“قبل أن تقرر التقاعد، ابق في المنزل لمدة أسبوع، إذا كنت تستطيع تأمين مستلزماتك فأنت في آمان”، في سوريا عندما يتقاعد الموظف من مؤسسة حكومية بعد عمله فيها لمدة ثلاثين أو أربعين عاما بجيوب فارغة، إلا أن رأسه مليء بالأسئلة والقلق، لأن الوقت الآن بالنسبة له هو الأكثر إلحاحا لبدء البحث عن وظيفة جديدة تسمح له بالعيش حياة مُرضية بعد أن فشلت سنوات خدمته في تزويده حتى بأبسط احتياجاته.

نادرا ما نجد أي شخص يمكنه أن يقول إنه عاش حياة سعيدة، ويكون راضيا بحياته بعد أن يتقاعد من العالم مثل ضيف راض، لذلك نشهد في سوريا مؤخراً موجة من الاستقالات في معظم المؤسسات الحكومية، والكثير منها لموظفين حديثي العهد ولم يمضِ على توظيفهم أكثر من خمس سنوات، وهي وفق تبريرهم إما بسبب الأجور المتدنية، أو هروبا من تكرار تجربة التقاعد المجرد من أية مكاسب، فالسياسات الحكومية بما فيها الدعم الاجتماعي لم تؤمن أي برنامج لحماية المتقاعدين وتأمين حياة كريمة لهم، إذ يكتفي المتقاعد براتب هزيل لا يكفي لثمن أدويته، دون أي دعم آخر لمعيشته.

مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا وانهيار قيمة العملة المحلية، يبدو أن الحديث عن زيادة وشيكة لرواتب المتقاعدين، التي فقدت أكثر من ثلثي قيمتها، لا فائدة منها، لأن تطبيق الزيادة سيكون مع بداية العام المقبل والذي أثار حفيظة المتقاعدين، لا سيما وأنهم في الوقت الحالي خارج كل حسابات الدعم الحكومي.

“حجج واهية”.. وبلا رواتب

“المتقاعد يعيش حاليا بمعجزة مع راتب 70 ألف ليرة سورية، فحتى المقاهي الشعبية الرخيصة التي كان يرتادها شريحة كبيرة من المتقاعدين لم تعد تكتظ بهم، كيف يعيش هؤلاء في ظل متطلبات الحياة الكثيرة وهذا الغلاء الفاحش الذي طال كل شيء، هو المعجزة بحد ذاتها”، هكذا يقول عبد الرزاق السكري، الذي عمل في مديرية التربية والتعليم 53 عاما والآن يتقاضى راتبا تقاعديا مقداره 75 ألف ليرة سورية بعد الزيادة الأخيرة، وهو مريض ويحتاج إلى أدوية وطبابة ومتطلبات صحية تزيد عن 100 ألف ليرة سورية شهريا.

السكري الذي قضى عمره في مديرية التربية، يقول لـ”الحل نت”، “بهذا الراتب التقاعدي أصبحت مشرداً لا متقاعداً فكيف لرجل مثلي وفي هذا العمر أن يعتاش من هذا الفتات إذا لم أجد عملا على وجه السرعة سأصبح على قارعة الطريق”.

في الخامس والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر الفائت، تفاجأ متقاعدو العاصمة دمشق بأن مؤسسة التأمينات الاجتماعية أوقفت صرف رواتبهم التقاعدية دون توضيح للأسباب باستثناء “استكمال بيانات المتقاعدين”، وبسبب “خلل تقني”.

صرف رواتب متقاعدي الوظائف الحكومية في العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية يبدأ في الـ 20 من كل شهر، سواء عبر الصرافات الآلية ودفاتر المعاشات ومؤسسات البريد، ومع ذلك يعاني اليوم متقاعدو دمشق من تأخير صرف رواتبهم لشهر كامل بحجج واهية.

عدد المتقاعدين في سوريا يبلغ 750 ألف مستحق للمعاش التقاعدي، من ضمنهم 550 ألف حساب جار، و200 ألف دفتر معاش، بحسب بيانات المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات، ويصرف المعاش التقاعدي عبر ثلاث طرق هي “حساب جار، صراف آلي، ودفتر معاش تقاعدي”.

في منتصف عام 2021، قدر المدير العام لمؤسسة التأمينات الاجتماعية يحيى أحمد، أن أكثر من 7 مليارات ليرة تكلفة زيادة رواتب المتقاعدين المسجلين في المؤسسة حسب مرسوم زيادة الرواتب التي زادها 40 بالمئة للمتقاعدين، مشيرا إلى أن المؤسسة تدفع شهريا للمتقاعدين 18 مليار ليرة، وبعد الزيادة فإنه من المتوقع أن تدفع المؤسسة نحو 25 مليار ليرة.

إلا أن السكري، يصف وضعه كمتقاعد والكثير معه، بأن “هذا الإنسان الذي أفنى حياته في خدمة الدولة أليس صعبا عليه بعد هذا العمر المديد أن يبحث عن عمل من جديد قد يكون غير لائق ليؤمن من خلاله دخلا إضافيا يكفيه لحاجياته الأساسية ومتطلبات الحياة”.

حرمان من الطبابة المجانية

“ما حصل معي في مشفى المواساة عندما طلبوا مني 500 ألف ليرة سورية لقاء إجراء عملية جعلني على يقين بأننا نحن المتقاعدين بحاجة إلى طبابة مجانية مدى الحياة وإلا ستكون الأمور سيئة جدا”، السكري يرى أنه رغم الزيادات التي جاءت إلا أن المتقاعدين من أبرز ضحايا الأزمة الاقتصادية بعدما فقدت رواتبهم أكثر من 90 بالمئة من قيمتها، بسبب التضخم وانهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.

وفي الوقت الذي يتصدر فيه نظام الحوافز الجديد الحديث كـ “تسكيتة” عن رفع الرواتب والأجور، حسب ما وصفته صحيفة “البعث” المحلية، أمس الإثنين، ينتظر المتقاعدون بدورهم أية “تسكيته” تخصهم بعيدا عن الزيادة التي يبدو أنها صعبة المنال، ولن تكن كافية إن صدرت بنسب متواضعة، ورغم استقطاب القطاع الخاص للكثير من المتقاعدين من المهندسين أو الفنيين كخبراء واستشاريين، إلا أن النسبة الأكبر يتجهون للعمل بما لا يناسب أعمارهم وخبراتهم فقط لتأمين قوت يومهم.

عضو لجنة الموازنة والحسابات في مجلس الشعب، زهير تيناوي، أكد أن الدعم الوحيد الممكن حاليا للمتقاعدين هو تأمين طبابة “شبه مجانية”، حيث أشار إلى أنه من خلال مناقشة مشروع الموازنة لعام 2023، تم التأكيد على ضرورة إيجاد دخل إضافي للمتقاعدين من خلال تأمين الطبابة المناسبة لهم برسوم رمزية سنوية يتم اقتطاعها من الراتب التقاعدي، معتبرا أن هذا هو المنفذ الوحيد حاليا لتحقيق دخل إضافي.

خلال حديثه شدد تيناوي، على أن قانون التأمين الصحي للمتقاعدين الذي طال مناقشته يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة من وزارة المالية، والتي ستتحمل التكاليف المترتبة على هذا المشروع في دعم مؤسسات وشركات التأمين الخاصة أو العامة. كما يتطلب تأمين السيولة بعض الاستراتيجيات التي تقوم وزارة المالية ببحثها حاليا، ومن المتوقع أن يكون القانون جاهزا في بداية عام 2023، بعد الوعود منذ أكثر من 6 أشهر بإصدار القانون.

50 ألف فقط؟

نقيب صيادلة سوريا وفاء كيشي، كشفت خلال المؤتمر الأربعين لنقابة صيادلة سوريا، الذي أقيم في العاصمة دمشق، في حزيران/يونيو الفائت، عن قرار جديد يتعلق برفع لراتب التقاعدي، من 40 ألف ليرة سورية إلى 70 ألف ليرة سورية، وذلك بناء على توصية رفعها المجلس المركزي للنقابة.

