بظل الأرقام البيانية التي تُظهر انكماشا في عدد سكان الصين، وسط محاولات بيكين تصدير نفسها على أنها قوة اقتصادية وصناعية صاعدة، تكشف سياسات التمييز التي ينتهجها الحزب “الشيوعي الصيني” واقعا مريرا لملايين البشر من الصينيين، والتي ستؤثر بشكل مباشر على مستوى نمو الدولة، والاستمرار في إنتاج مجتمعات غير مؤهلة.

في ورقة بحثية، يسلط سكوت روزيل – زميل بارز في قسم هيلين فارنسورث في “معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية” بجامعة “ستانفورد” والمدير المشارك لمركز “ستانفورد للاقتصاد والمؤسسات الصينية“، وماثيو بوزويل وهو المدير المساعد في الشؤون الخارجية في مركز “ستانفورد للاقتصاد“، الضوء على تلك السياسيات التي تحاصر المواطنين من خلال توسيعا مكلفا للقوة القسرية التي تستخدمها الصين بهدف إبقاء الجميع خاضعين.

وانطلاقا من ذلك، فأنه كثيرا ما يسمع المرء مديحا في “الحزب الشيوعي الصيني” على اعتباره انتشل مئات الملايين من الفقر، ومع أنه ليس هناك من ينكر أن “الشيوعي الصيني” يستحق الثناء على هذا الإنجاز التاريخي، غير أنه ومع ذلك، فإن محنة مئات ملايين الصينيين الذين يعيشون على دخل منخفض في المناطق الريفية بالبلاد والذين لا يمتلكون سوى فرص قليلة للتقدم، لم يلقوا اهتماما يُذكر، بحسب الدراسة.

بحيث أن سكان الريف في الصين لا يعيشون في فقر فحسب، إنما قانون الإجراءات المدنية لا يوفر لهم أي وسيلة تقريبا لتحسين مستواهم الاجتماعي أو أي تقدم على الإطلاق، بسبب نظام التصاريح السكني التقييدي “هوكو“، فما هذا النظام؟

نظام حاصر على مدى عقود من خلال سياسات تمييزية مئات الملايين من البشر في المناطق الريفية، والذين حُرموا بفعله من فرص التعليم والعمل، بالتالي أصبحت هذه المجموعة الفرعية الكبيرة من السكان تشكل عقبة كبيرة طويلة الأجل أمام النمو الاقتصادي المستمر في الصين، تماما مثل العوامل المعروفة أكثر مثل سياسة “صفر كوفيد“، والحملات التنظيمية والديون المتضخمة، كان العمال ذوو المهارات المنخفضة يدعمون في السابق طفرات التصنيع والبناء التي أدت إلى صعود الصين الهائل.

وهذا يمثل معضلة سياسية لـ “الحزب الشيوعي الصيني“، حتى لو كان بإمكان العمال الريفيين ذوي المهارات المتدنية الانتقال بسهولة أكبر إلى المدن الكبيرة، فإنهم سيواجهون صعوبة في المنافسة في أسواق العمل هناك، بسبب مستوى تعليمهم المتدني، وسيستغرق بناء مجموعة موثوقة من العمال المَهرة في المناطق الريفية وقتا طويلا من خلال إنفاق مزيد على التعليم، لا سيما أن القيام بذلك يتطلب أشكالا من إعادة التوزيع الاقتصادي التي قد تكون محفوفة بالأخطار بالنسبة إلى “الحزب الشيوعي الصيني“، بالتالي لا توجد إجابات سهلة لمشكلة رأس المال البشري الريفي في الصين التي من المحتمل أن تؤثر في آفاق النمو في البلاد لعقود مقبلة.

ذلك التأثير يأتي نتيجة ما تعتمده الصين من سياسيات، بحيث أنها تفرض سياسة لم يسمع بها أحد تقريبا في دول العالم، إذ أنها تقسم شعبها منذ الولادة إلى فئتين: الريفيون والحضريون (سكان الريف وسكان المناطق الحضرية)، وهذا التصنيف، المدون في تصريح الإقامة، أو ما يسمى “هوكو“، يرافق الأفراد عادة مدى الحياة ويحدد نوع التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الأخرى التي يمكنهم الحصول عليها.

