في الذكرى الحادية والعشرين الأخيرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، تعهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، بمواصلة مراقبة الأنشطة الإرهابية وإعاقتها أينما رُصدت وأينما وجدت، مشيرا إلى أن الأمر استغرق عشر سنوات لمطاردة أسامة بن لادن وقتله. ومع ذلك، من المقلق أن بايدن ألغى سياسة عدم التودد التي اعتمدها سلفه دونالد ترامب، اتجاه باكستان حتى تنهي هذه الأخيرة تحالفها غير المقدس مع المنظمات الإرهابية.

كشف انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في آب/أغسطس 2021 مرة أخرى هشاشة العلاقات الباكستانية الأميركية، خصوصا فيما يتعلق بالدور المتنامي والمشكوك فيه لباكستان في التزامها بالحرب على الإرهاب، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين الأميركيين ما زالوا يعتقدون أن باكستان لعبت دورها وأن واشنطن بحاجة إلى مواصلة التواصل مع البلاد، فإن بعض المسؤولين يريدون من واشنطن، إعادة النظر في شروط التعامل مع إسلام أباد.

في هذا السياق، عندما سأل المشرّعون في “الكونغرس” الأميركي وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، عما إذا كان الوقت قد حان لواشنطن لإعادة تقييم علاقتها مع باكستان، أكد الأخير أن “هذا هو أحد الأشياء التي سنبحثها في الأيام والأسابيع المقبلة، الدور الذي لعبته باكستان على مدار العشرين عاما الماضية ولكن أيضا الدور الذي نرغب في رؤيتها تلعبه في السنوات القادمة وما الذي ستستغرقه للقيام بذلك”.

على مدى العقود السابقة، شهدت العلاقات بين البلدين مسارا متقطعا. فمنذ البداية في الخمسينيات من القرن الماضي، تم تأسيسها على أسس مخصصة كروابط معاملات تم فيها ضمان الولايات المتحدة للأمن والعون مقابل المال من باكستان. وبمجرد أن تتلاشى التهديدات الأمنية، تعود العلاقة إلى وضع يكاد لا يتشاركان فيهما في مصلحة مشتركة من شأنها أن تلزمهما بالتعاون، ولكن ما مصير هذه العلاقات في الوقت الحاضر.

قضايا وانعدام الثقة في العلاقات الأميركية الباكستانية

بعد استقلال باكستان في عام 1947 أقامت الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع إسلام أباد، وعملت معها عن كثب في مجموعة واسعة من القضايا تتراوح من الطاقة والتجارة والاستثمار والصحة والطاقة النظيفة ومكافحة أزمة المناخ، إلى الاستقرار في أفغانستان ومكافحة الإرهاب.

كانت الولايات المتحدة واحدة من أكبر مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في باكستان، ولا تزال أكبر سوق تصدير لباكستان، وبينما كانت العلاقات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة وباكستان مستمرة في النمو، وتدعم حكومة الولايات المتحدة هذه العلاقة من خلال تنظيم الأعمال التجارية للوفود التجارية، وتقديم المساعدة التقنية، وتعزيز الفرص التجارية للشركات الأميركية لتطوير الشراكات التجارية بين الولايات المتحدة وباكستان، إلا أن ذلك تخلله العديد من العقبات.

إن القضايا العالقة المتعلقة بالديمقراطية والأمن في باكستان هي المسؤولة عن تعزيز التطرف الديني والتطرف والعنف والنزعة العسكرية في البلاد. أدت الانقلابات العسكرية المتكررة منذ أواخر 1950، إلى إضعاف العملية الديمقراطية وتقويض نموذج الأمن المتمركز حول الدولة.

والواقع، كما يؤكد المحللون في العلاقات الباكستانية الأميركية، خلال رئاسة أوباما، حاولت الولايات المتحدة تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان من خلال الإعلان عن مشروع قانون “كيري-لوغار-بيرمان”، الذي يحتوي على مساعدات غير عسكرية بقيمة 7.5 مليار دولار لإسلام آباد. ومع ذلك، فشلت هذه المساعدات في تحقيق ذلك في باكستان، إذ لم تصادق المؤسسة العسكرية في باكستان على مشروع القانون، إذ كان لا بد من صرف جزء كبير من المبلغ للمنظمات غير الحكومية من أجل رعاية شرائح أضعف من المجتمع مثل النساء والأقليات والشباب.

علاوة على ذلك، تأجج الخلاف بعد بدأ رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، في الابتعاد عن الغرب وتحالف البلاد الاستراتيجي مع واشنطن وبدأ في الانخراط أكثر مع الصين وروسيا. ففي عدة مناسبات العام الماضي، انتقد خان الولايات المتحدة، بقوة وازدادت حدة الانتقاد مع كل خطاب جديد.

في حزيران/يونيو من العام الماضي، أخبر خان أحد المحاورين له في مقابلة تلفزيونية، أنه “لن يسمح مطلقا” للولايات المتحدة بوضع قوات في باكستان للقيام بمهام عبر الحدود لمكافحة الإرهاب في أفغانستان.

