مع قيام البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم برفع أسعار الفائدة في وقت واحد استجابة للتضخم، قد يتجه العالم نحو ركود عالمي في عام 2023 وسلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية التي من شأنها أن تستمر في موضعها، وهذا بدوره يقود نحو تراجع التصنيع عالميا.

على أبواب الركود

منذ بداية العام الجاري، أدى التدهور السريع في آفاق النمو إلى جانب ارتفاع التضخم وتشديد شروط التمويل، إلى إشعال نقاش حول إمكانية حدوث ركود عالمي، وهو انكماش في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. 

كانت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ترفع أسعار الفائدة هذا العام بدرجة من التزامن لم نشهدها خلال العقود الخمسة الماضية، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر حتى العام المقبل، ومع ذلك، فإن المسار المتوقع حاليا لزيادات أسعار الفائدة وإجراءات السياسة الأخرى قد لا يكون كافيا لإعادة التضخم العالمي إلى المستويات التي كانت عليها قبل عام 2020، حيث يتوقع المستثمرون أن ترفع البنوك المركزية معدلات السياسة النقدية العالمية إلى ما يقرب من 4 بالمئة حتى عام 2023، بزيادة تزيد عن نقطتين مئويتين عن متوسطها في عام 2021.

في منتصف أيلول/سبتمبر الجاري، قال أيهان كوس، نائب رئيس البنك الدولي المعني بالنمو العادل والتمويل والمؤسسات، إنه “من المرجح أن يكون التشديد الأخير للسياسات النقدية والمالية مفيدا في الحد من التضخم”. ولكن نظرا لكونهما متزامنين إلى حد كبير، يمكن أن يؤدي كل منهما إلى تفاقم تشديد الأوضاع المالية وزيادة حدة تباطؤ النمو العالمي. ويحتاج صانعو السياسات في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية إلى الاستعداد لإدارة التداعيات المحتملة من تشديد السياسات المتزامن عالميا.

من جهته، ذكر بيير أوليفييه جورنشاس، المستشار الاقتصادي ومدير الأبحاث في صندوق النقد الدولي، أن “التوقعات أصبحت سوداوية بشكل كبير منذ نيسان/أبريل الفائت، وربما يهوي العالم قريبا إلى حافة ركود عالمي، بعد عامين فقط من الركود الأخير”.

التصنيع العالمي يتقلص

الاقتصادات الناشئة والمتقدمة تشهد على حد سواء تراجعا في قطاعاتها التصنيعية، والتي أصبحت أقل أهمية بالنسبة للدخل القومي. في الثمانينيات، شكل الإنتاج الصناعي ربع الناتج المحلي الإجمالي الوطني أو أكثر حول العالم، لكن هذه الحصة كانت في انخفاض مستمر، هذا وفقا لبيانات البنك الدولي والأمم المتحدة.

الاقتصاد الصيني المضطرب يثير بعض المخاوف، إذ تكشف البيانات الواردة من موقع “كيكسن” للأعمال التجارية الصينية أنه مقارنة بالشهر السابق، انخفضت مبيعات الصناعة الصينية في آب/أغسطس 2022، وهناك قضية أخرى تتعلق بأداء الدول التى يصدر اقتصادها عادة الكثير من المنتجات والأجزاء إلى الصين. فعلى سبيل المثال، انخفض إنتاج كوريا الجنوبية طوال الصيف نتيجة لانخفاض الشحنات إلى الصين.

كما أدى تشديد السياسة النقدية إلى زيادة كثافة الاضطرابات الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة وتدهور الاقتصاد الصيني، وقد ارتفع التضخم نتيجة لزيادة الطلب على السلع خلال العامين الماضيين، مما وضع ضغوطا أكبر على المصانع والسفن والموانئ.

في المملكة المتحدة، انخفض نشاط التصنيع إلى 52.1، وهو أدنى مستوى منذ حزيران/يونيو 2020، ووفقا لتقدير، روب دوبسون، الاستشاري في شركة التداول “إس أند بي جلوبال”، فإن القطاع قد تضرر بسبب الشكوك المتزايدة في نشاط السوق، وأزمة تكلفة المعيشة، والحرب في أوكرانيا، وقضايا الإمداد والضغوط التضخمية، كلها ضربت الطلب على السلع في نفس الوقت.

وفي الولايات المتحدة، انخفضت قراءة “ستاندرد آند بورز” العالمية إلى 52.2 من 52.7 في حزيران/يونيو الفائت، وهي أدنى قراءة في عامين، حيث انخفض الإنتاج والطلبات الجديدة على خلفية ضعف الطلب ومشاكل سلسلة التوريد وارتفاع التضخم. وأظهرت قراءة منفصلة لمؤشر مديري المشتريات من معهد إدارة التوريد، وهو مقياس يراقبه المستثمرون عن كثب، انخفاض النمو إلى 52.8 من 53.

لا أحد يستطيع أن يتجنب الركود

وفقا لمجلة “الإيكونوميست”، ساهمت التبعات الناجمة عن الصراع في أوكرانيا في استمرار الأسعار المرتفعة في مختلف أنحاء العالم، لذلك تتخذ البنوك المركزية إجراءات صارمة، ولذلك يشير البنك الدولي؛ إلى أن الوضع الحالي يشبه الركود العالمي في عام 1982.

إن الهبوط الكبير في النشاط الاقتصادي الذي يطال كل القطاعات الاقتصادية، هو الركود الاقتصادي، ووفقا لخبراء الاقتصاد، فإن الاقتصاد العالمي ليس في حالة ركود بالفعل، فقد عانى التصنيع العالمي في الأعوام 2015-2016 وفي 2019، وفي كلتا الحالتين تجنب الاقتصاد الانكماش.

ومن المتوقع أن يصل التضخم هذا العام إلى 6.6 بالمئة في الاقتصادات المتقدمة، و9.5 بالمئة في اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، وهي توقعات تصاعدية قدرها 0.9 و0.8 نقطة مئوية على التوالي. ومن المتوقع أن تظل مرتفعة لفترة أطول.

يرى البنك الدولي، أن الرهان الآمن هو أن الظروف ستزداد سوءا قبل أن تتحسن. لكن إلى أي مدى أسوأ؟ يقدم البنك الدولي ثلاثة سيناريوهات للعام المقبل 2023. يتماشى خط الأساس مع التوقعات الحالية للإجماع على النمو العالمي، والتي تبلغ حوالي 1.5 بالمئة، ولكنها على الأرجح لا تتماشى مع التخفيض المرغوب من قبل البنوك المركزية للتضخم، وهذا بالتالي سيناريو لا يدعو للتفاؤل. 

السيناريو الثاني، هو الانكماش الحاد؛ حيث يتعين على البنوك المركزية أن تعمل بجدية أكبر لوقف التضخم، لكنها لا تزال تفشل في استعادة استقرار الأسعار، ويتباطأ النمو العالمي إلى 0.8 بالمئة. 

أما السيناريو الثالث، فهو الذي يؤدي فيه التشديد النقدي الكبير والمتزامن إلى حدوث ركود عالمي، بحيث يتقلص الناتج العالمي بنحو 0.4 بالمئة.

وقد يكون الاحتمالين الأخيران مؤلمين بالنسبة للدول التي لا تزال تتعافى من الركود السابق، إلا أن صانعو السياسة الاقتصادية سيحتاجون، إلى المشاركة في مكافحة التضخم لا سيما من خلال اتخاذ خطوات قوية لتعزيز العرض العالمي، عبر تخفيف قيود سوق العمل، وزيادة مشاركة القوى العاملة وتقليل ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى زيادة المعروض العالمي من السلع، وتعزيز شبكات التجارة العالمية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.