اقرأ/ي أيضا: ترسيم الحدود اللبناني الإسرائيلي “سلام اقتصادي” قيد الاختبار

الصين وسياسات التمييز المتجذرة

تلك السياسة تعود إلى القرن الـ 21 قبل الميلاد، وقتها استخدم القادة الصينيون القدماء أنظمة تسجيل الأُسر من أجل المساعدة في فرض الضرائب والتجنيد الإجباري، لكن النظام في شكله المعاصر ظهر إلى حيّز الوجود عام 1958، بعد عقد من الزمن أدى فيه تطور الصناعة إلى توسع حضري سريع جدا جعل “الحزب الشيوعي الصيني” يشعر بالقلق إزاء استقرار الإمدادات الغذائية في البلاد.

وعلى الرغم أن النظام الجديد صُمّم بهدف منع تحويل اليد العاملة والموارد الأخرى بعيدا من القطاع الزراعي في الصين، إلا أن الحكومة سرعان ما قيّدت الوصول إلى أنواع معينة من التعليم وخدمات الرعاية الحكومية للأشخاص الذين يحملون “هوكو” الحضريين، فتفاقمت أوجه عدم المساواة بين سكان المناطق الحضرية وسكان الريف، ونتيجة ذلك أصبح ما يقرب من 800 مليون شخص في الصين يحملون تصريح إقامة بتصنيف ريفي.

في ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ الاقتصاد الصيني ينطلق ويتنشط للمرة الأولى، كان التوافر غير المحدود للعمال الريفيين الذين لا يتمتعون بمهارات كبيرة في البلاد يمثل ميزة تفاضلية. وتطلبت جهود القادة الصينيين الرامية إلى تحويل بلدهم الشاسع والفقير إلى دولة ذات دخل متوسط قوة عاملة ملمة بالحساب والقراءة والكتابة، وتتسم بالقدرة على الانضباط.

وبطريقة موازية، ضمنت التوسعات الهائلة للمدارس الابتدائية والإعدادية في الثمانينيات، أن يمتلك معظم الشباب المنضمين إلى القوى العاملة الصينية مهارات الحساب والقراءة الأساسية، وأن يكونوا معتادين على الانضباط الصارم لهذا التعليم، على رغم كونه بدائيا، مكّن مئات ملايين العمال من تأمين وظائف منخفضة الأجر تتطلب مهارات متدنية في قطاعي التصنيع والبناء المزدهرين خلال تلك الحقبة، مما حوّل الصين إلى دولة صناعية كبيرة.

بالمقابل، في الأعوام الأولى من هذا القرن بدأت أعداد العمالة الرخيصة الوافدة من الريف بالتضاؤل، وشهدت الأجور ارتفاعا مطردا. فنقل المصنّعون الوظائف التي لا تتطلب سوى مهارات متدنية إلى الخارج، وكذلك بالاستثمار في الأتمتة. وفي الوقت ذاته، بحلول أوائل عام 2010، كانت الصين بنت معظم الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ وغيرها من مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تحتاج إليها. ومنذ عام 2013، تُظهر بيانات الحكومة الصينية أن التوظيف في التصنيع والبناء بقي على حاله.

في خضم ذلك، تساءل الكاتبان في ورقاتهما، بالقول: إلى أين يتجه العمال الصينيون ذوو المهارات المتدنية؟ في حين تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن القطاع الأسرع نموا في الاقتصاد الصيني خلال العقد الماضي كان قطاع الخدمات غير الرسمي، بحيث أن اليوم، يمكن العثور على ما يقرب من 60 في المئة من القوى العاملة غير الزراعية في الصين في القطاع غير الرسمي، مقارنة بـ 40 في المئة فحسب عام 2005.

 هؤلاء هم عمال التوصيل والمربيات والباعة المتجولون في الشوارع وعمال أكشاك الطعام وعمال صيانة الدراجات الهوائية، الذين كان رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ، يشير إليهم في خطاب ألقاه عام 2020 عندما أكد بصراحة أن حوالي 600 مليون شخص في الصين يكسبون أقل من 1000 يوان شهريا (حوالي 5 دولارات في اليوم)، مما يضعهم تحت خط الفقر الذي حدده البنك الدولي للبلدان ذات الدخل المتوسط المرتفع مثل الصين. وحتى قبل أن تفتك جائحة “كورونا” بقطاع الخدمات غير الرسمي، أظهرت الإحصاءات الرسمية أن نمو أجور أولئك العمال غير الرسميين تباطأ إلى حد كبير، وخلال الوباء، انخفضت الأجور الحقيقية التي يتقاضونها بصورة مطلقة.

