عقب الاتفاق بين إسرائيل ولبنان على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، توجهت بيروت نحو دمشق من أجل حل الخلاف الذي دام عقودا لفض النزاع غير العسكري على الحدود البحرية المشتركة بين البلدين، والذي تأجج العام الماضي بعد أن منحت سوريا ترخيصا لشركة طاقة روسية لبدء التنقيب البحري في منطقة ادعى لبنان أنها تعود له.

مكتب رئاسة الجمهورية اللبنانية، أعلن في الـ 11 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أن نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إلياس بو صعب، كلّف بقيادة وفد سيتوجه إلى سوريا في 26 من الشهر ذاته لمناقشة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، إلا أن رفض دمشق لاستقبال الوفد أثار العديد من التكهنات.

مصدر رسمي في الرئاسة اللبنانية، أكد لوسائل إعلامية دولية اليوم الثلاثاء، تأجيل زيارة الوفد اللبناني إلى سوريا والتي كانت مقررة يوم غدا الأربعاء، وذلك بسبب “ارتباطات مسبقة للجانب السوري”. فيما نقلت وسائل إعلامية لبنانية، نفي مصدر دبلوماسي سوري صحة هذه الأنباء، حيث قال إن “الطرف اللبناني اقترح موعدا لم يكن ملائما للطرف السوري، لكن لم يكن هناك إلغاء لموعد أو لطلب للزيارة، لم يكن هناك اتفاق أصلاً على موعد بين الطرفين، حتى يتمّ إلغاؤه”.

تعتمد سوريا على رسم خط حدودها البحري مع لبنان وكأنه امتداد للحدود البرية التي شكلها نهر “الكبير” الفاصل بين البلدين. لكن ماذا عن الخط البحري اللبناني، ولماذا تتهرب دمشق من الجلوس على مفاوضات ترسيم الحدود، وكيف سيكون الشكل النهائي لها.

نزاع حدودي بين لبنان وسوريا

كان لبنان قد رسم حدوده البحرية سابقا في عام 2011، وفي عام 2014 أطلق جولة من التراخيص الأولية ودعا لتقديم عطاءات للكتلة رقم 1 في الشمال. لكن سوريا لم تعترف بترسيم الحدود اللبنانية.

يقول المختص في القانون الدولي والنزاعات الحدودية، ريان غودمان، لـ”الحل نت”، إنه لسنوات كان لبنان مشغولا بترسيم حدوده البحرية والبرية الجنوبية مع إسرائيل. في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، اتهمت إسرائيل لبنان بتغيير موقفه سبع مرات من ترسيم الحدود البحرية، ما أدى إلى مفاوضات غير مباشرة جرت تحت إشراف أميركي وأممي.

اختلف البلدان حول منطقة بحرية تبلغ حوالي 860 كيلومترا مربعا، والمعروفة باسم المربع رقم 9، بناء على خريطة أُرسلت في عام 2011 إلى الأمم المتحدة. ولكن تبين لاحقا بحسب غودمان، أن الخريطة تستند إلى تقديرات تقريبية خاطئة، ففي المفاوضات الأخيرة، طالب لبنان بمساحة إضافية تبلغ 1430 كيلومترا مربعا، بما في ذلك جزء من حقل “كاريش”.

بالنسبة للخلاف مع سوريا، تأجج بعد أن وقّعت الحكومة السورية عقدا مدته 4 سنوات مع شركة روسية للتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، أدى ذلك إلى أزمة حدودية جديدة بين البلدين، حيث تتداخل الكتلتان اللتان سيتم استكشافهما بموجب العقد الجديد مع المناطق البحرية اللبنانية للتنقيب عن الطاقة على طول الحدود الشمالية للبلاد، وبحسب هذا الترسيم، انتزع الجانب السوري مساحة لبنانية مساحتها 750 كيلومترا مربعا من بلوك رقم 1 وحده، حيث ستبدأ عملية التنقيب الروسية.

وقد أثيرت القضية علنا لأول مرة خلال مؤتمر “الحوار الوطني” الذي استضافه رئيس مجلس النواب نبيه بري، في نيسان/أبريل 2006. في ذلك الوقت، لم تستجب دمشق لطلب لبنان، على الرغم من حقيقة أن الأمين العام لـ “حزب الله”، حسن نصر الله، تعهد للتواصل مع القيادة السورية حول الموضوع.

ظل ترسيم الحدود اللبنانية السورية دون حل حتى تقرر رفعها مرة أخرى بعد زيارة قام بها رئيس الوزراء آنذاك سعد الحريري إلى دمشق في عام 2010 ردا على وساطة سعودية. وعليه، كُلّف وزير التنمية الإدارية آنذاك، جان أوغاسابيان، بمهمة التحضير للزيارة الثانية التي قام بها الحريري على رأس وفد وزاري وإداري ضم 12 وزيرا، التقى خلالها بنظيره السوري محمد ناجي عطري والوزراء السوريين المعنيين. واختتم الاجتماع بتوقيع 28 اتفاقية.

لكن الجانب السوري ممثلا بوزير الخارجية السابق وليد المعلم، طلب تأجيل مناقشة ملف ترسيم الحدود معتبرا أن دمشق مشغولة بترسيم الحدود السورية الأردنية، كما اقترح المعلم عدم إدراج مزارع شبعا المتنازع عليها في العملية.

حتى الآن، لا تزال دمشق تمتنع عن ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين. وعُقد اجتماعان فقط خلال تولي الحريري رئاسة الحكومة، الأول بين محافظ الشمال ومحافظ طرطوس، والثاني بين محافظ البقاع ونظيره السوري محافظ حمص. ورفض المعلم صراحة بدء عملية الترسيم استجابة لمطالبة صندوق النقد الدولي بإغلاق جميع المعابر غير الشرعية، وترسيم الحدود المشتركة البحرية وحتى البرية لوقف عمليات التهريب من لبنان إلى سوريا.

أمننة سياسة الحدود في لبنان

في اعتراضه عام 2014 على ترسيم الحدود اللبنانية، قال المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة السابق، بشار الجعفري، إن “ترسيم حدود لبنان جاء بمرسوم، وهو تشريع داخلي صادر بموجب القوانين الوطنية اللبنانية، وليس له صفة إلزامية”.

وفقا للخبير في القانون الدولي والنزاعات، ريان غودمان، إذا رفضت سوريا الاعتراف بهذا الاعتراض، يجب على لبنان اللجوء إلى الأمم المتحدة للاعتراض على أي عملية استكشاف ستتم. ويمكنها أن تطلب وقف الاستكشاف إذا قدّم لبنان وثائق تثبت ملكيته لهذه المناطق.

ويرى غودمان، أن رفض أو “تهرب” دمشق من الجلوس في مفاوضات مباشرة مع المسؤولين اللبنانيين على مدى السنوات السابقة، يعود إلى أن الحكومة السورية ترى أن لها أحقية أكبر في الحدود مع لبنان سواء البحرية أو البرية، وباعتقادها أن ترسيم الحدود مع إسرائيل يفتح لها المجال أمام قضم الجزء الأكبر من الحصة البحرية.

كان توقيع وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني، ميشال نجار، في أوائل نيسان/أبريل 2021، على تعديل لمرسوم من شأنه أن يضبط الحدود البحرية للبنان بداية الاعتراض على الترسيمات المقترحة مع التي تضعها سوريا وقبرص، حيث منح التعديل المقترح لمرسوم الحكومة اللبنانية رقم 6433 للبنان الحق في المطالبة بالأميال البحرية التي سبق التنازل عنها خلال المفاوضات مع قبرص وإسرائيل، كما طالبت سوريا، في نهاية آذار/مارس 2021، بسيادة بحرية على مساحة 750 كيلومترا مربعا كانت في السابق ملكا للبنان.

لا أحد من الأطراف المعنية قريب حتى من الاتفاق مع الآخرين، طبقا لحديث غودمان، فبالنسبة لسوريا، فقد قال مصدر مقرب من الحكومة “ببساطة إن أي اتفاق بشأن هذه القضية يجب أن يكون نتيجة مفاوضات، ولا يبدو أن لبنان مستعد للتفاوض بما يتناسب مع دمشق”.

