خلال كلمتها أمام الجلسة العامة للاتحاد الأوروبي، في منتصف أيلول/سبتمبر الجاري، رسمت رئيسة الوزراء الفنلندية، سانا مارين، صورة قاتمة للتحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك حرب أوكرانيا، وأزمة الطاقة المتفاقمة، وارتفاع التضخم، والركود المحتمل بشكل متزايد، والمالية العامة المتوترة، والكوارث الطبيعية، والتراجع الديمقراطي.

فبعد إعلان وجود قوة قاهرة على إمدادات الغاز، تحولت روسيا نحو ابتزاز مفتوح لأوروبا، سعيا لتحويل أزمة الطاقة إلى سلاح قوي للتأثير على الحكومات الغربية، وسيكون للتأثير على ألمانيا القريبة منها تأثير غير مباشر على جميع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فمع اقتراب فصل الشتاء أصبحت الدول الأوروبية أكثر عرضة لابتزاز “الغاز” الروسي.

في المقابل، على الرغم من الأزمات السياسية العديدة التي ابتليت بها منطقة الشرق الأوسط، لا تزال المنطقة تتمتع بالقدرة على أن تصبح مستقلة في مجال الطاقة. يعد منتدى “غاز شرق المتوسط” ​​الذي شكلته قبرص ومصر وفرنسا واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين في عام 2019، بالإضافة إلى قوة دول التعاون الخليجي، مؤشرا مشجعا على أن دول المنطقة يمكن أن تتحد لتشكيل استراتيجية طاقة طموحة. فهل يمكن لمثل هذه الاستراتيجية أن تحول هذا الجسم الشرق أوسطي إلى مورد للطاقة النظيفة لأوروبا وتقلل من اعتماد الغرب على الإمدادات الروسية.

أوروبا أمام ابتزاز بوتين

تجميد الأسعار، تأميم الشركات، مساعدة الأسر محدودة الموارد، ترشيد استهلاك الطاقة وغيرها، كلها حلول تلجأ إليها دول الاتحاد الأوروبي لدعم العائلات والشركات لمواجهة أزمة الطاقة وارتفاع الأسعار، ومع ذلك فإن مخزون الاتحاد من احتياطيات الغاز لن يكون كافيا لتغطية فصل الشتاء المقبل، إنما يغطي احتياجات أوروبا لشهرين أو ثلاث على أبعد تقدير، وفقا لخبير الطاقة، فيليب تشارلز.

الغاز المستورد لا يستعمل أساسا لإنتاج الكهرباء في أوروبا لأن أغلبه يتم استغلاله في التدفئة بنسبة 50 بالمئة، و30 بالمئة بالصناعة ثم 20 بالمئة لتوليد الكهرباء، لكن قرار روسيا بوقف ضخ الغاز إلى أجل غير مسمى، وضع أوروبا أمام معضلة غير مسبوقة. ويُتوقع ارتفاع قيمة فواتير الطاقة بأوروبا بمقدار تريليوني يورو بحلول أوائل العام المقبل.

يقول المحلل السياسي الكويتي، عمر الساير، لـ”الحل نت”، إن من خلال هذه الإجراءات ، تحاول روسيا بدء عملية زعزعة الاستقرار في أوروبا والبداية من ألمانيا، ومن الواضح أن أهداف روسيا هي زعزعة استقرار أوروبا ككل، فتكتيك ابتزاز الدول التي تعتمد على الغاز الروسي هو جزء من استراتيجية الحرب الروسية.

على الرغم من أن موسكو لديها سجل في تقييد تدفق الغاز إلى أوروبا كجزء من النزاعات السابقة مع أوكرانيا، بما في ذلك في 2005-2006 و2009 و2017، إلا إن استراتيجية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لها أهداف واضحة تتمثل في إضعاف حلفاء كييف، وربما قلب دول الاتحاد الأوروبي بعضها على بعض، وفق ما يراه الساير.

وهذا يدعمه تصريح وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، بأن الكرملين يستخدم الغاز “كسلاح”، معترفا بأن بلاده ارتكبت “خطأ سياسيا فادحا” في اعتمادها المفرط على الإمدادات الروسية. حيث استوردت ألمانيا 59.2 مليار متر مكعب من الغاز عبر “نورد ستريم 1” في عام 2021، وكانت تأمل في مضاعفة ذلك عبر خط أنابيب جديد “نورد ستريم 2″، لكنها علقت تلك الخطط قبل أيام من غزو أوكرانيا.

الحلول في الشرق الأوسط

فيما يتعلق بمسألة تهديد روسيا لإمدادات الطاقة الأوروبية، بحسب الساير، يمكن معالجة ذلك من خلال حلول تشمل الشرق الأوسط بأكمله، وخاصة منتجي الطاقة الرئيسيين، فعلى سبيل المثال، نظرا لأن الإمارات العربية المتحدة تمتلك احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي، فإن تعديلا طفيفا في أسعار الغاز الطبيعي وهياكل تعريفة قطاع الطاقة، سيكون قادرا على حل أخطر المشكلات التي تواجه الدول المنتجة له بما فيها الإمارات وسعيها نحو التصنيع والتنويع.

ويبدو أن الاستراتيجية في وقف حرب الطاقة التي يشنها بوتين، قد بدأت بالفعل في الإمارات، إذ أعلنت شركة “أدنوك”، اليوم الاثنين، عن توقيع اتفاقية بيع وشراء للاستحواذ على حفارتين بحريتين متطورتين ذاتيتي الرفع، حيث تعد عملية الاستحواذ على الحفارتين الجديدتين التي تستند على برنامج الشركة لتسريع جهود توسعة أسطولها وخطتها الطموحة للنمو والتطور، رابع عملية من نوعها تؤكدها الشركة خلال الأشهر الماضية.

وفي هذا الإطار قال عبدالرحمن الصيعري، الرئيس التنفيذي لشركة “أدنوك”، “يأتي هذا الاستحواذ ضمن جهود أدنوك للحفر المستمرة لدعم استراتيجيتها للنمو والتوسع السريع لتحقيق هدفها الطموح لرفع سعتها الإنتاجية من النفط والغاز، باعتبارها تمتلك أسطول حفارات بحرية ذاتية الرفع من بين الأكبر في العالم، والذي سيسهم بشكل كبير في تعزيز إيراداتها. فيما بلغ إجمالي تكلفة الحفارتين الجديدتين 514.22 مليون درهم وستضافان إلى أسطول حفارات الشركة، وسيبدأ تشغيلهما بحلول نهاية عام 2022.

وجاء إعلان الشركة، بعد توقيع الإمارات وألمانيا، أمس الأحد، عن إبرام اتفاق بين شركة “أدنوك” وشركة “آر دبليو إي” الألمانية، تصدر “أدنوك” بموجبه أول شحنة من الغاز الطبيعي المسال لتشغيل محطة “آر دبليو إي” العائمة لاستيراد الغاز، وحجز شحنات إضافية من الغاز.

ومن الواضح وفقا للساير، فإن الطريق بات واضحا في دول الخليج العربي والشرق الأوسط، لبناء الثقة من أجل تحقيق تقدم يبدأ من نهاية 2022 بين أوروبا والشرق الأوسط؛ للاتحاد لمكافحة أوليغارشي الطاقة من أجل بناء تحالف قوي يدعم استقلال الطاقة في أوروبا.

ماذا تعني أزمة الطاقة العالمية الحالية؟

بالإضافة إلى التسبب في أزمة إنسانية خطيرة، كان للغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا آثارا بعيدة المدى على نظام الطاقة العالمي، مما أدى إلى تعطيل أنماط العرض والطلب وتقسيم العلاقات التجارية طويلة الأمد.

أدت أزمة الطاقة العالمية واضطراب السوق الناجم عن تصرفات روسيا إلى تعقيد الصورة بشكل كبير للحكومات والشركات والمستثمرين أثناء محاولتهم تحديد مشاريع الطاقة التي يجب تشجيعها أو تطويرها أو تمويلها.

ووفقا لإفادة المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، فقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الطاقة للعديد من المستهلكين والشركات في جميع أنحاء العالم، مما أضر بالأسر والصناعات والاقتصادات بأكملها، وهو الأكثر خطورة في العالم النامي حيث لا يستطيع الناس تحمل تكاليفها. ويهدد بعرقلة الجهود المبذولة لمواجهة التحدي العالمي الحرج المتمثل في الحد من انبعاثات الاحتباس الحراري العالمية بسرعة كافية لتجنب تغير المناخ الكارثي.

وفي الوقت نفسه، طبقا لبيرول، فيبدو من المرجح أن يؤدي الغزو الروسي لأوكرانيا إلى انخفاض كبير وطويل الأمد في إمدادات الطاقة الروسية، وعلى الأخص إلى أوروبا، بعد أن كانت روسيا أكبر مصدر للنفط والغاز الطبيعي في العالم في عام 2021. وقد أدى ذلك إلى اضطراب أسواق الطاقة وخلق مخاطر كبرى في مجال أمن الطاقة وفقر الطاقة في جميع أنحاء العالم اليوم.

ويرى بيرول، أن هناك العديد من الطرق للاستجابة لأزمة الطاقة الفورية، منها الاستثمار لتعزيز أمن الطاقة، عبر التوجه إلى بعض البنية التحتية الجديدة لتسهيل تنويع الإمدادات بعيدا عن روسيا. على سبيل المثال، تتطلع العديد من الدول الأوروبية إلى تثبيت محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال، وبتخطيط استثماري دقيق، وهناك فرص لها لتسهيل الواردات المستقبلية من الهيدروجين أو الأمونيا عبر دول منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.

هذه الديناميكية الجديدة، تسلط الضوء على الفرص التي يوفرها الشرق الأوسط الغني بالطاقة كشريك حاسم للاتحاد الأوروبي، على الأقل في المدى المتوسط، حيث يمكن أن يساعد في حل أزمة الطاقة، وبرز ذلك بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن شراكة استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي في أيار/مايو الفائت، ما يوحي بأن دول الخليج ودول الشرق الأوسط سيبرزون كشركاء رئيسيين “لإنقاذ” أوروبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة