“لسعة أيلول بتخلي الواحد يعيد حساباته”، مع بدء انحسار موجات لهيب الصيف، يتجه راضي قدموس، المنحدر من ريف حمص الشمالي، هو وأبناء بلدته بحملة محمومة لشراء الحطب، دون انتظار توزيع مازوت التدفئة، الذي جرت العادة توزيعه في الشهر الثامن من كل عام، إلا أنه مع دخول الشهر التاسع وعدم إعلان ووزارة النفط عن أي مواعيد لتوزيعه، أُجبروا على هذا الإجراء.

وبالنظر إلى ارتفاع سعر الطن الواحد للحطب إلى 600 ألف ليرة وتوقعات تجار الأخشاب، الذين يؤكدون أن السعر لن يظل ثابتا بعد دخول فصل الشتاء، ولكنه سيشهد ارتفاعا يتناسب طردا مع موجات البرد والصقيع، لا تزال الأخشاب تتصدر قائمة وسائل التدفئة الأكثر سهولة في الاستعمال والأكثر دفئا، رغم أنها ليست الأكثر اقتصادا للجيب، وخاصة بالنسبة للأشخاص ذوي الدخل المحدود.

أزمة الكهرباء والوقود في سوريا تتفاقم يوما بعد يوم، دون أن تتمكن الحكومة ووزارة الكهرباء من إيجاد أي حلول، ولا يوجد سوى الوعود بالتخفيف من التقنين على الرغم من انتهاء فصل الشتاء، إلا أن الأمور لم تزدد إلا سوءا، ولذلك كان لا بد للمواطنين من البحث عن بدائل تمكّنهم من متابعة حياتهم كشراء الحطب، أو إعادة إحياء وسائل التدفئة القديمة.

السوريون إلى عصر الخشب

“رجعنا لأيام ما قبل ظهور النفط”، هكذا وجد عبد الحجاوي، وهو سوري يبلغ من العمر 32 عاما، نفسه يعيد إحياء تراث عائلته التجاري المتمثلة في بيع الحطب، حيث يتفاقم نقص الوقود والكهرباء في سوريا التي ضربتها الأزمة.

في المنشرة التي يملكها في منطقة يلدا جنوبي العاصمة دمشق، تلقى الحجاوي وعشرات العمال جذوع الأشجار المقطوعة من أماكن مختلفة في جميع أنحاء البلاد، وقام الرجل وفريقه بتقسيم الخشب بالفؤوس، لتكديسها وتخزينها لبيعها في السوق.

بالنسبة إلى الحجاوي، وفق ما يقوله لـ”الحل نت”، فإن بيع الحطب هو عمل عائلي أخذ في التضاؤل وكاد أن يندثر قبل عام 2011، إلا أنه وسط نقص الوقود في سوريا، يوفر الحطب بديلا جيدا لأولئك الذين لا يستطيعون شراء وقود التدفئة أو الغاز.

وبالعودة إلى قدموس، فإن توقع الأهالي بمواجهتهم هذا العام لشتاء قاسي، حيث تزداد صعوبة العثور على الوقود، كما أن تكلفة المازوت ترتفع بشكل كبير تصل إلى 140 بالمئة، في بعض أجزاء البلاد مما يفاقم المشكلة، أدى إلى نشوء سوق سوداء نشطة تبيع الحطب بأسعار مرتفعة للغاية.

العودة إلى الزمن القديم، وفقا لحديث قدموس، لـ”الحل نت”، لجأ له السوريون لتدفئة منازلهم، لأنه أصبح الحل الأسهل والوحيد في كثير من الأحيان لدرء برد الشتاء، قائلا: “الجميع يعرف الظروف المالية الصعبة والقاسية التي يواجهها السوريون اليوم. تحاول العائلات السورية إنفاق أقل قدر ممكن من المال، لذلك أصبح الحطب الخيار الوحيد للدفء خلال فصل الشتاء، هذه الأزمة أعادت إحياء مهنة قطع الأشجار وتجارة الحطب”.

“حطب مدعوم” للعائلات؟

كغالبية السوريين، بدأ قدموس الذي يعيش في منطقة يلتهب شتاؤها بالبرد بسبب جغرافيتها، بإعداد العتاد لتأمين التدفئة في فصل الشتاء، خصوصا إذا كانت التنبؤات المناخية التي سمعوها عن برد الشتاء القادم صحيحة، فمع اقتراب شهر أيلول/سبتمبر الجاري من الانتهاء ودخول فصل الخريف، تبدأ القصة.

ففي ظل استعصاء خيارات التدفئة الأخرى، من كهرباء “تأتي بالقطارة” بفعل برنامج تقنين جائر، وغاز محكوم برسالة تأتي كل شهرين ولا تكفي لأغراض الطبخ، ومازوت مقنّن على دفعات الدفعة الأولى منه 50 ليترا، من الطبيعي أن يتصدّر الحطب المشهد ويكون الملاذ المتاح، إذ بدأت أسر عدة قاطنة في القرى الجبلية بإعداد العدّة باكراً؛ فجهّزت مؤونة الشتاء من الحطب.

غياب تصريحات الجهات المسؤولة عن الشروع في إعطاء المواطن بدائل للوقود المنزلي، تسبب في البحث عن بدائل منها شراء الحطب للسخانات التي تعمل بالديزل، والغاز، والكهرباء، والتي ملأت أيضا صفحات التواصل الاجتماعي بأشكالها وأنواعها المستخدمة، والتي لم تعد تخدم الغرض في ظل غياب الوقود، الذي نشهده اليوم.

وبحسب تقارير محلية، فإن سوق بورصة حقيقية ظهرت في سوق المدفأة المستعملة داخل سوريا، حيث تحول معظم سكان المدن من المدافئ الأساسية إلى تلك التي تحرق الأخشاب، وأدخلوا إلى المدينة سخانات تعمل بالحطب من الريف.

ولكن ما واجهه المواطنون هذا العام، كانت ارتفاع تكلفة طن الحطب، ما كبّدهم خسائر متزايدة، إذ استغل تجار الحطب الذين انتعش سوقهم خلال السنوات الأخيرة لاسيما مع هجرة الفلاح لأرضه بعد تكبّده خسائر متزايدة وتركه أشجار الحمضيات، والتفاح عرضة للتحطيب من قبل شبكة تتجول خلال هذه الأشهر في القرى لاصطياد زبائن ممن لا حول ولا قوة، حيث وصل الطن إلى مليون ليرة سورية.

رئيس دائرة الحراج في مديرية زراعة اللاذقية، المهندس جابر صقور، قال لموقع “أثر برس” المحلي، أمس الاثنين، إنه “بهدف تخفيف أعباء التدفئة في فصل الشتاء فقد سمح بتزويد كل أسرة من المجتمع المحلي بكمية 500 كغ من الأحطاب التي تنتجها الفرق الحقلية في مديرية الزراعة، وفقا للتسعيرة السنوية والمحددة حالياً للطن الواحد بـ225 ألف ليرة سورية لخشب الصنوبر، و120 ألف ليرة لحطـب الصنوبر”.

تكلفة الحطب زادت

تكلفة تموين الحطب في الشتاء لعائلة سورية يتباين من منطقة لأخرى بحسب قدموس، فالأسرة السورية المتوسطة تحتاج ما بين 80-100 كيلوغرام أسبوعيا، وهذا يعتمد على عدد أفراد الأسرة ومدى برودة الجو.

يقول قدموس، تكلفة الحطب محددة محليا، ولا يوجد اتصال مباشر بين سوق الأخشاب والأسواق الأخرى، فور زيادة الطلب الحطب في السوق السوداء، أصبح سعر طن الخشب العادي 600 ألف ليرة سورية (140 دولار أميركي)، بينما كان يبلغ 8 آلاف ليرة سورية (48 دولار) قبل أعوام.

أما بالنسبة لطن خشب الزيتون، الذي كان يباع بـ 11 ألف ليرة سورية (66 دولار)، بات الآن يكلف مليون ليرة (230 دولار)، كما ارتفع سعر خشب المحلب، الذي يحترق ببطء ولا يخرج دخانا مليون و200 ألف ليرة (260 دولار)، فيما يحتاج متوسط الأسرة السورية إلى إنفاق حوالي 3 ملايين ليرة سورية (650 دولار)، على الحطب كل عام.

وبحسب محلات بيع الحطب المرخصة، فإن سعر الطن الواحد المرخص من حطب الزنزريخ، والكينا، والسرو، والحور، يتراوح بين 450-475 ألف ليرة، فيما يُباع طن الزيتون والليمون بـ600 ألف ليرة، ويكون مقطّعا جاهزا للوضع في المدفأة.

حلول ثانوية

نمو تجارة الحطب ودخولها ضمن حسابات المافيا، كما يصفها عامة السوريين، أزاح هذا الخيار من حسابات بعض العائلات معدومة الدخل، حيث اضطرت هذه العوائل إلى البحث عن وسائل تدفئة بديلة قبل حلول الأشهر الباردة، وخوفا من تكرار الوضع الذي كان سائدا في العام الماضي.

منذ زمن بعيد ولعقود عديدة، اقتضت العادة بين البدو، وسكان محافظة السويداء في المناطق الحضرية إرسال “الكسح”، من أجل تجنب برد الشتاء إلا أن هذه العادة اندثرت بعد التقدم التكنولوجي، ولكن وفي ظل الارتفاع العبثي في أسعار أجهزة التدفئة والوقود مثل المازوت والحطب، عاد جلب “الكسح”، مؤخرا في سوريا إلى الواجهة، محمّلة بجرارات وبسعر غير زهيد، يصل إلى 300 ألف ليرة سورية للنقلة.

كأحد المنتجات الحيوانية الثانوية، أنتج المزارعون سابقا “الكسح”، فهو مكون من خليط مخلفات الجمال والماعز والأغنام، يتم صناعتها في فصل الصيف، حيث يغلق على الأغنام داخل الحظائر، لتشكل بتجمعها من فضلاتها وترسبها تحت أقدام المواشي، طبقة تسمى “الكسح”.

ووفقا لتقرير نشره موقع “السويداء 24” المحلي في وقت سابق، فإن “المادة التي أخفاها الزمن ونساها الناس، والكثير من الأجيال لا تعرفها، عاودت الظهور بعد تقاعس الحكومة السورية عن واجباتها بتأمين وسائل التدفئة الحضارية للسكان، ومع قلّة توفرها وصعوبة الاستغناء عنها من مالكيها، يقدّر ثمن النقلة الواحد بواسطة جرار زراعي أو سيارة بيك أب، صغيرة الحجم بسعر 300 ألف ليرة”.

وبحسب ما نقله الموقع، فإن عودة “الكسح”، بثت الريبة في هاجس الكثيرين وأثار حفيظة من لم يألفه، لأنه من الصعب أن يتقبل فكرة استخدامها من جديد، إلا أنه في عصرها، كانت من الوسائل الفريدة المدرجة بالاستخدام داخل المنازل، ولا سبيل لاستبدالها.

ليس عودة “الكسح”، لأهالي منطقة السويداء، أمرا جديدا في سوريا، فمنذ سنوات سابقة أعيد العديد من الأهالي في عدة مناطق وسائل تدفئة بدائية مضى عليها الزمان، كمنقل التمز (العرجوم).

في عموم سوريا، لجأ الأهالي إلى استخدام مخلفات عصر الزيتون الرطبة في المعاصر للتدفئة وطهي الطعام، لرخصه، مقارنة بالجاف منه، وغيره من مواد التدفئة، فمع دخول موسم قطاف وعصر الزيتون، يتهافت الأهالي لشراء مخلفات عصر الزيتون، أو ما يعرف عندهم باسم “التمز”، إذ يُباع بـ 2000 ليرة سورية للكيلو الواحد، بينما يُباع الجاف منه بـ 10 آلاف ليرة”.

الجدير ذكره، أنه رغم تحديد السعر الرسمي للطن الواحد من الحطب بـ 300 ألف ليرة، إلا أن وزارة الزراعة غير قادرة على تأمين الكميات التي يحتاجها المواطن نتيجة لفقدان مادة المازوت، لذا يرى قدموس، وغيره من السوريين، أنه من الضروري إيجاد سبل لتأمين مادة المازوت عن طريق توزيع الحصص على العوائل لتغطية جزء من الحاجة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.