بعد أسبوع، عندما قدمت حكومته الميزانية المالية في الجمعية الوطنية، استهدف خان الولايات المتحدة مرة أخرى. خلال خطابه قال خان إنه شعر بـ”الاشمئزاز” عندما انضمت باكستان إلى الولايات المتحدة في “الحرب العالمية على الإرهاب”، واصفا إياها بـ “أحلك فترة في تاريخنا”.

عقب ذلك، وتحديدا في آب/أغسطس 2021، أثناء انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، عندما سيطرت حركة “طالبان” الأفغانية على كابول، أشاد خان بهم واصفا ما فعلوه بـ”كسر أغلال العبودية”. وبعد أشهر، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتقد خان الولايات المتحدة لإلقاء اللوم على باكستان لفشلها في أفغانستان بدلا من تقدير دعم باكستان، ومساعدتها للولايات المتحدة في الأمور المتعلقة بالبلاد.

يصر المحلل السياسي والخبير في السياسة الباكستانية، مشرف زيدي، على أن باكستان دعمت الولايات المتحدة أثناء انسحابها من أفغانستان. لكنه يشير إلى أنه في نفس الوقت كانت الولايات المتحدة مستهدفة من قِبل خان وأعضاء حكومته.

فرض العداء

إن الخوض في العلاقات الباكستانية الأميركية وإبقائها على المسار الصحيح، حتى في أفضل الأوقات، يمثل تحديا خصوصا بعد أن اتجهت إسلام آباد نحو الحلف المواجه للغرب. كما إن طبيعة الانسحاب الأميركي من أفغانستان والارتباك الناجم عنهما قد كشفا مدى هشاشة هذه العلاقة. فسيطرة “طالبان” يختبر بشكل جدي علاقة باكستان الثنائية المشحونة مع أميركا.

الحقائق الجيوسياسية التي تغيرت كثيرا والتوافق المتزايد بين الصين وباكستان، ألقى بظلاله على سياسة الولايات المتحدة تجاه باكستان. إذ لم تخف الولايات المتحدة انزعاجها من توقيع باكستان على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. فالممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، هو أكبر مشروع للمبادرة بتكلفة 62 مليار دولار، وسيؤدي استكماله إلى تحرير إمدادات الطاقة الصينية من نقاط أبرزها هرمز ومالاكا الماليزية. ومؤخرا باتت باكستان تعتمد الآن بشكل شبه كامل على الصين في الإمدادات العسكرية.

بالانتقال إلى العامل الثاني في سياسة العداء التي فرضتها باكستان، ركزت سياسة الأمن القومي الباكستانية، التي صدرت في كانون الثاني/يناير 2022، على أهداف نيودلهي “للهيمنة” الإقليمية، والقمع الهندي للكشميريين. ووصف رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، سياسات الهند في المنطقة المتنازع عليها في كشمير بأنها “إبادة جماعية”.

منذ انتهاء الحرب الباردة، سعت السياسة الأميركية من أجل “فصل” علاقات واشنطن مع الهند وباكستان، مع تعزيز العلاقات الطبيعية بين الخصمين في جنوب آسيا. وفي 27 أيلول/سبتمبر الماضي، ناشد وزير الخارجية الأميركي بلينكن نظيره الباكستاني، بيلاوال بوتو زارداري، بـ”أهمية إدارة علاقة مسؤولة مع الهند”، إلا أن السياسة الأخيرة التي أقرتها إسلام آباد متوجهة نحو عكس ذلك.

ورغم المستجدات الدافعة لتحسين العلاقات الأميركية الباكستانية، لكن ثمة عقبات وتحديات بنيوية تعرقل من إمكانية تحسُّن جدي للعلاقات بين الدولتين خلال المدى القريب، وخاصة بعد ما حدث في الـ 15 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، حيث أعلنت باكستان استدعاء السفير الأميركي عقب تصريحات أدلى بها الرئيس جو بايدن، وكان بايدن وصف باكستان بالقول: “ربما تكون واحدة من أخطر الدول في العالم”، وذلك لأنها تمتلك أسلحة نووية.

الوزير، صرح علنا أنه فوجئ بتعليقات بايدن، وأن سوء التفاهم نشأ عن “قلة التواصل”، حيث تأتي تعليقات بايدن بعد يومين فقط من إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية المكونة من 48 صفحة.

فرص التقارب

لا تخف الولايات المتحدة ضرورة التركيز على برنامج المساعدة المدنية الأميركية وهو الشراكة مع باكستان في تنميتها نحو الأمن والاستقرار والازدهار، وهذا ما نشره موقع وزارة الخارجية الأميركية، يوم السبت الفائت، إذ تُعد باكستان خامس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بنحو 220 مليون مواطن، وتحتل المرتبة 44 من حيث الاقتصاد في عام 2022، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي.

لطالما كانت الولايات المتحدة أكبر سوق تصدير لباكستان حيث استوردت أكثر من 5 مليارات دولار من البضائع الباكستانية في عام 2021، متجاوزةً بذلك أي دولة أخرى. كانت الولايات المتحدة أيضا مستثمرا رائدا في باكستان على مدار العشرين عاما الماضية.

