كان الموقف التركي شبه الصامت لا سيما في الأيام الأولى لاندلاع المواجهات العسكرية بين الفصائل العسكرية في شمال غرب سوريا، كدليل غير ملموس لمتابع الأحداث على تورط الجانب التركي في الأحداث الدامية الأخيرة، فلماذا تصمت تركيا عن القتال بين الفصائل، والسؤال الأجدر لماذا ردة الفعل غير موجودة إزاء تمدد “هيئة تحرير الشام”.

مصالح تركيا من أحداث العنف

التحرك التركي الخجول لم يأتي إلا بعد أن قُتل العديد من عناصر الفصائل، وشهدت المنطقة أحداث عنف كبيرة خلال الأسبوع الماضي، تسببت بشلل الحركة المدنية في العديد من المناطق، كذلك جاء ردة الفعل التركية الأولى بعد بيان أميركي رافض لتحركات “الهيئة” شمالي سوريا.

يمكن أن يرى البعض تحرك “هيئة تحرير الشام”، باتجاه مناطق سيطرة النفوذ التركي خطرا حقيقيا، كونه قد يمثل ذريعة سهلة لروسيا من أجل قصف هذه المناطق، كون “الهيئة” مصنفة على قوائم الإرهاب، إلا أن السبب الأقرب الحقيقي للصمت قد يتمثل بتبدل المصالح التركية في المنطقة.

المحلل العسكري العقيد مصطفى فرحات، يرى أن صراع النفوذ وأجندات بعض فصائل المعارضة السورية، هي السّر وراء صمت تركيا عن تحركات “هيئة تحرير الشام”، مشيرا إلى أن الجانب التركي أراد استثمار تحركات “الهيئة” المصنّفة على قوائم لتحقيق مصالحه شمالي سوريا.

تأديب الفصائل؟

فرحات قال في حديث خاص مع “الحل نت“: “بعض الفصائل كالجبهة الشامية التي هي الفيلق الثالث وجيش الإسلام، لا تأتمر بالأوامر التركية بشكل كامل، وهي لها جهات أخرى تتبع لها جهات عربية معينة، وبالتالي هناك تناحر وصراع على النفوذ، وبما أن تحرك الهيئة كان لقتال هذه الفصائل، فإن هذا التحرك لم يزعج تركيا“.

تركيا أرادت استثمار المواجهات الدامية بين الفصائل، لتأديب إن صح التعبير، هذه الفصائل التي لا تخضع بالكامل لمزاج الجانب التركي، ولا توافق على كامل سياساته المتعلقة بالملف السوري، كعودة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وآليات هذه العودة على سبيل المثال.

قد يهمك: هل يهدد استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا العلاقات بين موسكو وتل أبيب؟

فكان تحرك “هيئة تحرير الشام”، بمثابة تحقيق لسياق المصالح التركية، لكن التدخل الأميركي الذي جاء بعد أن وصلت مجموعات الجولاني إلى عفرين، أحرج أنقرة التي طلب من “الهيئة” الانسحاب فورا.

حول ذلك أضاف فرحات، “لو أرادت تركيا ضبط النزاع من البداية لاستطاعت ذلك، لكنها سمحت للهيئة بالدخول والخروج، تركيا أرادت بصورة أو بأخرى هذه المواجهة، وإن لم تعلن عن هذا الموضوع، أرادت أن يكون هناك إنذار للفصائل، واستثمرت بتحركات هيئة تحرير الشام وستحاول توظيف ذلك سياسيا أيضا“.

تبعات هذه المواجهات على مناطق الشمال السوري، خلقت المزيد من الفوضى، والعبء على سكانها، خاصة وأن معظمهم من النازحين والمهجرين، إذ يصف فرحات واقع الحال في الشمال السوري بأنه “عبار عن دولتان داخل سجن كبير، دولة حكومة الإنقاذ بقيادة هيئة تحرير الشام في إدلب، ودولة الحكومة المؤقتة في أرياف حلب والفصائل المسلحة بمختلف مسمياتها وانتماءاتها، هذه الصراعات هي عبء آخر على السوريين، كان هناك اتفاق لكن لم تلتزم به الأطراف للتهدئة“.

حتى صباح الثلاثاء كانت عناصر الجولاني يتجولون في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، ذلك قبل أن يوعز الجيش التركي لـ “هيئة الحرير الشام”، بضرورة الانسحاب من المدينة، وبحسب ما أفاد مصدر من المعارضة لـ“الحل نت“، فإن القوات التركية أمهلت “الهيئة” للانسحاب الكامل إلى إدلب حتى صباح الخميس، دون قيد أو شرط.

التحرك التركي جاء مباشرة بعد أول تعليق أميركي على تحرّك “هيئة تحرير الشام” من إدلب، حيث دعت الولايات المتحدة الثلاثاء، إلى انسحاب فوري لـ “الهيئة” من مناطق ريف حلب الشمالي، وأعرب حساب السفارة الأميركية في دمشق على مواقع التواصل الاجتماعي، عن بالغ قلق واشنطن إزاء أعمال العنف الأخيرة في شمال غربي سـوريا.