اقرأ/ي أيضا: بعد مالي وبوركينا فاسو.. هل يمتد النفوذ الروسي إلى النيجر؟

مساعي لن تجد طريقا سهلا

بيد أن قادة الصين، وفي سعيهم إلى الحفاظ على النمو على المدى الطويل، يؤكدون بحق الحاجة إلى التحول نحو نمو قائم على الاستهلاك بدلا من ذلك القائم على الاستثمارات الذي يشهد تراجعا، مع أن وجود قوة عاملة كبيرة غير رسمية بأجور راكدة يتعارض مع هذه الرؤية، ويعزى ذلك إلى سببين. الأول، والأكثر وضوحا، هو أن النمو البطيء للأجور يؤدي إلى محدودية الدخل المتاح للأشخاص، وفقا للدراسة.

ومن دون المزايا والحماية الاجتماعية المرتبطة بالعمل الرسمي مقابل راتب، يجب على العمال غير الرسميين ادخار أموالهم من أجل التعويض عن أخطار صدمات الدخل الناجمة عن فقدان الوظائف أو حالات الطوارئ الصحية، ثانيا، كان معدل الادخار في الصين مرتفعا بالفعل بحسب المعايير الدولية بسبب ضعف شبكة الأمان الاجتماعي في البلاد، ومع وجود ما يصل إلى نصف القوى العاملة في الصين في وظائف غير رسمية محفوفة بالأخطار، فإن خيارات الحكومة لتحفيز الطلب محدودة.

إذا تمكن العمال ذوو المهارات المتدنية في الصين من العثور على وظائف تتطلب مهارات أفضل، فذلك سيساعد البلاد على التقدم نحو تحقيق أهدافها الإنمائية الاقتصادية، ولسوء الحظ، تركت عقود من نقص الاستثمار في رأس المال البشري الريفي عددا كبيرا من العمال الريفيين في الصين من دون المهارات التي يحتاجون إليها بغية المنافسة في سوق العمل الحديثة.

واستطرادا، يعتبر متوسط التحصيل التعليمي في الصين منخفضا بحسب المعايير الدولية، وذلك حصل على وجه الحصر تقريبا نتيجة للأداء المتأخر لدى الفئات الريفية، وهناك غالبية كبيرة من العمال الريفيين، توازي 89 بالمئة وفقا لدراسة مهمة أجريت عام 2014، لم تحصّل شهادة الدراسة الثانوية.

عوامل معقدة وصعبة الحلول، بالرغم من أن الحكومة الصينية سعت نطاق الوصول إلى التعليم الثانوي في المناطق الريفية في الأعوام الأخيرة، إلا أن الإنفاق على كل طالب على حدة لا يزال متخلفا كثيرا عن المدارس الحضرية، مع ما يترتب على ذلك من آثار على جودة التعليم الذي يتلقاه الطلاب في المناطق الريفية، وعلى سبيل المثال، عام 2015، وجدت الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم التي تدير اختبارا لمهارات الفهم القرائي التي يتمتع بها التلامذة في عشرات البلدان، أن الطلاب الريفيين في الصين حصلوا على معدل العلامات الأدنى في جميع أنحاء العالم.

ويعتبر التعليم في المناطق الريفية مهما لأن أكثر من 70 بالمئة من أطفال الصين يعيشون اليوم في المناطق الريفية، وذلك بفضل عقود من انخفاض معدلات الخصوبة في المدن الصينية. في الواقع، انتقل كثير من أهلهم إلى المدن للعمل، بيد أنهم من دون إيجاد عمل رسمي، ومن غير المرجح أن يحصلوا على “هوكو” الحضريين، الذي يحتاجون إليه من أجل تسجيل أطفالهم في مدارس حضرية عالية الجودة.

والجدير بالذكر أن الزيادة في العمالة غير الرسمية في الصين لها تداعيات ليس فقط على العمال غير الرسميين أنفسهم الذين يتمتعون بقدرة وصول محدودة إلى خدمات الرعاية الاجتماعية الحكومية، بل أيضا على الأطفال الذين أجبروا على تركهم والمسجلين في مدارس ريفية، حيث سيكون من الصعب الحصول على المهارات الأكاديمية المطلوبة للنجاح في الوظائف ذات المهارات العالية.

الصين وقلق الريف

وسط ذلك، لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن تلاميذ المدارس الريفية هم أكثر عرضة بكثير من نظرائهم في المناطق الحضرية للتأخر في النمو والحالات الصحية الأخرى، بما في ذلك فقر الدم والمشكلات البصرية والديدان المعوية التي إذا تركت من دون علاج، يمكن أن تؤثر في قدرتهم على التعلم، وتشير البيانات الحديثة حول المستقبل الاقتصادي في المناطق الريفية الصينية إلى أن العائلات التي تعيش هناك ربما تواجه تحديات اقتصادية متزايدة بسبب “كورونا”.

وفقا للدراسة، فأن ما يلفت النظر أيضا، هو المقارنة مع اقتصادات الدول الأخرى التي وصلت إلى مستويات مماثلة من التنمية الاقتصادية في الماضي، إذ تظهر البحوث التي أجريت في إيرلندا وإسرائيل وكوريا الجنوبية وتايوان خلال الفترة الممتدة من سبعينيات القرن الماضي إلى التسعينيات، أن معدلات التحصيل في المدارس الثانوية كانت مرتفعة نسبيا عندما أصبحت بلدانا متوسطة الدخل.

عادة ما يكون التعليم في المدارس الثانوية والكليات مهماً جدا للوظائف الفنية والمكتبية التي تتطلب مهارات عالية وتشكل أساس الاقتصاد العالي الدخل، على رغم أن متوسط التحصيل التعليمي في الصين آخذ في الازدياد، إلا أنه لا يزال أقل مقارنة بالبلدان الأخرى ذات مستويات الدخل الفردي المماثلة، وإذا استمر العمال الصينيون في مواجهة صعوبة في الانتقال من الوظائف ذات المهارات المنخفضة إلى تلك التي تتطلب مهارات عالية، فمن المحتمل أن يقوض ذلك انتقال الصين إلى اقتصاد عالي الدخل والمهارات.

في مقابل ذلك، تشير الدراسة إلى أن السياسات الحالية التي ينتهجها الحزب “الشيوعي الصيني” لاستئصال الفقر وإنعاش المناطق الريفية لا توازي التحديات، ومثالا على ذلك أدت الحملة الوطنية لمكافحة الفقر التي اختتمت عام 2020 إلى تقديم الدولة مدفوعات كبيرة للمواطنين الفقراء من خلال الإعانات والإعفاءات الضريبية وإعادة التوطين والتحويلات النقدية، غير أن  معظم سكان الريف الصيني البالغ عددهم مئات الملايين والمعرضين للعزل بشكل متزايد عن الاقتصاد الرسمي الصيني لا يعيشون في الواقع في حال فقر، ومثل هذه الإجراءات لن تفعل كثيرا لمساعدتهم في أن يصبحوا أكثر قدرة على المنافسة في اقتصاد يتجه بشكل متزايد نحو الحداثة.

وهناك دلائل على أن القيادة الصينية تعتمد مقاربة مختلفة في معالجة مشكلات هذا العدد الكبير من السكان ذوي الدخل المنخفض. ابتداء من عام 2014، على سبيل المثال، خففت الدولة قيود “هوكو”، حتى يتمكن مزيد من سكان المناطق الريفية من الاستقرار بشكل قانوني في المدن.

 وتكمن المشكلة في أن سكان الريف لا يزالون ممنوعين من دخول المدن الكبيرة المزدهرة مثل بكين وشنغهاي وشنتشن، التي تدر الوظائف فيها أجورا أكبر، وحيث يتوافر مزيد من الديناميكية والفرص الاقتصادية، وتعتبر الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والرعاية الصحية ذات جودة أعلى والمستقبل أكثر إشراقا بشكل عام، وإذا تجمع الملايين من العمال ذوي المهارات المتدنية في المدن الأصغر حجما والأقل ثراء التي تتضمن وظائف أقل ومدارس وخدمات صحية أضعف، فإن وجودهم ربما يؤدي إلى إبطاء التنمية في هذه المجتمعات بشكل أكبر.

بالتالي تبقى معالجات الحزب “الشيوعي الصيني” تواجه عقبة الانفاق التي لا توازي حجم الإصلاحات التي يحتاجها ذوي الدخل المنخفض، فحتى إذا ما قرر توسيع نطاق الضمان الاجتماعي لهم، بغية تشجيعهم على أن يدخروا أقل وينفقوا أكثر، لن تكون معالجة حقيقية لأوجه عدم المساواة بين المجتمعات الريفية والحضرية التي تتطلب إنفاقا كبيرا على السكان من ذوي الدخل المنخفض، وربما تكون مصحوبة بتخفيضات في الفوائد التي يتمتع بها حاليا أولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية.

اقرأ/ي أيضا: حقيقة اقتصاد الصين.. قراءة في الواقع الاقتصادي لبكين وسطوة دول “الآسيان”

مشكلة في قلب أخرى

حتى إذا ما تم توسيع تلك المنافع على هذا النطاق، فأنها ستشكل أيضا تحديا كبيرا في عصر النمو البطيء وأعباء الديون المرتفعة، وعلى غرار كثير من سياسات إعادة التوزيع، ربما يكون كبح المعاملة التفضيلية للطبقات الوسطى والعليا في المناطق الحضرية أمرا غير مستحب سياسيا.

في التحليل النهائي، يعُد سكان المناطق الحضرية هم المكون الرئيس للحزب “الشيوعي الصيني“، في حين كان الحزب على استعداد لفرض عمليات إغلاق شديدة على المدن الكبيرة خلال فترة تفشي “كورونا”، كان الجميع يدرك على نطاق واسع أنها إجراءات قصيرة الأجل يتم اتخاذها في وقت الأزمات، لأن في الحقيقة، إن تنفيذ سياسات إعادة التوزيع التي من شأنها تحويل منافع وامتيازات المناطق الحضرية إلى سكان الريف سيكون بمثابة استحالة سياسية بالنسبة إلى الحكومة الصينية.

بالمحصلة وفي ظل سياسية التمييز المستخدمة، تؤكد الدراسة أنه لا توجد حلول سهلة لمشكلة البطالة الريفية المتزايدة في الصين، إذ أنه في الواقع، يعيش واحد من كل تسعة أشخاص على وجه الأرض في المناطق الريفية في الصين، ونتائج التعليم والصحة والإنتاجية والتوظيف في هذه المجموعة أقل مما يدركه كثير من الناس، كما أن التدابير لمعالجة المشكلة معقدة ومكلفة، وحتى لو تم تنفيذها بنجاح غدا، فلن تؤتي ثمارها لأعوام متعددة، وفي غضون ذلك، لا يكتمل أي تحليل لآفاق النمو في الصين من دون النظر في نطاق مشكلة رأس المال البشري الريفي وتقييم جهود الصين الرامية إلى التخفيف من حدتها.

وتفترض الدراسة، أن الحزب “الشيوعي الصيني” لا يستطيع إحراز تقدم كبير في حل المشكلة، فهذا يعني أنه سيستمر وجود دولتين صينيتين، واحدة نابضة بالحياة نسبيا تتكون من مدن كبيرة في عدد قليل من المقاطعات الساحلية، وأخرى متخلفة في المناطق الريفية الداخلية الشاسعة التي تعتمد بشكل كبير على عائدات من الحكومة المركزية من أجل ضمان سبل العيش.

بيد أن الاختلاف الوحيد هو أنه بالمضي قدما، لن تزدهر الثروة الاقتصادية بالوتيرة السابقة ذاتها، ومن المحتمل أن تكون أيام النمو السريع ولّت، في عصر يتباطأ فيه النمو، وتزداد الصعوبة في تحقيق تطلعات الحصول على مكاسب حقيقية في سبل العيش، بين الأعداد الضخمة من سكان الريف الصينيين العاطلين من العمل بشكل متزايد، ولا سيما إن إدارة هؤلاء السكان الريفيين ستشمل خليطا من التحويلات الحكومية المركزية والاستثمارات غير الفاعلة من أجل إبقاء العمال مشغولين وتوسيعا مكلفا للقوة القسرية التي تستخدمها الدولة بهدف إبقاء الجميع خاضعين.

يأتي هذا العبء غير المرغوب فيه في وقت شرع الرئيس الصيني شي جين بينغ، في محاولة طموحة للتغلب على الولايات المتحدة في الجيل المقبل من التقنيات الرائدة وزيادة اعتماد العالم على براعة الصين الصناعية والتكنولوجية، وفي الوقت ذاته تقليل اعتماد الصين على بقية العالم، وهو ما يجعل من تلك الطموحات مَهمّة صعبة في أفضل الظروف، ومن أجل تحقيق هذه الرؤية في عصر النمو البطيء، سيحتاج قادة الصين إلى حشد جميع موارد البلاد بأكبر قدر ممكن من الكفاءة.

وتجدر الإشارة إلى أن وجود مئات عدة من الملايين العاطلين من العمل على مدى الـ 20 إلى الـ 30 عاما المقبلة يقلل من احتمالية النجاح، لأن العودة بالخير على هذه الشريحة من المجتمع والسيطرة عليها سيحول الموارد النادرة بشكل متزايد من القطاعات الديناميكية التي يعتمد عليها شي، لتحقيق أجندته الطموحة، وبهذه الطريقة، فالملايين من الريفيين الذين زخموا يوما ما ظهور الصين كقوة اقتصادية عظمى ربما يؤخرون تحقيق رؤية شي، إلى أجل غير مسمى.

اقرأ/ي أيضا: أزمة داخلية في فرنسا بسبب الغلاء ونقص الطاقة؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.