“أشد عدو للمرأة هي امرأة مثلها” تتكرر هذه العبارة أمامي كثيرا في نقاشات أصدقائي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. كلما رأينا امرأة تبرر جريمة وقعت في حق بنات جنسها، وتلومهن بقسوة رغم كونهن ضحايا، وكلما قابلنا فتيات يتماهين بشدة مع الوضع الاجتماعي المزري الذي تعيشه النساء وينكرن مساوئه، ليحبطن أي محاولات للتغيير، نجد دائما من يذكرنا بأن أشد أعداء المرأة هن نساء مثلها.

السؤال هو لماذا. لماذا قد تهاجم الضحية ضحية مثلها وتدافع عن المجرم. وكيف استطاعت ثقافة المجتمع أن تسلط النساء على بعضهن، لتجعل بعض الضحايا يتحولن إلى مجرمات مع سبق الإصرار.

في البدء كانت الذكورية

كنساء مصريات وعربيات، نتربى في مجتمعات ذكورية من الدرجة الأولى، تضع المرأة في المرتبة الثانية أو أدنى، ونعاني من التهميش والاضطهاد والقمع في العديد من جوانب حياتنا اليومية، بداية من سلطة الرجال على أجسادنا التي تحدد لنا ماذا نرتدي وكيف نتصرف وكيف نعبر عن أنفسنا ونتكلم ونضحك، ومتى نخرج ونعود وإلى أين نذهب، وكيف نعيش ومن نتزوج ومتى ننجب، حتى تطبيع جرائم مروعة بحقنا مثل الختان والاغتصاب الزوجي، والتحرش والانتهاك والاعتداء الجنسي، والتعامل بغير جدية مع العنف ضد المرأة، سواء كان عنفا نفسيا أم جسديّا أم اقتصاديا.

في ظل هذه الظروف الجحيمية يبدو من المنطقي أن تكون كل النساء مجتمعات على قلب امرأة واحدة لمقاومة هذا الوضع، لكننا نفاجأ دائما بأن كثيرا من النساء يُعدن إنتاج الذكورية التي تستعبدهن، فهناك الأم التي تختن ابنتها وتشوه حياتها الجنسية إلى الأبد، والمرأة التي تقبل أن تكون شريكة خيانة مع رجل متزوج ضاربة بمشاعر زوجته عرض الحائط لأن من حقه التعدد، وهناك من تلوم ضحية التحرش على ملابسها، ومن تهاجم ضحية اغتصاب قررت أن تتكلم لأنها “فضحت نفسها”، ومن يبررن العنف الزوجي بأن من حق الزوج تقويم زوجته، ومن يتقبلن التضييق على الفتيات في التعليم والحياة العملية، لأنهن سيتزوجن ومصيرهن البيت في آخر المطاف، والمرعب أن كل واحدة من هؤلاء قد تكون تعرضت لنفس الجريمة التي تبررها، لكن تماهيها مع الخطاب الذكوري قد بلغ أقصاه.

في الشهور السابقة اصطدمنا بالعديد من هذه النماذج النسائية “العدوة”، بداية من مذيعة مصرية تخرج كل يوم وآخر بتصريح مسيء يثير الجدل والغضب. ففي أعقاب حادثة عروس الإسماعيلية التي ضربها زوجها بوحشية في الشارع يوم زفافها، وانقلب الرأي العام مطالبا بتوقيف الزوج المجرم، خرجت هذه المذيعة لتصف موقف الزوجة التي أحجمت عن اتخاذ موقف قانوني تحت التهديد، كما تبين لاحقا بأنها “ست أصيلة ومحترمة”، ومنذ ذلك الحين تفجعنا يوميا بتعليق أسوأ من سابقه، فتارة تنهر النساء اللاتي يطلبن من أزواجهن عدم دخول المنزل بالحذاء، وتارة تتهمهن بأنهن سبب خيانة الرجل، وتنتقد النساء اللاتي يرفضن منح نسخة من مفاتيح بيوتهن لحمواتهن، وتشجع الرجال على فتح هواتف زوجاتهم لتفقد نشاطها، بينما تمنع الزوجات من العكس.

بالتزامن مع هذا الخطاب المنبطح، يلقى الخطاب النسوي هجوما كبيرا من فئة نسائية اصطلح على تسميتها “الحوريات”، وهن الفتيات الملتزمات دينيا، اللواتي يجدن المطالب النسوية ضد الدين والعرف، ومغالاة في “الندية” للرجل، فيرفضنها جملة وتفصيلا. تظهر الحوريات أو شبيهاتهن في التعليق على جميع الأخبار المتعلقة بجرائم العنف ضد المرأة، وغالبا ما تحصد آرائهن إعجابا هائلا من الرجال الغاضبين، لأنها تتمحور حول “لقد ابتعدنا عن تعاليم الدين وهذه هي النتيجة”، “الضحية هي السبب بالتأكيد فلولا أنها فعلت كذا لما قتلها/ذبحها”.. إلخ.