ضمن تصريحات نقلها موقع “أثر برس” المحلي، أكدت كيشي، أن القرار سيتم تطبيقه، اعتبارا من الشهر الأول للعام القادم، لافتة إلى أن عدد الصيادلة المتقاعدين يتجاوز 1700 صيدلاني.

وفي إطار رفع أجور المتقاعدين، أشارت كيشي إلى أنه: “تمت الموافقة على رفع قيمة مكافأة الصيدلاني الموظف بمختلف قطاعات الدولة إلى 50 ألف ليرة سورية“.

مؤخرا اشتدت وتيرة الأزمة الاقتصادية في سوريا، تزامنا مع عجز الحكومة عن احتواء الأزمة، وتأمين المواد والسلع الأساسية للمواطنين، فضلا عن العجز في تأمين المواد الأولية، والطاقة للدفع بعجلة الصناعة والإنتاج.

في هذا السياق، أوضح تيناوي أن التأمين يشمل جملة أعباء تؤمن للمتقاعد ضمانة اجتماعية ضمن الإمكانات المتوفرة فقط، مؤكدا أن العام المقبل سيشهد أيضا زيادة بالأجور، حيث لحظ هذا الأمر بالموازنة، لكن يوجد مقاربات كثيرة لابد من إجرائها قبل إقرار هذه الزيادة.

دراسة سابقة أجرتها الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، خلُصت إلى أن 95 بالمئة من المسنين يقومون بعمل إضافي بعد التقاعد لزيادة دخلهم، فيما كشف مكتب الإحصاء المركزي حديثا، أن معظم المسنين يمارسون أعمالا شاقة لأنها توفر دخلا ممتازا مقارنة بالأعمال الأخرى.

المواطن فقط يدفع الضريبة

ارتفاع الأسعار بات الهاجس الأكبر للسوريين، حيث لا يمر يوم دون أن ترتفع أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية في الأسواق السورية، دون أن يكون هناك أي ضوابط أو إجراءات حكومية للحد منها أو وقف ارتفاعها.

فوضى الأسعار ما تزال تسيطر على أسواق العاصمة دمشق، وهمُّ التجار تحقيق أكبر قدر من الأرباح من جيب المواطن، فضلاً عن تغاضي التموين عن مخالفات البيع بأسعار زائدة عن السعر المحدد في نشراتها، بالمقابل تم رفع سعر 16 مادة غذائية أساسية يحتاج إليها السكان يومياً، من بينها السكر والأرز والسمن والزيت والدقيق والشاي وغيرها، وسط وضع معيشي سيئ يعيشه السوريون.

حسب التقارير المحلية، أثبتت أحوال الأسواق أن كل القرارات والحلول التي قدمتها الحكومة لتجاوز أزمة الغلاء والسيطرة على الأسواق لم تجدِ نفعا، وكل ذلك مجرد قرارات وكلمات ووعود، هذا يعني أن هناك خللا واضحا جليا أصبح لا يمكن التغاضي عنه لأنه حالة يومية يعيشها المواطن السوري.

في وقت سابق من هذا الشهر، وتعليقا على تدني الرواتب والأجور في سوريا، أكد عضو غرف تجارة دمشق فايز قسومة، على ضرورة ازدهار الاقتصاد حتى يعيش المواطن السوري، مشيرا إلى أن ذلك يعني بالضرورة تحسين وضع الكهرباء ورفع مستوى الدخل.

قسومة قال، في تصريحات نقلتها إذاعة “أرابيسك” المحلية، إن دخل الموظفين في سوريا، لا يتناسب أبدا مع أبسط الاحتياجات الأساسية، وأضاف، “حتى لو أصبح الراتب بالحد الأدنى 500 ألف ليرة، فإنه لا يكفي لإطعامه أكثر من خبزة وبصلة“.

السكري وآلاف المتقاعدين في سوريا يجول الخوف من فقدان سبل العيش في مخيلتهم ليل نهار، خصوصا مع ارتفاع الأسعار بشكل كبير خلال الفترات القادمة، بعد تدهور الليرة السورية أمام الدولار، وتجاوز عتبة الـ 5 آلاف ليرة سورية، فضلا عن غياب دور الحكومة في زيادة رواتبهم أو تأمين معاشاتهم بشكل دوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.