تريليونات الدولارات من الخسائر التي تكبدها العالم خلال العقد الماضي نتيجة التغيرات المناخية، وفي ضوء هذه الخسائر، حذر مستثمري العقارات من تجاهل التغيرات المناخية على مستقبل الاستثمار العقاري، حيث تسببت 40 كارثة طبيعية العام الماضي من العواصف والأعاصير والحرائق وغيرها، في خسائر تُقدر بمليار دولار في كل مرة، وفق بحث أجرته شركة التأمين ” أي أو إن”.

من ناحية أخرى، يتسبب قطاع العقارات بدوره في إلحاق الضرر بالمناخ أيضا، من حيث أنه سبب رئيسي لظاهرة الاحتباس الحراري، كما أن تغير المناخ له آثار سلبية على قطاع العقارات، حيث يفرض تغييرات في متطلبات المستأجرين والمستثمرين، وتتغير قيمة الأصول والثروات، وأساليب تطوير وتشغيل العقارات بسبب التغير المناخي، أي أن عملية التأثير تبادلية. ومن هنا يجدر السؤال عن السبل الممكنة والطرق التي يمكن أن يتبعها سوق العقارات لمواجهة مخاطر تغير المناخ، والمعايير الأكثر صرامة لتنفيذ المشاريع العقارية التي لا تضر بالبيئة وفي نفس الوقت تكون صديقة للبيئة.

خسائر بفعل تغير المناخ

بحسب بعض الخبراء، يؤثر تغير المناخ على كل جانب من جوانب صناعة العقارات، من ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الطلب على المساكن في مناطق معينة، ففي الولايات المتحدة الأميركية، أدى الاحترار العالمي إلى زيادة نشاط الأعاصير الساحلية على مدار العشرين عاما الماضية وارتفاع مستوى سطح البحر، مما أدى إلى تدمير الممتلكات التي تقدر بملايين الدولارات على طول الساحل الغربي للبلاد. إجمالا، تُظهر التوقعات العالمية أن الفيضانات الساحلية تهدد بغمر منازل 300 مليون شخص حول العالم بحلول عام 2050.

بحسب الوكالة الدولية للطاقة، هناك ما قيمته 7.5 تريليون دولار من العقارات يمكن أن “تنقطع بها السُبل”، حيث ستشهد هذه الأصول عمليات تخفيض كبيرة في القيمة نظرا لمخاطر المناخ.

أبنية صديقة للبيئة “إنترنت”

وبالتالي، دفعت هذه الخسائر والمخاطر المتوقعة المستثمرين العقاريين والمطورين إلى المطالبة بإعادة النظر في عملية التخطيط لإنشاء بنية تحتية تحد من آثار تغير المناخ.

وفي الواقع، يأخذ المستثمرون الآن هذه المخاطر في الاعتبار عند تحديد مكان شراء أو بناء مشروعهم التالي، كما وصفه دراسة لـ”معهد الأرض الحضرية”، وهو منظمة مسؤولة عن استخدام الأراضي.

وفق “بلومبرغ”، فإن شركات الاستثمار العقاري التي شاركت في هذه الدراسة أكدت أن القطاع ما زال متأخرا في التنبؤ بمخاطر المناخ، ولكن هذا لا يعني تجاهل تزايد حدة ومعدلات تكرار التأثيرات التي تسبب في الأعاصير والجفاف والفيضانات والاحترار العالمي وحرائق الغابات والانزلاقات الأرضية.

من جانبه يقول الخبير الأكاديمي والخبير الاقتصادي، يحيى السيد عمر، إن هناك بالفعل تهديدات حقيقية وخطيرة تواجه سوق العقارات العالمي نتيجة لتغير المناخ، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن سوق التطوير العقاري هو أحد أهم الأسباب الرئيسية لتغير المناخ، وفي نفس الوقت تتأثر به، حيث أن القطاعات المرتبطة بالتطوير العقاري مثل صناعة الإسمنت والحديد الصلب 11 بالمئة من انبعاثات غاز الكربون، بينما تشكل المباني نفسها 28 بالمئة من الانبعاثات.

وأضاف السيد عمر خلال حديثه لموقع “الحل نت”، “تواجه العشرات من المدن حاليا، مخاطر حقيقية من ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يهدد مئات الآلاف من المباني، وتهدد الأعاصير والفيضانات المباني في المدن الداخلية، كل هذا يزيد من تكاليف الصيانة وتكاليف التأمين، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على قيمة المباني نفسها، من حيث الانخفاض في قيمتها التقديرية، مما يعني خسائر مؤكدة لمطوري وملاك العقارات، بالإضافة إلى التسبب في خسائر على مستوى الاقتصاد الكلي وخسائر اجتماعية.

في حين، قال الباحث الاقتصادي رضوان الدبس، أن هناك العديد من الدول المتأثرة بالتغير المناخي، ومنها شرق آسيا والخليج العربي وأميركا الجنوبية، من حرائق الغابات وتدمير بعض المناطق السكنية نتيجة الحرائق التي حدثت بفعل الاحتباس الحراري، بالإضافة إلى جفاف بعض الأنهار.

ونتيجة لتغير المناخ، من السيول والعواصف والأمطار الغزيرة، خاصة في بعض الأماكن التي نادرا ما تمطر فيها، على سبيل المثال دول الخليج خلال الفترة الماضية، لذا فإن هذه المناطق غير مجدية لتنفيذ مشاريع عقارية التقليدية، أو حتى المباني في هذه المناطق غير صالحة للسكن وغير مرغوب فيها السكن، لجهة أنها معرضة لمخاطر مناخية، على حد تعبير الدبس لـ”الحل نت”.

قد يهمك: شكل المواجهة بين “الناتو” وروسيا بعد إعلان بوتين التعبئة الجزئية؟

ما الإمكانيات؟

الأكاديمي والخبير الاقتصادي، يحيى السيد عمر، قال أن هذا الواقع دفع العديد من كبرى شركات التطوير العقاري بالتفكير في حلول بديلة وفعالة، وهنا تبرز المنازل صديقة البيئة أو كما تسمى بالمنازل الخضراء، والتي تعتمد في خدماتها كالتسخين والتبريد وغيرها على الطاقة البديلة، وعلى الرغم من كون سعر هذه الأبنية يفوق سعر الأبنية التقليدية إلا أنها تحقق وفرا من حيث تكاليف الطاقة.

كما وتقول دراسات صادرة عن البنك الدولي بأن المنازل الخضراء توفر 37 بالمئة من إنفاق الطاقة، وهو ما يعني أن فترة الاسترداد أقل والعائد على الاستثمار أعلى.

في هذا الصدد تسعى العديد من الحكومات على سن قوانين وتشريعات تحفز شركات التطوير العقاري للتوجه لاعتماد المساكن الخضراء، من خلال منح مزايا ضريبية، وتسهيلات مالية، ومنح المشترين قروضا ميسرة لشراء منازل صديقة للبيئة، على حد قول السيد عمر.

على الرغم من الدعم الحكومي والدولي للمنازل الخضراء، إلا أن مساهمتها في إجمالي سوق التطوير العقاري لا تزال متواضعة، حيث بلغت مساهمتها 400 مليار دولار من أصل 5 تريليون دولار، وهي مساهمة منخفضة في الواقع، ولكن، وفق اعتقاد السيد عمر، فمن المرجح في العقود القادمة أن تزداد قيمة هذه المساهمات في سوق التطوير العقاري العالمي.

قد يهمك: القوة الناعمة للملكية البريطانية.. هل تستمر؟

حجم الأضرار

في المقابل، سلطت دراسة أجرتها جامعة كولورادو الضوء على مخاطر استمرار ارتفاع منسوب مستويات البحار، والتي تجعل العقارات تُباع بأقل من سعرها بنسبة 7 بالمئة مقارنة بالعقارات المماثلة في المناطق الساحلية الأكثر حماية.

وبالعودة إلى تقرير “بلومبرج”، فإن مقياس عامل الفيضان الذي تعده “مؤسسة فيرست ستريت” كشف أن قيمة العقارات الكائنة بثماني ولايات على طول الساحل الشرقي الأمريكية فقدت 14.1 مليار دولار من قيمتها بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر منذ عام 2005.

وبحسب استطلاع أجراه موقع “تأجير الممتلكات” البريطاني، فإن أكثر من نصف المُستأجرين في بريطانيا على استعداد لدفع تكاليف إضافية للسكن بمنازل صديقة للبيئة، حيث يفضل 98 بالمئة من المُستأجرين العيش في منزل مُوفر للطاقة، ويرغب 52 بالمئة في دفع 10 بالمئة تكاليف إضافية من أجل القيام بذلك. بينما 8 بالمئة من المُستأجرين على استعداد لدفع 20 بالمئة إضافية إذا كان ذلك يعني أنه يمكنهم استئجار منزل صديق للبيئة.

قد يهمك: ركود اقتصادي عالمي قريب.. هل يحصل؟

الانتقال إلى أماكن آمنة

في السياق ذاته، تتوقع مؤسسة التمويل الدولية، التابعة للبنك الدولي، أن يبلغ سوق العقارات صديقة البيئة حوالي 24.7 تريليون دولار في الاقتصادات الناشئة بحلول عام 2030. وستحظى منطقتا شرق وجنوب آسيا بالحصة الأكبر من هذه الاستثمارات، بقيمة 17.8 تريليون دولار؛ نتيجة الزيادة الكبيرة في معدلات الانتقال إلى المُدن، واستحواذها على نصف سكان الأرض تقريبا.

الباحث الاقتصادي، رضوان الدبس، قال أن سوق العقارات يتجه أكثر من غيره نحو المباني الصديقة للبيئة، ولكن بتكاليف زائدة. حيث قدرت العديد من المنظمات والشركات العقارية العالمية أن تكلفة البناء تزداد من 5-10 بالمئة لتكون مباني صديقة للبيئة، ويعود قرار هذا الإجراء إلى ميزانية الشركات والمستهلكين.

وبالتالي، فإن المسألة محصورة بتكاليف إضافية، وهذا الإجراء موجود ويُنفذ في الدول المتقدمة فقط، أما دول العالم الثاني والثالث فلا وجود لها، وفي الدول العربية وحدها الإمارات هي الدولة الوحيدة من ضمن الدول التي تطبق هذا الأمر.

وحاليا تتجه الدول المتحضرة إلى الأبنية الملائمة للبيئة أي باستخدام مواد أولية مناسبة، مثل الزجاج المُزدوج، وعازل للحائط، وصناديق إعادة التدوير، والمصابيح المُوفرة للكهرباء “أل أي دي”، والعدادات الذكية، وأجهزة تنظيم الحرارة الذكية، والألواح الشمسية، والمراحيض الموفرة للمياه؛ مما يساعد على إبقاء المباني أكثر برودة واستدامة.

وبالتالي، فإن المباني التي تكلف زيادة قدرها 10 بالمئة ولكنها في الوقت ذاته توفر العديد من العوامل المساعدة للبيئة، كما أنها تحافظ على هيكلها دون الحاجة إلى ترميمات لأكثر من 10 سنوات، كما وإذا تمكنت الدول من الوصول إلى ناطحات السحاب، فسيؤدي ذلك إلى تقليل عمليات التبريد والتكييف حيث يوجد زجاج حديث يعزل الرطوبة والحرارة والشمس وكل هذا يؤدي إلى خفض تكاليف الطاقة على سبيل المثال، وبالتالي تقليل المصاريف على المدى الطويل، على حد قول الباحث الاقتصادي، رضوان الدبس.

بحسب تقديرات البنك الدولي، فإن التكاليف التشغيلية للمباني الخضراء أقل بنسبة 37 بالمئة مقارنة بالمباني التقليدية، وتُحقق أقساط بيع أعلى، وعلى الرغم من التوقعات المُتفائلة للبنك الدولي بخصوص العقارات صديقة البيئة، فإن إجمالي حصتها بلغت 423 مليار دولار من أصل 5 تريليونات دولار تم إنفاقها على تشييد المباني وتجديدها في عام 2017.

لكن، البنك الدولي يتوقع أن يتم اجتياز الكثير من العوائق التي تمنع نمو العقارات صديقة البيئة، ومن أهمها انخفاض كفاءة آليات التمويل العقاري في كثير من البلدان الناشئة، وضعف استهلاك السندات والقروض الخضراء التي تدعم الأنشطة مُنخفضة البصمة الكربونية، والبنية التشريعية الضعيفة لقطاعات الطاقة في الاقتصادات الناشئة، والتي لا تتناسب مع متطلبات اتفاقية باريس للمناخ، التي وقعتها 195 دولة، وفق ما نقله “مركز المستقبل” للأبحاث والدراسات المتقدمة، مؤخرا.

قد يهمك: السيسي في قطر.. ما مصلحة الدوحة والقاهرة؟

إجراءات عالمية

بحسب مؤسسة “معيار المباني الخضراء الوطنية” الأميركية، فإن الولايات المتحدة تتصدر القائمة كأكبر سوق للعقارات صديقة البيئة، حيث أضافت 26 مليون متر مربع من العقارات صديقة البيئة في عام 2021، تليها الصين بأكثر من 14 مليون متر مربع، ثم كندا والهند، وتحتل دولة الإمارات العربية المُتحدة المركز الثامن عالميا، وهي الدولة الشرق أوسطية الوحيدة بقائمة العشرة الكبار.

والعديد من دول العالم تسعى لسن تشريعات وإقرار حوافز لدعم الإنشاءات صديقة البيئة. وسنغافورة على سبيل المثال أطلقت مشروعا قيمته 73 مليار دولار أميركي لتجهيز البلاد على مدار 10 سنوات لمواجهة أسوأ سيناريوهات الفيضانات نتيجة الاحتباس الحراري.

وفي الإمارات يوجد نحو 63.96 مليون متر مربع من المساحات التي جرى بناؤها وفق لوائح المباني الخضراء، وهذا بفضل أنظمة التصنيف المحلية. كما وأن أبوظبي يخطط لاستثمارات بقيمة إجمالية تبلغ 600 مليار درهم (حوالي 163.5 مليار دولار) حتى منتصف القرن الحالي لتحقيق هدف خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 70 بالمئة، وتحسين كفاءة الطاقة بنسبة 40 بالمئة.

وعليه، فإن الأمر يتعلق بسياسات وميزانيات الدول وصرامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة بخصوص التغير المناخي، وكذلك معايير الشركات العقارية المتخصصة في هذا الشأن، ومدى اعتمادها وتطبيق المعايير والقوانين الخاصة بالمشاريع العقارية الصديقة للبيئة.

قد يهمك: أوكرانيا.. حرب ساخنة في الشتاء تهدد اقتصاد موسكو

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.