العنف ضد المرأة تفاقم في السنوات الأخيرة، وساهمت النسويات في تسليط الضوء على هذه الجرائم، ومازلن يناضلن لإقرار قوانين رادعة تحمي النساء من العنف الممنهج ضدهن، وهي خطوة عظيمة تحتاجها كل امرأة منا لتأمن على نفسها قليلا في مجتمع يستبيحها بلا حدود، ومع هذا كثيرا ما نجد أنفسنا كنسويات في مواجهات عنيفة مع نساء مثلنا، نساء نكافح لأجل حقوق آدمية تنتشلهن معنا مما نحن فيه من ظلم، لكنهن يريننا في صورة “خرّابات البيوت”، أو المعقدات اللاتي يسعين لهدم المجتمع وتغيير ثقافته والخروج على تقاليده الدينية وثوابته، ومهما وضحنا ما نهدف إليه حقّا من مساواة، وحياة آمنة عادلة لا تضطهدنا لمجرد أننا نساء، لا نستطيع تحييد مشاعرهن السلبية نحونا. ما السبب.

للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نتأمل الذكورية كهندسة اجتماعية شديدة التعقيد والذكاء.

ساد النظام الأبوي العالم لعشرات القرون، خلالها وظَّف الحياة في خدمة الرجل وجعله سيدا متحكما في تفاصيلها، وولدت الأفكار الذكورية من رحم هذه الهيمنة لتغسل عقول النساء جيلا بعد جيل، ورسخت فيهن أن الهدف من حياة المرأة هو الزواج والإنجاب، وأن رجلها هو صاحب السلطة العليا عليها، وأنها كلما ازدادت طاعة صارت مقبولة أكثر في هذا النظام الاجتماعي، وأصبح يشار إليها بأنها الابنة/الأخت/الزوجة/الأم المثالية.

هكذا دُجّنت ملايين النساء ليكتسبن قيمتهن من إتباع المفاهيم التي تهدف أصلا لسحقهن، وتحققت ذواتهن عن طريق فقدها في تلك الثقافة، ليصبح التمسك بتلك الأفكار هو التحقق والنجاح، وعنوان الأخلاق والعفاف الذي يمنحهن قبولا اجتماعيا لا شك فيه. على النقيض طالما وقفت النساء المتمردات على هذه الثقافة في موضع الرفض والنفور، والذي يجلب عليهن النبذ الاجتماعي، والتشهير والوصم، ليصبحن عبرة لمن تفكر في التمرد بدورها.

من هنا يمكننا رؤية الأسباب. تولد المرأة كيانا حرا لكن المجتمع يقتص أجنحتها ويدجنها ويحولها إلى ترس في آلة الذكورية تعيد إنتاج القمع لنفسها ولبنات جنسها، وهكذا فإن المرأة الذكورية إما أنها غير واعية بكونها ضحية، وتتعامل بالثقافة التي تربت عليها باعتبارها الحقيقة الواحدة للوجود، وإما تختار الحل السلمي الأكثر أمنا للاندماج في المجتمع، كي لا تتعرض للنبذ وما يليه من عواقب اجتماعية واقتصادية ونفسية مؤسفة، وإما أنها تختار الاستمتاع ببعض مزايا النظام الذكوري وتسوّق نفسها له، وإما أن تكون في موضع انتفاعٍ وسلطة ينقلها من خانة الضحية إلى خانة المجرمة.

لا أنسى أبدا ما قالته إحدى صديقاتي في إحدى شجارات “السوشيال ميديا”، وهو أن بعض النساء الذكوريات ينتفعن من النظام الذكوري مثل الرجال، فهي تقضي حياتها غير مشغولة بالتحقق المهني ولا العلمي، وتجد من ينفق عليها ويرعاها، لهذا قد تعتبر أي دعوات لتمكين المرأة وإقرار المساواة بينها وبين الرجل تهديدا لتلك المكاسب، وتهديدا بتغيير نمط حياتها أو وصما له، ما يبرر شراستها في محاربة امرأة مثلها، حتى لو كانت تنادي بصالحها.

اقرأ أيضا: الوحش تحت السرير أو كيف تقنعنا “الأمومية” بتصديق كوابيسنا

لا أتفق مع صديقتي كثيرا، فحتى لو انطبق هذا على بعض الحالات فستكون قليلة للغاية، ومحظوظة للغاية لدرجة أنها استمتعت بمميزات مجتمعنا الذكوري للنساء (من حماية وإعالة وقبول وتكريم) دون لحظة ظلم، فإنها في النهاية ستكون إنسانا نزعت منه حريته ليسير مع التيار دون أي خيار آخر، ويدافع عن مكتسباته الضئيلة، وهو ما تسعى النسوية لتغييره، بتمكين المرأة من حياتها لتختار كيف تعيشها دون إجبار، ودون نبذ ووصم وعواقب وخيمة، ودون أن تضطر للتنازل عن حريتها واستقلاليتها لتنعم بالمأوى والحقوق الأساسية.

إن أسطورة “المرأة هي عدو المرأة” ما هي إلا سلاح ذكوري آخر يستهدف قصم ظهورنا، يضع النساء في مواجهة النساء، ويسمح للثقافة الذكورية بالانسحاب من المعركة كأنها لم تكن السبب الأول فيها. حتى المقولة نفسها “أشد أعداء المرأة هي امرأة مثلها” تعد نموذجا للثقافة الذكورية التي تضع اللوم على المرأة في كل شيء.

من العداوة حتى “النساء للنساء”

من الأقوال الشائعة التي تروج في مجتمعنا أن النساء عدوات لبعضهن بالفطرة، فهن يغرن من بعضهن ويتنافسن دائما في ساحة الجمال والحب والزواج والإنجاب والتربية (لا أحد يذكر الدراسة أو العمل)، إلى الدرجة التي جعلت أحد معارفي يقول يوما إنه لا يتصور وجود صداقة قوية بين امرأتين، وأن صداقة النساء مرحلة مؤقتة في حياتهن، وهي صداقة هشة موعودة بالتحطم لأقل سبب، مثل أن يطلب خطيب/زوج واحدة منهن أن تقطع علاقتها بالأخرى.

لا أعرف من أين ينبع هذا المعتقد، لكن لو عدنا للتفكير في الثقافة الذكورية التي تفرض على النساء أن يركضن بلا نهاية لإرضاء المجتمع للشعور بالتحقق، وتسلطهن على بعضهن ليفنين أنفسهن إرضاء لمن حولهن، فسيمكننا أن نجد إجابة، لكن هذا الوضع تغير إلى حد بعيد خلال السنوات الماضية.

مع صعود الخطاب النسوي ومطالبه بحرية المرأة وتمكينها وحمايتها قانونيا، اشتبكت نساء كثيرات من خلفيات دينية وثقافية وعلمية وأيديولوجية مختلفة، ورغم ظاهرة “الحوريات” وعاشقات التبرير للجرائم التي ترتكب ضدنا، استطاعت الحركة النسوية أن تخلق تناغما كبيرا بين النساء شجعهن على الترابط والتركيز على مطالبهن أكثر.

حملات مثل “مي تو” و “ميدوسا” قربت كثيرا بين النساء، وجعلتنا نحكي ما تعرضنا له من إساءات وتحرش وجرائم كتمناها في ضلوعنا ظنا أن الخطأ منا، لتوحدنا المأساة في وجه المجتمع الذي يتواطأ ضدنا ويتجاهل انتهاكنا.

الشجار المستمر مع فتيات منقوعات في أفكار المجتمع البالية، أسفر عن خروج كثيرات من تلك الظلمة ليحلمن بمزيد من النور، والأهم أنه جعل أشد النسويات شراسة قادرةً على التعاطف مع أعنف الذكوريات، واستيعاب سرديتها وطريقة تفكيرها، والتفنن في مجابهتها بالمنطق للوصول إلى أرض مشتركة في أفضل الأحوال، أو تقديم خطابٍ موازٍ للأجيال الجديدة كي لا ينشأن على فكرة الصوت الواحد الذي يظلمهن، وهذا أضعف الإيمان.

التضامن النسائي وصل إلى حدود تدفئ القلب في الآونة الأخيرة، خصوصا في المجموعات المغلقة للنسويات، بعدما رفعت كثير من السيدات شعار “النساء للنساء”، وبدأن بتوفير فرص عمل لبعضهن، وعقد دورات تدريبية مجانية للفتيات صغيرات السن في مجالات عمل مختلفة، ومساعدة كل من تقع بأزمة كبرى أو ضائقة مادية، وحتى بتحذير البعض من جهات عمل مسيئة أو أشخاص سبق لهم ارتكاب جرائم جنسية، لتفادي أي مأساة.

قد يهمك: تحسبني sweet girl: كيف ننجو من الست؟

ما ألمسه في حياتنا اليوم يختلف عمّا ربانا عليه المجتمع، وعما شهدناه لسنوات طويلة من حياتنا. فحتى لو كنا نخوض معركة ضارية مع مفاهيم قاصرة وظالمة أطبقت على أنفاسنا العمر كله، ففي كل يوم نكسب أرضا جديدة في معركة الوعي، ونزداد فهما لواقعنا ومشكلاته وإصرارا على حلها. حتى لو كانت امرأة ما عدوة للمرأة، فنحن بالتأكيد منتصرات طالما كان ما يحركنا حقًّا هو أن “النساء للنساء”. لقد اخترنا أنفسنا ولو لم يخترنا أحد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.