في آخر سنة مالية، زاد الاستثمار المباشر للولايات المتحدة في باكستان بنسبة 50 بالمئة، وهو الآن أعلى مستوى له منذ أكثر من عقد. تتركز الاستثمارات الأميركية الرئيسية في السلع الاستهلاكية والكيماويات والطاقة والزراعة والاستعانة بمصادر خارجية للعمليات التجارية والنقل والاتصالات.

سعت الولايات المتحدة إلى تعميق العلاقات التجارية مع باكستان، بما في ذلك من خلال مشاركة كبار المسؤولين في وزارة التجارة الأميركية، وزارة الخارجية والمؤسسة الأميركية لتمويل التنمية الدولية مع قادة باكستانيين. ومع ذلك، فإن مناخ الأعمال في باكستان مؤخرا يحتوي على مجالات تحتاج إلى التعزيز، بما في ذلك التنظيم، وحماية الملكية الفكرية، والضرائب.

كشف أمير عبد الله خان، خبير العلاقات الدولية في جامعة “الدفاع الوطني” الباكستانية، عن حدوث “تطور ملحوظ يرتقي إلى الزخم الحقيقي” في مستوى العلاقات مع واشنطن، في أعقاب تدهور طرأ على تلك العلاقة مع سيطرة حركة “طالبان” على الحكم في أفغانستان.

عبد الله خان أكد في تصريحات لوكالة “الأناضول” التركية، أن “علاقات باكستان الوثيقة مع الصين أحد أهم عوامل التقارب بين واشنطن وإسلام أباد”، مشيرا إلى أن الفتور أصاب العلاقات بين واشنطن وإسلام أباد في أعقاب سيطرة “طالبان” على الحكم في أفغانستان في أغسطس/آب 2021 “نظرا لتاريخ إسلام أباد الطويل في دعم “طالبان”.

وتابع، “بالإضافة إلى ذلك، أدّت زيارة عمران خان إلى موسكو في اليوم الذي بدأت فيه روسيا غزوها لأوكرانيا، إلى تفاقم التوترات بين واشنطن وإسلام أباد”.

بدوره، نوّه محمد فيصل، الخبير في معهد “الدراسات الاستراتيجية” في إسلام أباد، إلى أن “الحكومة الجديدة في باكستان برئاسة شهباز شريف، بحاجة إلى الدعم الأميركي لإحياء اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، ولهذا السبب تحاول فتح صفحة جديدة مع واشنطن”.

فيصل قال أيضا، إن “باكستان كانت على وشك الإفلاس في حزيران/يونيو وتموز/يوليو الماضيين، وتحاول إقامة اتصالات وثيقة مع الولايات المتحدة”، مشيرا إلى أن “كارثة الفيضانات تسببت في تحسن العلاقات الفعّالة مع واشنطن بوتيرة سريعة”.

متغيرات ضرورية

لطالما اعتمدت الحكومات المدنية والجيش الباكستاني على واشنطن للحصول على الدعم المالي والمعدات العسكرية والتدريب والشرعية الدولية. ولذا يمكن القول إنه لا أحد في النخبة الحاكمة في باكستان يريد تقويض تلك العلاقة مع واشنطن في وقت تواجه فيه إسلام أباد مجموعة من التحديات الاقتصادية والمالية، والتي تتطلب بالتأكيد مساعدة الولايات المتحدة في العديد من المنتديات والجهات الدولية المانحة.

الرئيس الأميركي جو بايدن وسفير باكستان في واشنطن مسعود خان

وفي المقابل، يعتقد مركز “الإمارات للسياسات”، أن باكستان تظل قوة إقليمية مهمة، وأن الاستراتيجيات الأميركية في المنطقة لا يمكن أن تكون فعالة دون تعاون إسلام أباد، لاسيما بشأن التطورات في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها وعودة “طالبان”. وما يُعرقل محاولات واشنطن لإحداث توازن في العلاقات بين الهند وباكستان، هو استمرار الخلافات بين الجارين اللدودين، إذ لم تغيّر نيودلهي ولا إسلام آباد، بشكل أساسي تصورهما للتهديد الذي يشكله الطرف الآخر.

وعليه، يمكن وصف التغلب على مرارة الماضي وعدم الثقة وسوء النية والشك في العلاقات بين باكستان والولايات المتحدة، بأنها تحد كبير، ومع ذلك، يجب تحليل المستقبل في العلاقات الباكستانية الأميركية، من خلال النظر في ثلاث نقاط رئيسية، أولا، دور السياسة الإقليمية، وخاصة الوضع في أفغانستان والهند وباكستان وتأثير  الصراع الصيني الأميركي.

وثانيا، إلى أي مدى ستتمكن باكستان من التعامل مع “مشكلة صورتها” فيما يتعلق بالتطرف الديني والإرهاب، إذ لا تزال قضية تمويل الإرهاب وغسل الأموال، التي حاولت إسلام أباد التعامل معها، تشكل تحديا أساسيا لتحسين العلاقات الباكستانية الأميركية، وثالثا، واقع المهمّشين ودورهم في تغيير ديناميكيات العلاقات الباكستانية الأميركية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.