جاء في بيان السفارة، “نشعر ببالغ القلق من التوغل الأخير لهيئة تحرير الشام، وهي منظمة مصنفة كإرهابية، في شمال حلب، يجب سحب قوات هيئة تحرير الشام من المنطقة على الفور“.

تبعات الاقتتال وهل تحركت “الهيئة” بضوء أخضر تركي.

خلال أيام القتال الماضية شهدت مدينة إعزاز، على تخومها الغربية الجمعة حشودا عسكرية تابعة لـ“الهيئة” والفصائل المتحالفة معها، تحضيرا لاقتحام منطقة كفرجنة غربي إعزاز، حيث تُعتبر مدينتي إعزاز ومارع المعقل الأهم لـ“الفيلق الثالث“.

الصحفي عمران حمزة، رأى أن أهم تبعات هذا الاقتتال هو إضعاف “الفيلق الثالث” حاليا، ومحاولة نقل المنطقة لسيطرة “الهيئة” وفصائل “الحمزة” وفرقة “سليمان شاه” بقيادة أبو عمشة، واللتين تُتهمان بتجارة المخدرات والاغتيالات، وبشكل عام هذا يسهّل أي مساومة مع حكومة دمشق.

حمزة أكد في حديث سابق مع “الحل نت”، أن وقوف تركيا على الحياد، كان بمثابة ضوء أخضر علني لـ“الهيئة“، إلا إذا كان هناك تفاهم دولي على هذه المنطقة، فدخول “الهيئة” لمنطقة دخلتها تركيا سابقا أمر محرّم.

جهة وحيدة مسيطرة

اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف أبو غنوم، كان بمثابة الشرارة التي أشعلت الفتيل الذي تم الإعداد له منذ مدة ليست قصيرة، فالتحولات العسكرية في الشمال السوري على مدى الأيام الماضية لم تكن ردة فعل على عملية الاغتيال، كما يوضح مصدر محلي لـ“الحل نت“، بل هناك مخططات بدأت منذ حزيران/يونيو الماضي عندما حدث اقتتال الفصائل في ذلك الوقت، تضمنت سيطرة “الهيئة”، على مناطق “الجيش الوطني“.

المصدر المحلي، كشف في وقت سابق لـ“الحل نت“، أنه خلال الأيام الماضية لم يحصل أي تدخل أو ضغط من تركيا لوقف القتال ولمنع “الهيئة” من السيطرة على مناطق “الجيش الوطني“، على الرغم من أن الأخير مدعوم من قِبلها.

الكاتب السياسي، صدام الجاسر، رأى خلال حديثه لـ“الحل نت“، أن تركيا من مصلحتها أن تكون هناك جهة واحدة وفاعلة تسيطر على المنطقة، خاصة إذا كانت هذه الجهة تمتلك انضباطية ومركزية بالعمل والخلل الموجود فيها وفي بنيتها أقل من غيرها، وهذا ما يمكّنها من السيطرة عليها أكثر من العديد من الفصائل، والتي في الأصل معظمها يعادي الآخر، وهذا ما وجدته تركيا بـ“الهيئة“.

الجاسر أضاف، أن “هيئة تحرير الشام” قادرة على تلبية المصالح التركية في الشمال السوري خلال المرحلة القادمة، بشكل أكبر من الفصائل المتناحرة، لافتا إلى صمت “الحكومة المؤقتة” و“الائتلاف” المعارض حول ما يجري، ما يشي برغبة تركية واضحة بما يحصل.

مصلحة تركية سورية

في الفترة الأخيرة بدأت العلاقات بين تركيا وحكومة دمشق بالتسارع بشكل لافت، وبرزت الرغبة في التقارب من خلال تصريحات المسؤولين الأتراك، بدءا من الرئيس التركي، رجب أردوغان، وصولا لوزير خارجيته، جاويش أوغلو، الذي أكد قبل أيام على أهمية التوصل لحل بين الحكومة السورية والمعارضة السورية، واقتتال الفصائل والمراقبة التركية دون أي تدخل بات يشير إلى أنه يصب بشكل أو بآخر في مصلحة التقارب التركي السوري.

بحسب صدام الجاسر، فإنه من المعروف أن “هيئة تحرير الشام” كانت من المسارعين إلى فتح المعابر مع حكومة دمشق، وهذا الأمر يصب في مصلحة تركيا ويساعد في تسريع فتح المعابر وإنعاش الحالة الاقتصادية في الشمال السوري، وتخفيف العبء الاقتصادي عن تركيا.

الجاسر أضاف أنه بسيطرة “الهيئة” على الشمال سيكون هناك تنمية مدعومة تركيا، في حال أبدت “الهيئة” مرونة في التعامل مع دمشق واستمرار فتح المعابر والسماح بالحركة والتبادل الاقتصادي بين مناطق الشمال، ومناطق سيطرة حكومة دمشق.

حتى الآن لم تنكشف كل كواليس الموقف التركي، وفيما إذا كان انسحاب “هيئة تحرير الشام” من عفرين، هو انسحاب مؤقت جاء بسبب الضغط الأميركي، فربما تكون أنقرة تخطط لأشياء أخرى من شأنها رسم ملامح جديدة لمناطق الشمال السوري خلال الفترة القادمة.

قد يهمك: “المجموعة السياسية الأوروبية”.. رسالة إلى بوتين؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.