سبعة آلاف دولار بالنسبة لسجى البردان المنحدرة من ريف درعا (جنوب سوريا)، تعني الفرق بين الموت البطيء في سوريا والحرية نحو الجنة الأوروبية الموعودة، خصوصا بعد إعلان الحكومة السورية إعادة طباعة جوازات السفر التي كانت معضلة مؤخرا وعائقا أمام العديد من المواطنين، لكن هذه الرحلة ليست سهلة فهي بالإجبار يجب أن تتم عبر “قوارب الموت”.

بعد الذروة الهائلة في عام 2015، تناقص عدد الأشخاص الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط في اتجاه إيطاليا ولكن منذ بداية عام 2022، ارتفع عدد الذين يحاولون القيام بالرحلة مرة أخرى وأصبحت الرحلات أكثر فتكا، وفقا لـ “المنظمة الدولية للهجرة”.

“الأمم المتحدة” ومسؤولون ليبيون، يقولون إنهم يشهدون الآن أكبر زيادة في الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا منذ عام 2011، فبينما يتم الترحيب بملايين الأوكرانيين الفارين من الحرب في وطنهم بأذرع مفتوحة في بلدان جميع أنحاء أوروبا. تدفع المهاجرات القادمات من سوريا للمهربين، ويتكدسن في قوارب مكتظة للقيام بالرحلة عبر البحر الأبيض المتوسط والتي قد تنتهي بالموت. لكن كيف تدار تدفقات الهجرة إلى أوروبا، وما هي الاستراتيجيات التي تم تنفيذها وما هي النتائج؟

تصوير الإعلام السوري في الفترة الأخيرة بالعيش الرغيد للمغتربين في أوروبا، هو أحد الأسباب التي ساهمت في ازدياد الطلب على الهجرة من سوريا، بحسب حديث الباحث الاجتماعي في مركز “كولومبيا للدراسات” وائل بركات، لـ “الحل نت” خصوصا أن الدعاية كانت، “في أوروبا يمكنك تحقيق أحلامك أسرع عشر مرات من سوريا، هنا ترهق نفسك بالعمل 12 ساعة في اليوم مقابل راتب زهيد”.

العوامل الأخرى غير الاقتصادية التي يعتقد بركات أنها وراء السماح للنساء والأطفال في ركوب “قوارب الموت”، هي من الناحية السياسية، إذ يشير إلى أن ما وراء ذلك، هو رد دمشق على المجتمع الغربي والعربي بعصا المهاجرين، حيث يقرأ هذا بأنه رد على عدم إعادتها للحضن العربي والجامعة العربية، وأيضا هو تهديد لأوروبا التي تكافح حاليا ضد الغزو الروسي بأمنها، لأنها أعادت التأكيد مؤخرا على استمرار دعمها للعملية السياسية في سوريا، ورفضها لاستمرار نهج الحكومة السورية.

تكاليف السفر

مثل البلدان الأخرى في جنوب أوروبا، تعد إيطاليا نقطة وصول للمهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط، لكن تنظيم تهريب المهاجرين إلى إيطاليا من ليبيا هذه المرة والطرق التي يتبعها المهاجرون وتكاليف وتنظيم نقلهم من وطنهم إلى إيطاليا عبر ليبيا، كانت غريبة بعض الشيء.

سجى البردان التي تبلغ من العمر 35 عاما، أم لثلاثة أطفال ومنفصلة عن زوجها منذ أربعة أعوام، تقول لـ “الحل نت”، إن القانون السوري أقر لها 20 ألف ليرة سورية فقط كنفقة لها، وهذه بالكاد تكفي لوجبة فطور واحدة في الوقت الحالي، ما أجبرها على الاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي لتجد ضالتها، حسب وصفها.

من دون سابق إنذار، عندما علمت البردان أن دمشق فتحت الباب أمام مواطنيها للحصول على جواز السفر، باشرت باستخراج خمسة نسخ لها ولأولادها على الرغم من أن هذه الخطوة كلفتها بيع البيت الوحيد الذي يأويهم، فهي مضطرة بعد أن تفاوضت مع مهرب في ليبيا، على جمع مبلغ 26 ألف دولار أميركي أي ما يعادل محليا 117 مليون ليرة سورية.

البردان لجأت إلى مكتب “جدوى” وهو مكتب يعمل على استخراج جوازات السفر في العاصمة دمشق، ولكن بقيمة أعلى من التي أقرتها وزارة الداخلية السورية، حيث يأخذ المكتب ما مقداره 750 ألف ليرة سورية على كل شخص يريد استخراج جواز سفر خلال ثلاثة أيام، رغم أن وزارة الداخلية السورية أقرت في الأول من أيلول/سبتمبر الجاري، أن رسوم إصدار جواز السفر “الفوري” 500 ألف ليرة سورية، بدلا من 300 ألف ليرة سورية، حيث يتيح ذلك فرصة الحصول على جواز دون الحاجة إلى حجز دور عبر “المنصة” الإلكترونية المخصصة لجوازات السفر.

من أجل رغبتها في الوصول إلى ليبيا بأسرع وقت حيث ينتظرها هناك مجموعة من النساء والأطفال السوريين للإبحار نحو إيطاليا في قارب واحد، لجأت البردان لمكتب “جدوى” وذلك لأن التسجيل عبر المنصة أو الذهاب إلى مقر وزارة الداخلية لاستخراج الجواز لا فائدة منه، فهذا المكتب صمم لاستغلال الناس بالاتفاق مع المسؤولين، وفق حديثها.

إحصائية لوزارة الداخلية السورية، ذكرت بأن 50 ألف سوري غادروا مناطق سيطرة الحكومة خلال 6 أشهر، من أصل 700 ألف حصلوا على جواز سفر في المدة ذاتها، وتتضمن الإحصائية وفق ما بينه مدير إدارة المعلوماتية والاتصالات في وزارة الداخلية السورية، عبد الرحمن عبد الرحمن، إصدار 113 ألف جواز في شهر حزيران/ يونيو الفائت.

الصراع للوصول إلى الفردوس الأوروبي

“سمعت صراخ الناس والأمواج تتلاطم، شعرت وكأنني على وشك الغرق”، هذه الحالة هي وصف لكل من ركب القارب مع البردان، حيث تقول صديقتها بشرى النعيمي التي تعرفت عليها في ليبيا، لـ “الحل نت”، إنه رغم معرفتها بالمخاطر وعدم معرفتها السباحة، شعرت أنه ليس لديها خيار آخر سوى الإبحار نحو أوروبا.

اليأس والأمل دفعا بالمهاجرات السوريات مثل البردان والنعيمي، إلى ركوب “قوارب الموت” في ليبيا، لذلك دفعن مدخراتهن للمهربين. 7 آلاف دولار لكل شخص يريد الصعود إلى قوارب الصيد القديمة والتي كانت ممتلئة بالناس لدرجة أن النعيمي، ثنت ركبتيها على صدرها من شدة الازدحام في القارب.

حتى تاريخ 22 أيلول/سبتمبر الجاري، وبحسب ما حصل عليه “الحل نت” من مكتب السورية للطيران الذي ينظم الرحلات إلى ليبيا، فقد تم نقل ما يقارب 2200 شخص معظمهم من النساء والأطفال والشباب إلى مدينتي بنغازي وطبرق، عبر حوالي 15 رحلة طيران.

بعد يومين في البحر بدأت أشعر بالقلق، تقول النعيمي، وفي اليوم الثالث بدأنا نشعر بأننا لن نصل إلى الشاطئ أبدا وأننا سنغرق جميعنا، إذ تستغرق الرحلة في البحر 7 أيام للوصول إلى إيطاليا، فبالرغم من غرق قافلة تضم نساء وأطفال معظمهم من محافظة دير الزور (شرق سوريا) الأسبوع الفائت، إلا أن قوافل النساء وأطفالهن لا تزال مستمرة في الوصول إلى ليبيا.

الحقيقة البسيطة هي أن اللاجئين لن يخاطروا بحياتهم في رحلة خطيرة للغاية إذا تمكنوا من الحصول على أبسط قدر من الأمان والحياة الطبيعية، بحسب النعيمي، ولن يكون المهاجرون الفارون من الفقر المدقع على تلك القوارب إذا تمكنوا من إطعام أنفسهم وأطفالهم، ولن يلجأ أحد إلى المهربين سيئي السمعة لسلبهم مدخرات حياتهم، إذا كان بإمكانهم التقدم بطلب للهجرة بشكل قانوني، لذلك الجميع يرى في هذه القوارب وسيلة النقل للوصول إلى الفردوس الأوروبي، حسب وصفها.

النعيمي والبردان لديهما اطلاع أن طلب اللجوء يستغرق قرابة ثلاث سنوات حتى يتم قبول القضية النهائية أو رفضها، وليس هناك ما يضمن حصول المهاجر على حق اللجوء في أي من الدول الأوروبية، بغض النظر عن عدد المخاطر الكبيرة التي يتعرض لها المرء.

الاضطراب الإقليمي

بحسب إحصائية “المنظمة الدولية للهجرة”، فإنه منذ بداية عام 2022 وصل عدد الموتى المهاجرين عبر البحر إلى 3378 شخص، وخطر ارتفاع هذه الأرقام قائم، بسبب ازدياد الحملات الدعائية للهجرة وخصوصا في سوريا، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، حملات الترويج للهجرة من ليبيا عبر البحر إلى أوروبا، مستغلين التجارب الناجحة للقوارب التي وصلت.

على طول الحدود وفي جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي توجد مخيمات للاجئين حيث ينتظر الآلاف من البشر لاكتشاف مصيرهم. الكثير منهم عانى من العنف الشديد في محاولتهم للوصول إلى أوروبا. اللوائح المتعلقة بالهجرة مثل “دبلن 2″، لا تأخذ في الاعتبار موطن المهاجرين أو وضعهم وهذا بدوره يعزز الأعمال الإجرامية لمهربي البشر، لا سيما في البلدان التي يصل إليها المهاجرون أولا أو الذين يمرون عبرها.

اقرأ أيضا: هجرة سوريّة مستمرة.. طرق متعددة من أجل طوق النجاة

ليبيا وبسبب الاضطرابات التي تعيشها وعدم الوصول إلى حل سياسي كما يحصل في سوريا، كانت وجهة لكثير من النساء السوريات اللواتي لا حول لهن ولا قوة، لا سيما وأن التضخم وارتفاع الأسعار وعدم وجود حلول في الأفق يعزز من احتمالية بقائهن في سوريا، لذلك لم تعد الهجرة مقتصرة على الشباب فقط.

يتعرض آلاف من الرجال والأطفال والنساء للإتجار والاستغلال والاحتجاز التعسفي والتعذيب أيضا، إضافة لابتزاز الأموال منهم في ليبيا لمجرد أنهم مهاجرين، فعند وصولهم إلى البلاد يتم اختطاف العديد منهم واحتجازهم في الأسر من قبل الميليشيات أو الجماعات المسلحة الأخرى، أو استخدامهم من قبل المهربين كعملة فالأجنبي بالنسبة لهم كالألماس.

العديد من التقارير الدولية، بالإضافة إلى آلاف الروايات من قبل الناجين، وثقت المعاملة الشنيعة التي تلقاها المهاجرين واللاجئين في ليبيا. في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أقرت “بعثة تقصي الحقائق” التابعة لـ “الأمم المتحدة” في ليبيا، أن هذه الانتهاكات جرائم ضد الإنسانية.

كما أدت الزيادة المستمرة في أعداد الأشخاص الذين يعتزمون الهجرة من ليبيا إلى جانب الإفلات من العقاب الذي يتمتع به المهربون بعد سقوط نظام القذافي، إلى تطوير اقتصاد حقيقي قائم على الهجرة غير النظامية، حيث استثمر المهربون في وسائل النقل سواء السيارات أو القوارب.

سر وراء ذلك؟

لم تؤدي الزيادة في الهجرة إلى سياسات لإدارة هذه الظاهرة، بل إن عودتها غير المفهومة بشكل ضخم وإدخال العنصر النسائي والأطفال فيها، يوحي بأن هنالك أسرار وخفايا وراء ذلك، خصوصا أن العالم الآن يشهد اضطرابا واسعا بسبب النمو الصيني والغزو الروسي لأوكرانيا.

الغالبية يهاجرون ليس لأنهم يريدون ذلك، ولكن لأنهم مضطرون لذلك، بحسب الباحث وائل بركات. أوروبا ليست جنة عدن حيث يمكنك الوصول للحصول على ما تريد، حيث تعاني جميع الدول الأوروبية من ديون عالية للغاية وغير مستدامة، وحاليا يتم تطبيق ضرائب جديدة ورفع الضرائب الحالية من أجل الحفاظ على الدول الأوروبية في حالة إنتاج وعلاوة على ذلك، الأموال التي تم تخصيصها لمساعدة أو حماية المهاجرين يتم تخفيضها بمعدل سريع للغاية.

مؤخرا حذرت صحف أوروبية وعلى رأسها “الغارديان” البريطانية، من موجة لجوء كبيرة قادمة إلى أوروبا، مشيرة إلى أن القارة العجوز ليست مستعدة لها، كما انتقدت السياسات الأوروبية التي تتعامل مع اللاجئين واصفة إياها بأنها محدودة الأثر، وغريبة، ومعادية للجوء، والهجرة.

الأرقام التي نشرتها وكالة الحدود الأوروبية “فرونتكس” تظهر أن عدد المهاجرين غير المنظمين ارتفع إلى 114 ألفا و720 في النصف الأول من عام 2022، بزيادة 84 بالمئة عن العام الماضي، مبينة أن كثيرين قد يكونوا أفلتوا من الكشف، وأن عدد الذين يحاولون الدخول عبر غرب البلقان ارتفع بنحو 200 بالمئة، ومن المتوقع أن يعبر نحو 60 ألف شخص القناة في قوارب هذا العام، أي ضعف العدد الإجمالي لعام 2021، لافتة إلى أن هذه الأرقام لا تشمل ملايين الأوكرانيين الذين طلبوا اللجوء في الاتحاد الأوروبي منذ شباط/فبراير الماضي.

قد يهمك: هجرة غير شرعية لسوريين عن طريق لبنان

مع عدم ظهور أي بوادر على تباطؤ تدفق المهاجرين إلى أوروبا والإجراءات التي تتخذها الدول الأوروبية للحد من عدد طالبي اللجوء، من المرجح أن تستمر دمشق في عدم كبح جماح الخارجين من أراضيها نحو الاتحاد الأوروبي إما لمعاقبة العالم على المؤامرة التي يشنها عليها وفق ما يصفه مسؤوليها، أو للضغط لتبني رؤيتها وقبولها بالشكل الحالي دون أي تغيير وفق ما تضمنه قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.