“قنبلة” لبنانية موقوتة

على الصعيد القانوني، يشير أستاذ القانون الدولي، أنطوان سعد، في حديثه لوسائل إعلامية عربية، إلى أنه “بالنسبة إلى الاعتداء السوري على المياه اللبنانية، واستنادا إلى اتفاقية مونتيغو باي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، إما أن يلجأ لبنان إلى محكمة قانون البحار، وإما الذهاب إلى لجنة تحكيمية بحيث تختار سوريا محكمين، ولبنان أيضا محكمين”.

وتابع سعد، “وعندها يختارون طرفا خامسا ليشكلوا هيئة تحكيمية، وغالبا ما تتخذ الهيئة مركز إقامة في الخارج مقرا لعملها، بعيدا عن الجغرافيا اللبنانية أو السورية”، كما يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، معتبرا أن “الاعتداء ليس فقط بسبب سوريا، وإنما أيضا على الشركة التي تمارس التنقيب، لكونها تدرك جيدا أنه لا يمكن أن تقترب من مساحة متنازع عليها”.

من جهته، يقول المؤرخ عصام خليفة، إن النهر “الكبير” يعتبر حد الترسيم بين لبنان وسوريا، وتعتمد نقطة “سرير النهر” أي خط الوسط في مجرى النهر، وتنطلق منها الحدود البحرية اللبنانية وفقا للقانون الدولي للبحار، منبها إلى اعتماد الجانب السوري معيارا مختلفا عن اللبناني مما يؤدي إلى تداخل بين البلوكات اللبنانية والسورية والقبرصية، ويخلق بالتالي أرضية للخلاف على الملكية.

لبنان اعتمد في ترسيمه المعايير التي تقرها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، على خلاف سوريا التي لم توقع الاتفاقية، بالإضافة إلى إسرائيل وتركيا.

الحدود بين لبنان وسوريا مرسّمة وفق القرار 318 الصادر عن المفوض السامي الفرنسي، هنري غورو، في 31 آب/أغسطس 1920، ومن ثم إعلان دولة لبنان الكبير، وهناك محاضر مصادقة من قضاة التحديد والتحرير بواسطة قضاة لبنانيين وسوريين، كما تم اعتماد خط القمم لوضع الحدود البرية الفاصلة بين لبنان وسوريا من سلطة الانتداب الفرنسي.

أما فيما يتعلق باتفاق “بوليه-نيوكومب” فهي التي تحدد الحدود بين لبنان وفلسطين إبان خضوع الأخيرة للمنتدب البريطاني، مؤكدا أن الترسيم البحري لا بد من أن ينطلق من نقطة الحدود البرية، وفي الحالة اللبنانية لا بد من أن تنطلق الجنوبية من رأس الناقورة، والشمالية من سرير النهر الكبير.

في البحر، يتداخل البلوك رقم “1” السوري مع البلوكين “1” و”2″ اللبنانيين، وكان الجانب السوري قد صادق على تلزيم أي منح حق التنقيب البلوك “1” لصالح شركة “كابيتال” الروسية بموجب القانون رقم 10 بتاريخ التاسع من آذار/مارس 2021.

مساحة البلوك “1” اللبناني تبلغ 1928 كيلومترا مربعا، أما البلوك “2” فمساحته 1798 كيلومترا مربعا، أما المساحة المتداخلة بين لبنان وسوريا فتتراوح بين 750 و1000 كيلومتر مربع، وهي ستتسبب في نزاع بين البلدين، لأنه في عام 2011 أصدر لبنان المرسوم 6433 وأعلن حدوده البحرية، وقد أودعت سوريا اعتراضها لدى الأمم المتحدة في عام 2014 على الموقف اللبناني وترسيم البلوكات “1” و”2″، بسبب الاختلاف في طرق الترسيم.

تشير التقارير وتصريحات المسؤولين السوريين، إلى أن إتمام الترسيم من قبل دمشق ليس وارد الآن، لحسابات قديمة ترى دمشق أنها لها الأحقية في معظم الحدود اللبنانية سواء البحرية أو البرية، فيما ستكون تداعيات المسألة على الجانب اللبناني، أعمق خصوصا بعد اتفاقها مع إسرائيل على الحدود البحرية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة