” كل ذنبي لأن آنه من الغجر”. معاناة لا حدود لها وآلام لا يعرف حجمها غير غجر العراق أنفسهم. تلاصق الغجري السبّة في البلاد ما أن يُعرّف بجذوره، فعاش عزلة لم تنته حكايتها إلى اليوم، ولا يبدو أنها قابلة للنهاية السعيدة قريبا.

“ما عندي جنسية حتى أعيش مثل العالم”، يقول جمال فارس ودموعه تسيل على وجنتيه، ما أن سألناه عن حياته وكيف عاش كل سنوات عمره السابقة، وهو الذي يقف على أعتاب الـ 40 عاما.

تعرّض الغجر على امتداد الحكومات العراقية المتعاقبة إلى الظلم والاضطهاد والحرمان من أبسط حقوق المواطنة العادية، فكانوا لا يُمنحون الجنسية العراقية، حتى سنوات قريبة.

مارس نظام صدام حسين السابق، التمييز بشتى أنواعه بحق الغجر، فلم يمنحهم سوى شهادة الجنسية العراقية، مرفقة بعلامة تمييز على أنهم غجريين، كإشارة حقيقية للاضطهاد الحاصل بحقهم.

“أنكر أصلي وما أگول آنه من الغجر حتى أگدر اشتغل وأعيش”، يقول جمال فارس الذي يقطن بمحافظة الديوانية جنوبي العراق، لـ “الحل نت”، وكل أمنياته أن يحصل على الهوية الثبوتية العراقية.

لا حقوق

عامل بناء بأجر زهيد وفي درجات حرارة خمسينية صيفا وصفرية شتاء، تلك هي مهنة فارس. يقول: “أطلع من الصبح وما أرجع إلا ويا الليل. نبني بيوت للعالم وآنه بيت مثل كل الناس ما عندي”.

يُمنع الغجري من التوظيف في أي وظيفة وفي أي سلك من مسالك الدولة العراقية، كما ويُحرم الكثير منهم من حق التعلم في المدارس، ويعيشون قسريا بمناطق معزولة، نائية، ومنغلقة فيما بينهم.

تفتقر مناطقهم إلى أبسط مقومات العيش الكريم، لا ماء ولا كهرباء، وبيوت متهالكة من طين والأكوام حولهم من كل حدب وصوب، ولا شوارع مبلّطة. حياة مريرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، دون اكتراث حكومي.

يقول جمال فارس: “ما أگدر أگول للناس آنه غجري؛ لأن مباشرة راح يضحكون ويگولولي كاولي”. تلك المفردة -الكاولية- سبّة تمارس بحق الغجريين، شرعنها نظام صدام حسين ضدهم، وربطها بالجنس والدعارة.

لم يغادر الكثير من العراقيين تلك النظرة تجاه الغجر؛ رغم مرور 19 عاما على سقوط نظام صدام حسين، ولم تبادر حكومات ما بعد 2003، للنهوض بأحوالهم المعيشية ومنحهم حقوقهم الأساسية.

معضلة الجنسية

مطلع عام 2019، بادرت وزارة الداخلية في خطوة إيجابية بمنح الجنسية للغجر، إثر ضغط ديني من قبل “التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر، بعد حملة من قبل منظمات مجتمعية حملت وسم “الغجر بشر”، لمنحهم حقوقهم.

لم تستمر الداخلية في قرارها بمنح الجنسية للغجر، إذ سرعان ما توقفت منذ الأشهر الأخيرة لعام 2019 وحتى اليوم، دون مبررات حقيقية منها، لتبقى المعاناة لصيقة بالغجر. موت في الحياة، فلا معنى للعيش بلا أي حقوق.

حاولنا التواصل مع الوزارة لكنها لم ترد علينا، غير أن ضابطا كبيرا طلب عدم الكشف عن هويته، أبلغنا أن النظرة المجتمعية بحقهم، كونهم يوصفون بـ “الكاولية”، وتدخلات وانتقادات رجال دين كبار للقرار، منعت الوزارة من الاستمرار بمنحهم الجنسية.

كان القرار لفترة مؤقتة، بحسب الضابط، لكن انطلاق “انتفاضة تشرين” نهاية عام 2019، وحتى الربع الآول من عام 2020، وتداعيات وباء “كورونا” بعدها، والانتخابات المبكرة الأخيرة، ساهمت هي الأخرى بتأخر استئناف منح الجنسية للغجر، وفق الضابط.

يعود تاريخ وجود الغجر في العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1920، وينتشرون في شرق العراق ووسطه وجنوبه وفي منطقتي الكمالية والفضيلية ببغداد، ويقدر عددهم بنحو 50 ألف نسمة عام 2005، وهي آخر إحصائية معلومة عنهم.

تسمية “الكاولية”

غجر العراق يتزوجون فيما بينهم وفق العرف الديني، أي خارج المحاكم؛ لعدم امتلاكهم الجنسية، وهي ذات الطريقة التي تزوج بها جمال فارس قبل 15 عاما، ويملك 3 أطفال اليوم، أكبرهم يبيع المناديل الورقية بشوارع الديوانية.

الفنانة ملايين

“إحنا ميتين بنص هاي الحياة. ابني يبيع كلينيس واللي وياه يدرسون، وميگدر يكون وياهم بسبب الجنسية. كلشي بحياتنا واگف على الجنسية. ما ندري لشوكت نبقى هيچي عايشين”، بتلك الكلمات يعبّر فارس عن قسوة الحياة التي يعيشها مثله جل الغجر.

لصق نظام صدام حسين “وصمة عار” بحق الغجر، عندما أطلق عليهم تسمية “الكاولية”، وكانت رموز النظام تجلب فتياتهم إلى جلساتهم الخاصة، وتجبرهم على الرقص والجنس قسرا، ومنذ ذلك ترسخّت سبّة مجتمعية بحق الغجر، لم تنته تداعياتها إلى الآن.

تختلف الأبحاث في مصدر تسمية “الكاولية”، غير أن عالم الاجتماع حميد الهاشمي، يرجع أصلها إلى قبائل هندية كانت بعض نسائهم تمتهن الجنس والرقص كخدمة دينية لرجال الدين، أو بالأجر لآخرين، ومنهن من كن بمعبد الملك “كاول”، فانتسبوا إلى الملك كاول تشرفا وتعظيما لأنفسهم، وأطلق عليهم الاسم “الكاولي”.

من المفارقات أن لدى غجر العراق تاريخ فني عريق، ومن أبرز الأسماء الفنية الغجرية، هي الممثلة هند طالب، والممثلة والراقصة ملايين، والفنانة صبيحة ذياب، والمطربة ساجدة عبيد، والمطربة حمدية الصالح، إضافة إلى الفنانة غزلان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة