بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يُنتظر أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ من خلال إقرار حكومتي بيروت وتل أبيب، واللتان تعتبران حكومات لتصريف الأعمال، وقد جاء الاتفاق ضمن ظروف وتحديات متعددة تثير تساؤلات حول نجاحه في المرحلة المقبلة، وفي نفس الوقت يُنظر إلى هذا الاتفاق من ناحية غير سياسية، فهو من الناحية الاقتصادية بداية مهمة للحد من التوتر بين الطرفين، ويتوافق مع رؤية إسرائيلية قديمة تسعى منذ سنوات لعقد اتفاقات مماثلة مع دول عربية كبديل مؤقت لما يُعرف بـ”السلام الشامل”.

شكوك حول تطبيق الاتفاق

على الرغم من توقيع الاتفاق بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية، إلا أنه لا تزال هناك بعض الشكوك حول تنفيذ هذا الاتفاق وتطبيقه عمليا، فكلا الحكومتين في لبنان وإسرائيل غير منتخبة، كما أن الرئيس اللبناني ميشيل عون، أعلن عن تركه منصبه في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر القادم مع عدم تمكن مجلس النواب اللبناني حتى الآن من انتخاب رئيس جديد، وفي الموعد نفسه ستشهد إسرائيل انتخابات عامة، قد تؤدي إما إلى تشكيل حكومة يقودها زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الذي أعلن رفضه صراحة للاتفاق ووعد بإسقاطه حال وصوله للحكم، أو إلى استمرار الأزمة السياسية الممتدة منذ أربعة أعوام والتي تمثّلت في تشكيل ائتلافات هشة وغير مستقرة، أفضت إلى انهيار الحكومات التي تشكلت وفقها في فترات قصيرة للغاية لم تتجاوز العام.

حقل كاريش للغاز “وكالات”

من هنا يرى مختصون، أن الاتفاق الذي وقّعته الحكومة الإسرائيلية المؤقتة بقيادة يائير لابيد، قد لا يصمد في حال التصويت عليه في “الكنيست”، بالإضافة إلى أن بعض الجمعيات الحقوقية في تل أبيب قد تقدمت للمحكمة العليا بطلب منع حكومة لابيد من المُضي في تنفيذ الاتفاق، ومن المنتظر أن تصدر المحكمة حكمها بهذا الشأن في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر الحالي، أي قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات العامة.

من جانب آخر كان موضوع ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، قد شهِد جمودا بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من جنوب لبنان عام 2000، وإبقاء مزارع شبعا تحت السيطرة الإسرائيلية والتي بقيت نقطة خلافية بين لبنان وإسرائيل، فلبنان يقول إن المزارع تعود له، بينما تقول إسرائيل أنها تابعة لسوريا.

تصاعد نفوذ “حزب الله” وصولا لهيمنته شبه الكاملة على قرارات الحكومة اللبنانية، تسبب بمشكلة كبيرة، خاصة عندما بدأت العديد من الشركات العالمية البحث عن النفط والغاز في البحر المتوسط قبالة سواحل قبرص واليونان ومصر وإسرائيل في عام 2007، لكن لبنان لم يفكر في إمكانية الاستفادة من هذه الفرص، نظرا لأن جذب هذه الشركات للبحث عن الغاز والنفط كان يستلزم تحديد الحدود البحرية للبنان مع جيرانه، خاصة إسرائيل. وهذا لم يكن مقبولا من “حزب الله” الخاضع بدوره للسياسة الإيرانية التي عملت على توظيف هذه الميليشيا وهيمنتها على الدولة اللبنانية، في الضغط على إسرائيل وصرف انتباهها عن المشروع النووي الإيراني.

الوضع بقي مجمّدا حتى عام 2020 عندما بدأت إسرائيل في الاستعداد لتشغيل حقل “كاريش”، الواقع إلى جوار مناطق بحرية محل نزاع مع لبنان. ووفقا للخرائط الإسرائيلية، كانت هناك مساحة تتراوح بين 860 إلى 1430 كيلومترا مربعا تتبع الحدود الإسرائيلية، فيما يؤكد لبنان وقوع هذه المناطق ضمن حدوده، والتي تضم الحقل المعروف باسم “قانا”. وهدد هذا النزاع بوقف الأعمال الإسرائيلية في حقل “كاريش”، وحرمان لبنان أيضا من إمكانية جذب شركات التنقيب للعمل في حقل “قانا”.

لكن في ظل الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يشهدها لبنان حتى الآن، لم يكن أمام “حزب الله”، سوى الامتناع عن عرقلة عملية التفاوض خوفا من تداعيات ذلك على شعبيته، إذا ما استقر في أذهان اللبنانيين أن الحزب يحول دون فتح نافذة فرص مهمة للتغلب على الأزمة الاقتصادية، كما لم تكن إيران مستعدة للدخول في مواجهه مع الولايات المتحدة التي ترعى الاتصالات بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، خاصةً مع تولي جو بايدن الرئاسة الأميركية، وإعلانه العزم على استئناف المفاوضات مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي.

أما فيما يتعلق بإسرائيل، فقد دعمت الأجهزة الأمنية والجيش التوصل إلى تسوية مع لبنان حول الحدود البحرية، لأنها قد تؤدي إلى خفض التوتر على الجبهة الشمالية ومنع “حزب الله” من الاحتكاك بإسرائيل.

إقرأ:إسرائيل نحو انتخابات سادسة في أقل من 4 سنوات.. ما النتائج المتوقعة؟

ما هي العقبات أمام الاتفاق؟

الحالة الانتقالية للحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، هي العقبة المهمة أمام تنفيذ الاتفاق بين الطرفين، حيث يتم النظر إلى هذه الحكومات بشكل عام كحكومات تصريف أعمال، لا كحكومات تتخذ قرارات استراتيجية.

على الجانب الإسرائيلي، هناك خلاف حول مدى أحقية حكومة لابيد، في توقيع اتفاق يُلزم إسرائيل بالتنازل عن أراض كانت تحت سيادتها إلى بلد آخر، فالمعارضون يرون أن قانون أساس الحكومة ينص على حتمية الحصول على ثُلثي الأصوات في “الكنيست”، لتمرير اتفاق كهذا، أو أن تُجري الحكومة استفتاء شعبيا على مثل هذا الاتفاق، وفي المقابل، ثمة رأي مختلف يقول إن هذه الشروط تنطبق على الاتفاقات الدولية، ولأن الاتفاق الذي توصلت إليه إسرائيل مع لبنان بوساطة أمريكية لن يتم التوقيع المشترك عليه، بل سيتم وضع خطابات متبادلة بين الولايات المتحدة بصفتها الوسيط، وكلا الطرفين تنص على قبول كل منهما على حدة للمقترح الأميركي الذي يشتمل على بنود الاتفاق، في وثائق يقدمها البلدان إلى الأمم المتحدة؛ ومن ثم فإن تلك الصيغة لا تُعامل كما لو كانت اتفاقا يستلزم أغلبية الثُلثين في “الكنيست”، بالرغم من أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد أعلنت نيتها إرسال الاتفاق إلى “الكنيست” ومنحه أسبوعين لإبداء رأيه فيها.

لذلك لا يبدو حتى الآن ما إذا كان الاتفاق مع لبنان سيتأثر برأي “الكنيست” أم لا، خصوصا أنه لم يعُد منتخبا، وسيخلفه البرلمان الذي سيُنتخب في الأول من نوفمبر القادم. ومع ذلك، يبدو أن جهود عرقلة تمرير الاتفاق من جانب السياسيين خاصة نتنياهو، ستواجَه بصرامة من المؤسستَين الأمنية والعسكرية اللتين تقفان بقوة إلى جانب الاتفاق، على الأقل حتى تظهر نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.

أما بالنسبة للبنان، فالعقبات تكاد تكون أقل من إسرائيل، فمن الصعب على “حزب الله” وخصومه، إفشال الاتفاق الذي يراهن عليه الشعب اللبناني للخروج لحد ما من أزمته الاقتصادية الطاحنة وتأمين احتياجاته الحيوية من الطاقة. ولكن هناك مخاوف من إحباط الشعب اللبناني مبكرا، حيث إن ارتفاع الآمال المُعلّقة على الاتفاق للخروج من المأزق الحالي لا تدعمه تصريحات إسرائيلية رسمية تقول إن حقل “قانا” اللبناني، قد لا يكون العائد منه كبيرا في ظل التضارب في تقديرات احتياطاته من الغاز، كما يشكك البعض في إمكانية الكشف من الأصل عن احتياطيات ذات جدوى اقتصادية في هذا الحقل.

ففي تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، أشار إلى أن الاتفاق يمنح إسرائيل 17 بالمئة، من عائدات حقل “قانا”، بالإضافة إلى تشغيل حقل “كاريش” دون انتظار، بما يعود على الخزانة الإسرائيلية بمليارات الدولارات في السنوات القادمة. وفي مقابل ذلك يحتاج لبنان إلى مدّة قد تصل إلى 7 سنوات على الأقل لاستخراج الغاز وبيعه من حقل “قانا”، لعدم وجود بنية تحتية لبنانية خاصة بالغاز في الأصل.

“حزب الله” والمصطلحات

“حزب الله” لا ينظر إلى المفاوضات التي جرت بين لبنان وإسرائيل وأفضت إلى ترسيم الحدود على أنها اتفاق، فحسن نصرالله، يفضل أن يسميها على أنها “تفاهم”، مثل التفاهمات التي تم التوصل إليها في أعقاب كل المعارك والحروب، التي خاضتها إسرائيل ضد جهات لا تعترف بها وتسعى لتدميرها، ويؤكد نصر الله، وفق رؤيته، أن ما جرى لا يمكن اعتباره اتفاقا مُلزما ينهي ما يسميه هو “بحق المقاومة في العمل ضد إسرائيل”، كما أنه ليس اتفاقا يقود إلى “تطبيع العلاقات”، وعقد لقاءات مباشرة في وقت لاحق بين مسؤولين لبنانيين وإسرائيليين.

إسرائيل تدرك سلبية هذا التوصيف الذي قد يعني إمكانية إنهاء التفاهم فيما يتعلق بقضية استخراج الغاز، مثلما كانت التفاهمات حول وقف إطلاق النار والتهدئة على العديد من الجبهات مع إسرائيل قابلة للانهيار والتجديد بشروط مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد بعض المحللين في تل أبيب، أن الاتفاق أو التفاهم سوف يُضعف “حزب الله” في الداخل اللبناني على المدى البعيد، حيث سيضطره إلى الدخول في منازعات مع الحكومة والرئاسة اللبنانية حول سُبل تطبيق الاتفاق، وقد يذعن “حزب الله” في بعض الأحيان لتفادي تكرار الصدام مع الحكومة، خوفا من ردة الفعل الشعبية ضده.

أيضا من الصعب على “حزب الله” منع تطور الاتفاق، الذي ربط إسرائيل برباط توزيع عوائد حقل “قانا”، إلى آفاق أبعد تشمل لقاءات مباشرة بين مسؤولين لبنانيين وإسرائيليين، فضلا عن ذلك قد يُحرم “حزب الله” من معرفة خفايا ما يدور في هذه اللقاءات مما يؤدي إلى خلل تقديراته في التعامل مع الأوضاع الداخلية والخارجية.

“السلام الاقتصادي”

وسط فشل عملية السلام الشامل الذي يرتكز على السياسة وتطبيع العلاقات السياسية بين لبنان وإسرائيل على مدار السنوات الماضية، يرى خبراء أن أهم الأهداف البعيدة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، هو إثبات مدى إمكانية نجاح نموذج ما يُسمى بـ “السلام الاقتصادي”، وهو النموذج الذي حاولت إسرائيل منذ نهاية الألفية الماضية تطبيقه على الصراع مع الفلسطينيين، بجعل الحوافز الاقتصادية كبديل لتعطل التسويات السياسية، ووسيلة لخفض العنف المتبادل بين الجانبين.

الخبراء يشيرون إلى أن الاتفاق مع لبنان يمكن أن يكون نموذجا ناجحا لـ”السلام الاقتصادي”، الذي يتغلب على الأيديولوجيا وذهنية العداء والحواجز النفسية التي زرعتها المواجهات المستمرة بين البلدين، ويمكن تطبيقه على الحالة الفلسطينية لاحقا، خاصة إذا صمد هذا الاتفاق بين لبنان وإسرائيل، واجتاز العقبات الآنية والمستقبلية، ستكون فكرة استبدال التعاون الاقتصادي بالصراع العسكري، وذلك عبر اتفاقات اقتصادية وتجارية وتعاون ثنائي وإقليمي تحقق مصالح كل الأطراف، قد تثبت نجاحها استنادا إلى النموذج اللبناني.

توحد لبناني وخلافات إسرائيلية

بحسب خبراء فإنه لا يمكن التقليل من أهمية الاتفاق لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، خاصة في ظل التوترات الدولية على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا المستمر منذ أكثر من ثمانية أشهر.

الخبراء يضيفون، أن الاتفاق جاء في ظل خلافات داخلية إسرائيلية كبيرة نتيجة الانتخابات العامة الإسرائيلية، في مقابل ذلك فإن الموقف اللبناني الموحّد كان لافتا للنظر، لا سيما لناحية الانكفاء الشكلي لـ”حزب الله”، وترك التفاوض للدولة اللبنانية، ولكن هناك مرافقة ضمنية من “الحزب” لإتمام المفاوضات والاتفاق، فهو القوة الأهم المسيطرة على الساحة السياسية والعسكرية في لبنان.

أيضا يشير الخبراء إلى أن لبنان حقق اختراقا مهما هو بحاجة ماسة إليه، لا سيما على ضوء تدهور أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، ودخوله في حالة من الانهيار الكبير وتراجع قيمة عملته الوطنية وبلوغ معدلات التضخم مستويات غير مسبوقة، وهي التي تترك آثارا مدمرة على مختلف الشرائح الاجتماعية اللبنانية التي لامست حدود الفقر بغالبيتها الساحقة.

هل هناك رابح في الاتفاق؟

بحسب مراقبين فإن كلا من لبنان وإسرائيل لا يعتبران رابحين في هذا الاتفاق، فإسرائيل تخلت على الأرجح عن أراض أكثر مما أرادت في البداية، لكنها ستستفيد أكثر على المدى القصير من مبيعات الغاز في ظل ظروف أمنية أفضل. على الجانب الآخر، حصل لبنان على أرض لكنه لن يتمكن من استغلالها على الفور.

المياه الإقليمية اللبنانية “وكالات”

على الرغم من ذلك، تحاول الحكومتان المؤقتتان في لبنان وإسرائيل جاهدتين لدفع الصفقة للأمام في الوقت المحدود الذي تبقى لكل منهما في السلطة.

في إسرائيل، لا يزال من الممكن أن يأتي التحدي الجاد للصفقة من قِبل السياسيين اليمينيين. فقد اتهم زعيم المعارضة، بنيامين نتنياهو، حكومة لابيد، بالاستسلام لابتزاز “حزب الله”. وأقسم نتنياهو على إلغاء الصفقة إذا عاد إلى السلطة بعد انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

أما في لبنان، فيرى محللون في قطاع الطاقة أن التفاصيل الخاصة بلبنان تترك الكثير للنقاش بشأنه. فمن الواضح أنه سيتم التفاوض على العديد من التفاصيل في المستقبل. مضيفين أن هناك أيضا حقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بتسوية هذه الأمور، فإن لبنان وإسرائيل لا يتحدثان مع بعضهما البعض بشكل مباشر، مما يترك شركات الطاقة في هذه المهمة الصعبة.

قد يهمك:إسرائيل تقصف مناطق نفوذ روسي بسوريا.. موسكو موافقة وطهران متخوفة؟

اتفاق تاريخي كما يصفه البعض وعلى رأسهم الرئيس الأميركي، جوبايدن، كما يعتبره بعض المراقبين بأنه اتفاق سلام “صغير”، أو اتفاق “سلام اقتصادي”، لعبت العديد من الأطراف دورا في إنجاحه وعلى رأسها إيران التي تسعى لناحيتين، الأولى اعتبار الاتفاق نصرا دون خوض حرب، والثانية من أجل إبداء بعض التنازلات وإن كان ليس على حسابها أمام الولايات المتحدة لإتمام الاتفاق النووي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.