معظم السوريين يعيشون في وضع اقتصادي منهار وغير مستقر، فقد زادت نسبة الفقر والبطالة خلال السنوات الماضية، بالإضافة لانهيار العديد من القطاعات ومنها قطاعي الصحة والتعليم، وما زاد الأمر سوءا الآثار الاقتصادية التي تبعت انتشار فايروس كورونا، الأمر الذي فاقم أكثر معاناة السوريين، وزاد من فقرهم.

ومن هنا كانت الأهمية الكبيرة للتحويلات المالية القادمة من الخارج إلى سوريا، فهي بمثابة شريان الحياة الأهم لاستمرار قدرتهم على مواجهة التضخم الكبير للاقتصاد السوري، وانخفاض قيمة الليرة السورية المستمر منذ سنوات الماضية أمام الدولار.

الحوالات وإعادة إعمار ما تهدم

الحرب في سوريا تسببت بدمار كبير في الممتلكات الخاصة، ومن بينها منازل المدنيين، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، فليس هناك إمكانية لدى غالبية السوريين لترميم منازلهم المدمرة بشكل ذاتي، لكن في مقابل ذلك ساهمت حوالات المغتربين، سواء كانوا من اللاجئين في دول الجوار أو الدول الغربية، أو من المغتربين العاملين في دول الخليج في مساعدة أهالي هؤلاء بترميم منازلهم، أو إعادة بنائها من جديد.

حوالات بالدولار في سوريا “وكالات”

سامر المصري، من بلدة عتمان في ريف درعا، (ستيني يعيش من زوجته وابنتيه) في بلدته، تعرض منزله للدمار نتيجة القصف قبل عدة أعوام ما اضطره للعيش في بلدة أخرى في منزل مستأجر، لكن بعد توقف العمليات العسكرية عام 2018 عاد لترميم منزله من جديد.

وفي حديث مع “الحل نت”، يروي سامر قصته إذ يقول: “بعد أن دُمّر معظم منزلي في الحرب، قمت باستئجار منزل في بلدة مجاورة، وبعد توقف القصف قررت إعادة بناء منزلي من جديد، واعتمدت بذلك على أولادي أحمد وعبدالله، اللذين يعملان في أبو ظبي، حيث تصلني منهم حوالات شهرية جيدة بالمقارنة مع قيمة الليرة السورية، وبدأت منذ 4 سنوات بإعادة بناء الجزء المهدّم من المنزل وترميم الجزء الآخر، وخلال عامين استعدت منزلي بحال جيد”.

يتابع سامر، “بعد أن أعدت بناء المنزل ساعدني أولادي بفرشه من جديد، فعندما دُمّر ذهب كل شيء، وحاليا أعيش فيه بعد أن تخلصت من أعباء دفع الإيجار، وتمكنت من فتح دكان صغير لنعيش منه، لم أكن أعلم ماذا أفعل لولا وجود أولادي في دولة أخرى، ربما لم يكن بإمكاني أن أعود لمنزلي، وكنت سأشعر بحسرته كلما مررت ورأيته مدمّرا، وبصراحة، الله يعين يلي ما عنده حدا مسافر يساعده”.

إقرأ:هل ينافس “المصرف المركزي السوري” السوق السوداء بدولار الحوالات؟

المعيشة والتعليم مأساة لولا الحوالات

شريحة كبيرة من السوريين باتت تعيش حياتها اليومية على الحوالات القادمة، كما بات تعليم قسم كبير من أبنائهم يعتمد عليها أيضا، خاصة مع ارتفاع الأسعار اليومي، وارتفاع تكاليف الدراسة بشكل غير مسبوق.

أم جميل، من دمشق، (سيدة خمسينية أرملة، وأم لخمسة أبناء ثلاثة منهم هاجروا إلى أوروبا في العام 2015)، بقيت تعيش في العاصمة مع ابنها وابنتها في منطقة ركن الدين، تعيش وأولادها على الحوالات التي تصلهم من أبنائها المهاجرين.

تروي أم جميل، لـ”الحل نت” الواقع الذي تعيشه، وتقول، “توفي زوجي في بدايات الأزمة وكان موظفا حكوميا، وكان راتبه التقاعدي في السنوات الأولى مع راتبي كمعلمة في مدرسة حكومية يكاد يكفينا للعيش، وتعليم أبنائي في تلك المرحلة، حيث لم يكن معظمهم في الجامعة، ولكن بعد ذلك تغيرت الأوضاع الاقتصادية بشكل سيء جدا وخاصة بعد أن بدأت الأسعار بالارتفاع وانخفضت قيمة الليرة، عندها لم نعد قادرين على العيش، وفي تلك الفترة بدأت موجة اللجوء إلى أوربا، وكان اثنان من أبنائي أنهوا دراستهم الجامعية والثالث ناجح في البكلوريا، فغادروا إلى ألمانيا حيث استقروا هناك”.

وتضيف أم جميل، “بعد أن بدأ أبنائي بالعمل في ألمانيا بدأت الحوالات تصلني بشكل شهري منهم وهذا ما يساعدني الآن على العيش مع ابني وابنتي، إضافة إلى أنني استطعت أن أدرّسهم في الجامعة، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى ميزانية، فلولا دعم أبنائي في الخارج فلن نتمكن حتى من تأمين حاجاتنا المنزلية فراتبي التقاعدي وراتب زوجي لا يكفيان شيئا، مبلغ 130 ألف ليرة، ماذا يفعل هذه الأيام؟”.

الحوالات تنعش المجتمع

لا تقتصر منافع الحوالات على أهالي المغتربين أو اللاجئين، بل تتعدى هؤلاء لتطال المجتمع بشكل عام، فأصحاب المحال التجارية على رأس المستفيدين، وأصحاب السرافيس والتكاسي وغيرهم، كل يستفيد بحسب طبيعة عمله.

عبد المجيد الحسين، صاحب سوبرماركت في حماة، يتحدث إلى “الحل نت”، عن منافع الحوالات على أصحاب الفعاليات التجارية، قائلا، “هناك فرق كبير بين عمليات الشراء بين الأهالي، فمثلا الناس الذين يعيشون بالاعتماد على الدخل المحلي فقط يحسبون ألف حساب قبل شراء أي شيء، إضافة إلى أن ما يشترونه يكون بكميات محدودة وفي معظم الأحيان يكون الشراء بالدَّين، لكن الناس الذين لديهم أبناء مغتربين وضعهم مختلف إلى حد كبير، فهم يستفيدون من الحوالات التي تصلهم من أبنائهم، فمثلا الحوالة بقيمة 200 دولار تساوي حوالي مليون ليرة لذلك فهم قادرون على الشراء بشكل مريح، بينما لا يتجاوز راتب الموظف الجيد مبلغ 200 ألف، وهذا المبلغ عند تقسيمه على الاحتياجات لا يكفي لشيء”.

أما أبو أحمد، سائق تكسي في دمشق، يتحدث إلى “الحل نت”، قائلا،” أعمل على تكسي في دمشق منذ 20 عاما، الأوضاع في السنوات الأخيرة أصبحت سيئة جدا، فكل شيء ارتفع سعره، ونحن كأصحاب التكاسي نعاني من رفع سعر البنزين، لذلك ارتفعت الأجرة في الفترة الأخيرة كثيرا، وأغلب الناس باتوا يفضلون السرافيس والنقل الداخلي على الرغم من ازدحامها وقلتها، ولكن أكثر الأشخاص الذين يركبون التكاسي، الذين لديهم أبناء مغتربين فوضعهم يسمح لهم بذلك، وهذا ما ينعش عملنا قليلا أما الموظف العادي أو المواطن العادي فلا يركب التكسي إلا في حالة الشديد القوي”.

هل تتحسن نسب الحوالات عبر الأقنية الرسمية؟

بحسب تقرير لصحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الخميس، تداول الكثير من الخبراء والمتابعين للوضع الاقتصادي، توقّعات تفيد بتحسن نسب الحوالات الخارجية عبر الأقنية الرسمية بعد أن أصدر مصرف سوريا المركزي، يوم الاثنين الماضي، قرارا بتعديل سعر صرف الدولار للحوالات ليصبح 3000 ليرة، معتبرين أن ذلك سيؤدي إلى كسب شريحة جيدة من الناس وبالتالي سيضخ نسبة كبيرة من العملات الأجنبية في الأسواق.

لكن وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، بينت أن التأمّلات يجب أن تكون ضعيفة في تحسن حجم الحوالات عبر الأقنية الرسمية، لأن سعر الصرف الحر ما زال أعلى بكثير من السعر الرسمي، لافتة إلى أن مشكلة التحويل عبر السوق السوداء ستبقى قائمة لأن المواطنين الذين ترد إليهم حوالات خارجية، والمستثمرين الذي يريدون إرسال حوالات من الخارج لن يقبلوا بدفع هذا الفارق بين السعرين مهما كانت العقوبات، والإجراءات الأمنية والقانونية قوية.

وأشارت عاصي، إلى أن المطلوب لجذب حوالات خارجية عبر الأقنية الرسمية، أن يحدد مصرف سوريا المركزي، سعرا مقاربا بشكل كبير للسوق الموازية، وخاصة أن حجم الحوالات التي تصل إلى مصرف سوريا المركزي، في ظل انخفاض السعر قليل جدا، وأن الحوالات في كل دول العالم التي لديها عمالة خارجية مثل سوريا، ومصر وتحوّل إلى ذويها في الداخل أموالا أو تشتري أصولا، تعتبر من المصادر الدولارية، التي قد تكون الأهم فمثلا في مصر، تعتبر هذه المصادر أهم من القطع الوارد عن طريق التصدير.

وتساءلت عاصي، عن الحكمة والفائدة وراء عدم اتخاذ مثل هذا القرار رغم أهميته، إذ أن انخفاض سعر الحوالات عبر الأقنية الرسمية، أدى إلى فقدان مصدر مهم من المصادر الدولارية، وعدم جذب للاستثمارات لأن أي مستثمر عندما يرغب بتحويل أمواله لوضعها في أي مشروع سيخسر أكثر من 30 بالمئة، مشيرة إلى أن تشجيع الاستثمار لا يكون فقط بالتصريحات والكلام، وإنما يجب أن يكون بتأمين بيئة تشريعية واقتصادية ونقدية مستقرة، حيث أن التذبذب يُعد أمراً ليس لمصلحة الاستثمارات مطلقا.

اعتبرت عاصي، أن التحويل عبر سماسرة ووسطاء في السوق السوداء له وجهان، أولهما تراجع مصادر العملات الأجنبية وهذا الأمر كارثي على الإنفاق الحكومي وقدرة الدولة على الصمود والنهوض اقتصاديا، إضافة إلى تنشيط السوق السوداء وخاصة أنه تم السماح قبل عدة أشهر لمكاتب الصرافة بالتصريف بمبلغ قريب من السوق السوداء، أي إن معظم الحوالات الخارجية ستكون لمصلحة هذه المكاتب.

هل ينافس المركزي على الحوالات؟

بحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”، فإن نحو 13 مليون سوري، داخل سوريا يعيشون في ظل أوضاع اقتصادية صعبة للغاية، ولذلك يلجأ معظم هؤلاء إلى ذويهم في دول اللجوء والاغتراب لدعمهم بمبالغ مالية شهرية لا تتجاوز في أغلب الأحيان 100 دولار، وهو ما يعتبر مبلغا بسيطا لكنه جيد لمن هو داخل سوريا بعد تحويله لليرة، وحسب دراسات فإن نحو 70 بالمائة، من الحوالات الواردة إلى سوريا تأتي من دول الجوار الخمسة، بينما ما تبقى من بقية دول اللجوء وخاصة الأوربية.

سوريون يتسوقون في أحد أسواق دمشق “وكالات”

ونقل التقرير عن خبراء اقتصاديين، أنه على المصرف المركزي تعديل سعر الصرف للحوالات المالية وغير ذلك فهو الخاسر، مضيفا أن كل الناس تقوم بالتحويل عن طريق قنوات غير شرعية، وبهذا يترك المصرف المركزي ليجعل من يقوم بالتصريف بشكل غير قانوني بالاستفادة.

وأوضح الخبراء، أنه ليس من المعقول أن يخسر المواطن ثلث مبلغ حوالته المالية وهو لديه إمكانية لاستلام المبلغ كاملا، وطالبوا بأن يعدل المصرف المركزي سعر الصرف للحوالات المالية ليكون هو المستفيد.

ولكن خبراء اقتصاديون فسّروا لـ”الحل نت”، عدم قدرة المصرف المركزي على المنافسة، فسعر الصرف يعتمد على حاجة السوق المحلية للاستيراد والدفع بالعملة الأجنبية “الدولار”، وعلى حاجة السوق الخارجية للدفع مقابل البضائع السورية المصدرة، السوق السورية تفتقر لمعظم المواد وتستورد بكميات كبيرة، لذلك من صالح البنك المركزي تحويل العملات الأجنبية بسعر صرف منخفض وأقل من سعر صرف السوق السوداء، وبهذا يكسب فرق سعر الصرف وبيع العملة الأجنبية بسعر منخفض، هذا من وجهة نظر اقتصادية.

بينما ما يحدث في سوريا مخالف للقانون الاقتصادي هذا، ففرق سعر الصرف يستفيد منه “حيتان” السوق والمسؤولين الفاسدين، لذلك من مصلحة هؤلاء شراء الدولار بسعر منخفض بحجج مختلفة منها الاستيراد، والتجارة الخارجية، وحقيقة الأمر هو جمع ثروات من هذه العملية.

لذلك فإن قرار البنك المركزي السوري ليس بيده، أي أن هناك فاسدين يتحكمون بقرارات مصيرية في الحكومة، ومن هنا لا يمكن للمصرف المركزي المنافسة في موضوع الدولار الخاص بالحوالات المالية.

قد يهمك:بعد تراجع قيمة الليرة السورية.. البنك المركزي يعدّل شروط الحوالات

الحوالات شريان الحياة وفسحة التنفس الاقتصادي المتبقي للكثير من السوريين، الذين يئنون تحت وطأة التدهور الاقتصادي وارتفاع الأسعار، لذا لن يجازف أي سوري مهما حدث باستلام حوالته عن طريق أي مصرف رسمي، أو مكتب مرخّص ليتعرض للخسارة في قيمتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.