أمر لافت، يتمثل بصعود اليسار إلى الحكم في قارة أميركا اللاتينية، لا سيما في حالة كولومبيا التي كانت الاستثناء من بين جميع دول القارة؛ لأنها الوحيدة التي لم يحكمها يساري، قبل أن يصل اليسار إلى الحكم لأول مرة في الانتخابات الأخيرة.

معظم الدول اللاتينية، نتجت عن انتخاباتها الأخيرة فوز اليسار على حساب اليمين المتطرف، ومنها تشيلي وبوليفيا والمكسيك، ومن المتوقع أن تلتحق البرازيل بركب اليسار، الأسبوع المقبل في الانتخابات الرئاسية المعادة، بعد فوز المرشح اليساري لولا دا سيلفا في الجولة الأولى.

منذ عام 2018، فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وبيرو، وأخيرا كولومبيا التي فاز بانتخاباتها التي جرت في شهر أيار/مايو الماضي، لأول مرة رئيس يساري، هو غوستافو بيترو.

بيترو حقق فوزَه بفضل الناخبين المحبطين من عقود الفقر وعدم المساواة في ظل الزعماء المحافظين، وعُدّ فوزه انتصارا تاريخيا لليسار، بعدما حصل على 50.4 بالمئة من الأصوات مقابل 47.3 بالمئة، لمنافسه مرشَّح اليمين رودولفو هيرنانديز.

سبب وصول اليسار

فوز بيترو يعد الحلقة الأحدث لتداعيات سياسية واجتماعية لجائحة “كورونا” في أميركا الجنوبية، حيث ضرب الوباء اقتصادات هذه المنطقة بشكل عنيف، نتج عنه خروج 12 مليون شخص من الطبقة الوسطى في عام واحد. لذلك عاقب الناخبون في جميع أنحاء القارة الحكومات، وكان الفائز هو اليسار.

في بيرو، انتُخب العام الماضي المعلم الماركسي بيدرو كاستيلو، في حين أعاد الناشط الطلابي السابق غابرييل بوريك حكم اليسار إلى تشيلي التي تُمثِّل نموذجا للسوق الحرة في المنطقة، وبعد كولومبيا، تتجه الأنظار الآن إلى البرازيل، أكبر دول أميركا اللاتينية، حيث يتصدر الرئيس السابق لولا دا سيلفا استطلاعات الرأي للعودة إلى الحكم نهلية الشهر الجاري.

إذا حدث ذلك وفاز دا سيلفا بالانتخابات الرئاسية البرازيلية، فستكون كل الدول الكبرى في القارة اللاتينية -بما في ذلك المكسيك والأرجنتين- تحت قيادة رؤساء يساريين، وانحسار حقبة اليمين المتطرف في القارة الأميركية بشكل شبه كلي.

موجة صعود اليسار في أميركا اللاتينية، تأتي نتيجة زيادة مشاعر الغضب الشعبية المعادية لشاغلي المناصب بصفة عامة، فالناخبون مستاءون من الخسائر الصحية والاقتصادية التي شهدتها بلادهم خلال فترة الوباء وما بعدها، والتي توازت في أغلبها مع فترة حكم اليمين وأحزابه، مما دفعهم وعبر صناديق الاقتراع للإطاحة بكل من شغل القصر الرئاسي.

كولومبيا

صحيح أن الانتخابات الكولومبية جرت في أيار/مايو المنصرم، إلا أن فوز بيترو جاء في جولة الإعادة التي حدثت في 19 حزيران/يونيو الماضي، وما أدى إلى فوزه حالة الفقر التي يعاني منها نصف سكان كولومبيا، الذين صوّتوا لليسار على أمل أن يتغير حالهم نحو الأحسن.

بيترو جاء ببرنامج سياسي واقتصادي يساري، قائم على إقامة إصلاحات جذرية وإعادة توزيع الثروة، ودور أكبر للدولة في الصحة والتعليم، والضمان الاجتماعي لمواجهة غياب المساواة الاقتصادية، وتعهد بفرض ضريبة على أرباح الشركات من أجل تمويل الإنفاق الاجتماعي للسكان الفقراء.

الرئيس الكولومبي الفائز، تعهد كذلك بزيادة الضرائب على أغنى 4 آلاف أسرة -5 بالمئة فقط من السكان يدفعون ضرائب على الدخل الشخصي- وأعلن التزامه بتسريع تنفيذ اتفاق السلام الموقَّع بين الحكومة الكولومبية وحركة القوات المسلحة الثورية المتمردة “فارك” عام 2016، الذي أنهى 5 عقود من الحرب بين الجانبين.

بوليفيا

في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، نُصّب اليساري لويس آرسي رئيسا جديدا لبوليفيا، بعد فوزه بنسبة 55 بالمئة من الأصوات، وقد جاء اختياره بعد أن عصفت أزمة عنيفة باقتصاد البلاد لمدة عام، الذي تضرر بشدة بسبب جائحة فيروس “كورونا”.

آرسي وهو وزير الاقتصاد السابق، يعد مهندس “المعجزة الاقتصادية البوليفية” خلال رئاسة موراليس، التي شهدت نمو إجمالي الناتج المحلي ليبلغ مستويات غير مسبوقة تصل إلى 6 بالمئة وانخفاض معدل الفقر من 60 بالمئة إلى 37 بالمئة.

المكسيك

في المكسيك عزز الرئيس اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، مركزه على رأس السلطة، بعد أن وافق ما لا يقل عن 90 بالمئة من المكسيكيين الذين شاركوا في استفتاء دعا إليه الرئيس لدعم بقائه في منصبه، وذلك وفقا لتقديرات أولية نشرها المعهد الانتخابي الوطني.

رغم ضعف المشاركة، نال الرئيس البالغ من العمر 68 عاما، والذي تم انتخابه في 2018 لمدة 6 سنوات، غالبية تتراوح بين 90.3 و91.9 بالمئة من أصوات المقترعين، الذين أيدوا استمراره في منصبه حتى العام 2024، وفقا لفرز أولي للأصوات أجراه “المعهد الوطني للانتخابات”.

البيرو

في البيرو كان فوز كاستيلو، وهو مُعلِّم مدرسة ريفية -ليست لديه خبرة سياسية رسمية- في حزيران/يونيو الماضي، بسبب الغضب من النخبة السياسية وتزايد الفقر وشعور الناخبين الريفيين، بأنهم مستبعدون من ثمار الموارد المعدنية للدولة المشهورة بضخامة الثروات الطبيعية.

كاستيلو الذي يمزج بين القيم المحافظة والأفكار الاشتراكية، انتقد شركات التعدين بسبب “النهب”، وتعهد بزيادة الضرائب لدفع تكاليف رعاية صحية وتعليم أفضل، وهُزّ نجاحه نخبة ليما والأسواق المالية في بيرو.

الرئيس البيروفي صرّح لمؤيديه بعد فوزه بالتالي: “اليوم تبدأ المعركة الحقيقية لإنهاء عدم المساواة الهائل. لن نكون شعبا مضطهدا أبدا بعد الآن. فلنقف دائما على أقدامنا ولا نركع على ركبنا أبدا”.

تشيلي

في تشيلي عاد حكم اليسار إلى البلاد التي تمثل نموذجا للسوق الحرة في المنطقة، فقد جاءت الانتخابات في آذار/مارس 2022 الماضي بالناشط الطلابي السابق غابرييل بوريك، كأصغر رئيس لتشيلي في سن الـ 38، مذكّرا في خطابه الأول، بالرئيس اليساري الراحل سلفادور أليندي، الشخصية التاريخية في تشيلي.

بوريك يُنظر إليه على أنه الوجه الجديد لليسار السياسي في أميركا اللاتينية، الذي يركز على قضايا من النسوية إلى حماية البيئة ومحاربة عدم المساواة.

في أول خطاب له في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أطلق بوريك ناقوس الخطر بشأن مخاطر الاضطرابات الاجتماعية، قائلا: “أدعوكم جميعا للمضي قدما في البحث عن عدالة اجتماعية أكبر”، مما أثار تصفيقا حادا. “يجب أن يسير توزيع الثروة والسلطة بطريقة أفضل جنبا إلى جنب مع النمو المستدام”.

الرئيس التشيلي، حذر من أن الغضب من عدم المساواة وسوء الخدمات الأساسية نتيجة السياسات النيو ليبرالية الشديدة، يمكن أن يؤدي إلى انتفاضات في دول عديدة، ودعا إلى مزيد من مساءلة الحكومة، وأكد أن المظاهرات في بلاده التي أدت إلى سقوط عشرات القتلى وتدمير البنية التحتية العامة والتخريب على نطاق واسع في أواخر عام 2019، كانت نتيجة سنوات من الظلم.

تحالفات متوقعة

قادة اليسار في أميركا اللاتينية، يبدون مختلفين عن قادة الماضي، خاصة في حالتَيْ بيترو وبوريك، فصعود اليسار الجديد هو نتيجة للتطور السياسي في المنطقة، وتداعيات الوباء، وتحوُّلات جيوسياسية أوسع في العالم، أي إنه لا يُمثِّل نسخة أيديولوجية تقليدية؛ بقدر ما يتبنَّى نهجا أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، وفق تقرير لموقع “الجزيرة نت“.

قضايا تغير المناخ، ووعود التصدي لعدم المساواة الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وزيادة دور الدول في توفير خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، تتصدر أولويات قادة اليسار في القارة الأميركية حاليا.

نجاح بعض قادة اليسار، يعكس تحوّلات اجتماعية واضحة؛ حيث دفعت الحركات النسوية دول كولومبيا والأرجنتين والمكسيك إلى إلغاء تجريم الإجهاض، واعترفت تشيلي العام الماضي بزواج المثليين، لذلك كانت وعود حماية النساء والمثليين حاضرة في حملاتهم الانتخابية.

وصول اليسار قد يؤدي أيضا إلى تطور علاقات الدول اللاتينية فيما بينها، وهذا بدا واضحا من خلال تصريح سابق للرئيس الكولومبي بيترو لصحيفة “واشنطن بوست”، عندما قال أنه يتصور تحالفا تقدّميا مع تشيلي والبرازيل في المستقبل القريب.

إذا فاز لولا دا سيلفا بالانتخابات الرئاسية البرازيلية، فقد يكون هذا التحالف قوة معتبرة في نصف الكرة الغربي، ومن الممكن أن تكون هذه اللحظة التي تمتلك فيها أميركا الجنوبية زمام المبادرة، بحسب ما يتوقع برنارد أرونسون، كبير الدبلوماسيين الأميركيين لأميركا اللاتينية في عهد الرئيسين جورج بوش الأب وبيل كلينتون.

رغم انتصارات اليسار وقرب سيطرته شبه الكاملة على القارة اللاتينية، إلا أنه من الصعب الجزم بأنه المنقذ للقارة الجنوبية من الفقر، فالأمر متوقف على قدرة كل رئيس داخل دولته على تحقيق العدالة الاجتماعية في بلده، والقضاء على الفساد، دون التضحية بالكفاءة الاقتصادية.

بالمجمل، وصول اليسار إلى الحكم في القارة اللاتينية، يعني أن دول أميركا الجنوبية ستتجه مع مرور الوقت للعمل بشكل أكثر استقلالية، مما يفتح المجال أمامها لإعادة تحديد العلاقات الثنائية مع القوى الدولية، وعلى وجه الخصوص مع الصين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.