منذ اليوم الثلاثاء، سيصبح ريشي سوناك رئيسا لوزراء بريطانيا، بعد أن اضطرت ليز تروس إلى تقديم استقالتها بسبب ميزانيتها المصغرة التي طرحتها وتسببت بفوضى في الأسواق المالية.

يواجه سوناك أصعب ما يواجهه أي زعيم بريطاني منذ الحرب العالمية الثانية، لا سيما وأن البلاد تقترب من الشتاء مع ازدياد فواتير الطاقة وقوائم الانتظار في المستشفيات وتكاليف الاقتراض والتضخم، وترنج الجنية الاسترليني أمام الدولار وسلة العملات العالمية.

يميل رؤساء الوزراء في بريطانيا إلى التفكير في الأيام المائة الأولى من حياتهم كطريقة لتحديد نغمة رئاستهم للوزراء، وبالنسبة لسوناك، الذي أمامه ما يزيد قليلا عن عامين للحكم قبل أن يُطلب منه مواجهة انتخابات عامة، سيكون هذا الانطباع الأول مهمّا بشكل خاص.

أول رئيس حكومة من أصل هندي

سيكون ريشي سوناك أول زعيم من البشرة السمراء في بريطانيا وثالث زعيم للمملكة هذا العام فقط. وسيتولى رئاسة الوزراء خلفا لليز تروس، التي استقالت الأسبوع الماضي بعد 45 يوما مضطربا في المنصب، تاركة اقتصادا مضطربا وحزبا مصدوما ومنقسما.

تنازلت منافِسته الوحيدة، بيني موردونت، وانسحبت بعد فشلها في الوصول إلى عتبة ترشيح 100 من أعضاء البرلمان “المحافظين” اللازمة للبقاء في السباق.

في أول بيان علني له بعد أن أصبح زعيم حزب “المحافظين”، قال سوناك، إن البلاد تواجه “تحديا اقتصاديا عميقا”، ووعد بالعمل من أجل “الاستقرار والوحدة”. وقال إنه سيجعل من “أولويته القصوى” توحيد الحزب والدولة.

ولد سوناك في عام 1980 في مدينة ساوثهامبتون في إنجلترا، وهو الأبن الأكبر بين ثلاثة أبناء لوالديه القادمين من منطقة البنجاب في الهند. وكان والده طبيب أسرة ووالدته تدير صيدلية، حيث كان يساعدها. ودرس سوناك الأبن في مدرسة عامة في إنجلترا، وكان أول طالب من أصل هندي يتولى تحرير صحيفة المدرسة.

بدأ سوناك حياته المهنية في بنك “غولدمان ساكس” كمحلل مالي، وبعدها انتقل إلى العمل في صناديق التحوط في عام 2006، عندما انضم إلى صندوق “تي سي آي”، المعروف بمتانة وضعه المالي، وبعد 3 سنوات غادر هذا العمل ليعمل على تأسيس صندوق تحوط جديد.

في عام 2014، اختير ريشي سوناك ممثلا لحزب “المحافظين” في انتخابات البرلمان البريطاني عن دائرة ريتشموند في مقاطعة يوركشاير، وذلك قبل عام من الانتخابات العامة. وبعيد دخوله مجلس العموم البريطاني، بدأ معركته السياسية الأولى وهي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي عرفت بـ”البريكست”. وأيد سوناك مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، معتبرا أن بلاده ستكون أكثر حرية وازدهارا بالخروج من التكتل.

عيّنه رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، في منصب كبير في وزارة المالية في تموز/يوليو 2019، وأصبح الساعد الأيمن لوزير المالية حينها ساجد جاويد. وأدى خروج وزير المالية من منصبه في عام 2020، إلى صعود ريشي سوناك الأكبر على الساحة السياسية، إذ أصبح وزيرا للمالية في شباط/فبراير 2020، قبيل حدوث جائحة “كورونا”.

الاستقرار السياسي

بعد لقاء النائب المحافظ ريشي سوناك بالملك تشارلز في قصر باكنغهام اليوم الثلاثاء للمطالبة بتشكيل حكومة المملكة المتحدة، سيتعين عليه أن يتذكر أنه سيكون خامس رئيس وزراء لبريطانيا خلال ست سنوات. من بين الخمسة رؤساء، سيكون الثاني خلال عدة أشهر.

ومع ذلك، بالنسبة لريشي سوناك، فإن الطريق إلى قيادة البلاد ليس سهلا، خصوصا مع الاقتصاد المتصاعد والمشهد السياسي في حالة ركود، إلى جانب نقص الطاقة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع فواتير الطاقة المنزلية، ستتم مراقبة سوناك عن كثب في بريطانيا من اليوم الأول في منصبه.

لذا، عليه أن يتجنب أخطاء سلفه، ليز تروس، وأن يحافظ على نواب حزبه لتجنب أي احتكاك داخلي وقيادة الحكومة بشكل أوسع مما كانت عليه الحكومة خلال الأشهر السابقة.

خلال السباق الرئاسي الأخير، كان تركيز سوناك على أزمة تكلفة المعيشة وعواقبها المختلفة، لكن من المتوقع أن يتخذ موقفا متشددا جدا بشأن سياسات الهجرة واللاجئين، حيث أيد خطة اللجوء الرواندية المثيرة للجدل التي أعلن عنها في وقت سابق من هذا العام وحافظ على دعمه خلال الحملة.

ستظل المملكة المتحدة حليفا رئيسيا لحلف “الناتو”، وعلى ذات المسار للوصول إلى التزامات الإنفاق ونشطة في العمليات الجارية. ومن المرجح أن يبقى نفس الدعم الحكومي لأوكرانيا كما كان في عهد تروس وجونسون، وبالمثل، يتوقع الخبراء وفقا لمركز “أتلانتيك” للدراسات، أن يبقى موقف سوناك متشددا ضد الصين.

الاقتصاد المتعثر.. الحجر الأكبر

بالنسبة للكثير من الجمهور البريطاني، يُعتبر المستشار السابق وجها مألوفا، أعلن عن خطة الإجازة التي حظيت بشعبية كبيرة خلال جائحة فيروس “كورونا” في عام 2020.

الآن وفي أول خطابه له بعد توليه منصبه الذي سيتلوه بعد ظهر اليوم الثلاثاء، ستتمثل مهمة سوناك في طمأنة الناس بأن الحكومة ستدعمهم خلال فترة اقتصادية صعبة أخرى، لا سيما وأن نتائج الاستطلاعات تشير إلى أن الشعبية التي اكتسبها خلال الوباء تضاءلت.

كما أن الحكومة التي من المفترض أن يشكلها يوم غدا الأربعاء في أكبر اختبار لها حتى الآن، حيث سيتعين على حكومة سوناك أن تقرر ما إذا كانت ستلتزم بنهاية الشهر من طرح مشاريعها، وما هي الإجراءات التي يجب اتخاذها لطمأنة الأسواق؛ وكيفية سد الفجوة الهائلة في المالية العامة للمملكة.

تواجه بريطانيا مزيجا اقتصاديا من الركود وارتفاع أسعار الفائدة، يحاول بنك إنجلترا ترويض التضخم المكون من رقمين بينما يواجه المستهلكون ارتفاع التكاليف وانخفاض الدخل الحقيقي. ولذلك يتعين على بريطانيا أن تستعيد مصداقيتها المالية الدولية بعد خطة الزعيمة المنتهية ولايتها ليز تروس للتخفيضات الضريبية غير الممولة، وضمان أسعار الطاقة المكلفة التي أخافت سوق السندات الشهر الماضي وأجبرت بنك إنجلترا على التدخل.

لتحقيق التوازن بين عجز الميزانية الذي تفاقم بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض التي تسببت فيها الأزمة، سيضطر رئيس الوزراء الجديد على الأرجح إلى الإشراف على تخفيضات الإنفاق وزيادة الضرائب. ومن المقرر صدور بيان مالي يعالج ذلك في 31 تشرين الأول/أكتوبر الجاري.

يأتي ذلك في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة ضغوطا لمساعدة الأُسر الضعيفة من خلال ضغوط مالية قوية، مع قفزة في تكاليف الرهن العقاري، إضافة إلى ارتفاع أسعار الغذاء والتدفئة والوقود الناجم عن الحرب في أوكرانيا وعوامل عالمية أخرى.

معضلة إيرلندا الشمالية

بعد 12 عاما في السلطة، أصبح حزب “المحافظين” البريطاني أكثر انقساما من أي وقت مضى، استقال بوريس جونسون من منصبه كزعيم في تموز/يوليو الفائت بعد أن فقد ثقة نحو 60 وزيرا. أعلنت تروس استقالتها بعد 44 يوما فقط، ولم تتمكن أبدا من كسب احترام نوابها، وسيصبح سوناك خامس رئيس وزراء لحزب “المحافظين” منذ 2016، بعد ديفيد كاميرون وتيريزا ماي وجونسون وتروس.

سيتعين على سوناك، الذي أيّد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في عام 2016، التعامل الآن مع القضية الشائكة لقواعد التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في إيرلندا الشمالية، التي تجاور عضو الاتحاد الأوروبي جمهورية إيرلندا.

أخطر تلك العراقيل وأكثرها إلحاحا هي الأزمة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشأن ما يعرف ببروتوكول إيرلندا الذي يستوجب إجراء عمليات تفتيش جمركية إضافية على البضائع التي تدخل إيرلندا الشمالية من بريطانيا.

بروتوكول إيرلندا الشمالية، جاء مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ كان من السهل نقل البضائع عبر الحدود، حيث كان كلا الجانبين يطبق قواعد الاتحاد نفسها، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانت هناك حاجة لنظام جديد لأن الجمهورية الإيرلندية عضو في الاتحاد الأوروبي، في حين أن إيرلندا الشمالية ليست كذلك.

كلا الجانبين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقّع على بروتوكول إيرلندا الشمالية في إطار اتفاقية الخروج من الاتحاد

بدلا من تفتيش البضائع على الحدود الإيرلندية، نص البروتوكول على أن يتم ذلك بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا، وأدى ذلك إلى تهدئة المخاوف من عودة ما يعرف بـ”الحدود الصلبة” بين الشمال والجنوب، لكن الأحزاب الوحدوية ليست راضية عن البروتوكول، إذ تقول إنه يضعف مكانة إيرلندا الشمالية بالمملكة المتحدة.

بريطانيا تواجه تحديا عالميا

لقد أضرت الفوضى السياسية بسمعة بريطانيا فيما يتعلق بالاستقرار، وفقا لما ذكره كوينتين بيل، الزميل المشارك في مجموعة “تشاتام هاوس” البحثية، حيث قال “إنها فوضى حقا، ويبدو على المسرح الدولي وكأنه استهزاء بما كانت بريطانيا تمثله”. كما يقول كثير من البريطانيين، إنهم يريدون الاستقرار بعد سنوات من الاضطرابات السياسية.

خلال خطابه القصير أمس الإثنين، قال سوناك إن “المملكة المتحدة بلد عظيم، ولكن لا شك أننا نواجه تحديا اقتصاديا عميقا، نحن الآن بحاجة إلى الاستقرار والوحدة”. في هذه المرحلة، لم يكشف سوناك عن تفاصيل حول خطته الاقتصادية كرئيس للوزراء، لكن يبدو أن المستثمرين يأخذون رئاسته للوزراء على محمل الجد والمزيد من التفاؤل.

وصل سعر صرف الجنيه الاسترليني إلى حوالي 1.13 دولار أميركي وهو أعلى بقليل مما كان عليه في 22 أيلول/سبتمبر الفائت قبل خطة خفض الضرائب التي طرحتها تراس، والتي عكّرت الأسواق ودفعت الجنيه إلى الانخفاض الحاد وارتفعت تكاليف الاقتراض.

فقد هبطت عائدات السندات الحكومية من أعلى مستوياتها مؤخرا. وبعد ظهر أمس الاثنين، بلغ العائد على السندات ذات السنوات العشر حوالي 3,75 في المئة، بعد الإغلاق عند 4 بالمئة يوم الجمعة الفائت. ما يعني أنه أقل مستوى منذ البيان المالي الذي أصدرته حكومة السيدة تراس في أيلول/سبتمبر الفائت.

من الواضح أن أسعار الفائدة المنخفضة سوف تكون مصدر راحة لرئيس الوزراء البريطاني الجديد. فمن ناحية، سوف تعمل أسعار الفائدة المنخفضة على تقليص كم الأموال التي سوف تحتاج وزارة الخزانة إلى تخصيصها لسداد أقساط أسعار الفائدة، وهو ما من شأنه أن يخفف من خفض الإنفاق والزيادات الضريبية. ولكن هناك تذكيرات أخرى بالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا.

في اليوم الذي قال فيه ريشي سوناك أولى كلماته بعد فوزه بالمنصب، انخفض حجم النشاط الاقتصادي في بريطانيا حيث سجلت صناعة الخدمات أسوأ انخفاض شهري منذ كانون الثاني/يناير 2021 وفقا لمؤشر “مديري المشتريات” الذي يقيس الاتجاهات الاقتصادية. وانخفض مؤشر كل من الخدمات ونشاط التصنيع إلى 47.2 نقطة. والقراءة تحت 50 تعني انكماشا في النشاط.

مع فوزه برئاسة الحكومة البريطانية، يواجه ريشي سوناك، تراكمات عديدة على مدار أشهر من الاستراتيجيات الخاطئة، والتضخم والشلل الحكومي والبرلماني، والغزو الروسي المستمر لأوكرانيا، والتراجع الخطير في الخدمات العامة، لاسيما القطاع الصحي، والأهم، أنه سيكون في مواجهة حزب منقسم، يكافح من أجل الوصول إلى الانتخابات العامة المقبلة، بل إنه أيضا يكافح من أجل تجنب انتخابات مبكرة، فهل ينجح سوناك بذلك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة