملايين مشترك، منهم 3,5 ملايين استهلاكهم ضمن الشريحة الأولى من 1-600 كيلو واط في الدورة وهو ما يمثل نحو 70 بالمئة من المشتركين المنزليين وبالتالي لا تتجاوز قيم فواتيرهم في الدورة 1200 ليرة، حسب قسم التخطيط في وزارة الكهرباء.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.