أزمة واضحة في العلاقات الألمانية الفرنسية، لكنها تأتي في غير وقتها تماما، إذ تزداد في هذا التوقيت الحاجة للتعاون والتماسك بين البلدين، خاصة في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا وأزمة الطاقة التي تمر بها القارة العجوز، فهل تنعكس هذه الأزمة على “الاتحاد الأوروبي”.

غالبا ما تجتمع الحكومتين الألمانية والفرنسية معا في كل عام، كونهما أكبر اقتصادين في “الاتحاد الأوروبي”، ويخرج الاجتماع بتأكيد التعاون بين باريس وبرلين، لكن تأجيل اجتماع هذا العام إلى بداية العام المقبل، يؤكد على وجود خلافات عميقة بين البلدَين الشريكَين.

منذ بدء عقد هذا الاجتماع عام 1963، وتثبيته بموجب اتفاق بين البلدين لم يتم إلغاء أو تأجيل أي اجتماع على الإطلاق، لكن تأجيل اجتماع هذا العام، يؤكد الخلاف بين باريس وبرلين، بحسب نائب مدير “المعهد الألماني الفرنسي”، شتفان زايدندورف.

الباحث السياسي زايدندورف، أردف أنه لا يمكن تطبيق مبدأ الواقعيين الأميركيين القائم على أن البلد الكبير جدا يتولى دور القيادة بمفرده ويتبعه الآخرون، إذ “ليس هناك بلد أوروبي كبير بما يكفي ليضمن الاستقرار بمفرده، ولذا نحتاج إلى إجماع أساسي بين فرنسا وألمانيا اللتين دائما تكون مواقفهما متباعدة. ويمكن للدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تهتدي بهذا الحل الوسط”.

حاليا يبدو أن البلدين يفضلان السير في طريق منفرد، فقبل مدة قصيرة أقرت برلين حزمة مساعدات قيمتها 200 مليار يورو لمواجهة ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء، دون إحاطة الشريك الفرنسي بذلك مسبقا، وهوما أثار حفيظته. فهكذا حزمة مساعدات يمكن أن تشوه وتؤثر على المنافسة في السوق.

“الانقسام يخدم بوتين”

علاوة على ذلك، وقّعت ألمانيا على هامش مؤتمر “حلف الناتو” الأخير مع 14 دولة أوروبية أخرى، من دون فرنسا، على مشروع مشترك للدفاع الجوي أطلق عليه اسم “مبادرة درع السماء”، رغم أن فرنسا تعمل مع إيطاليا على تطوير مشروع مظلة مضادة للصواريخ باسم “مامبا”.

في القمة الأوروبية الأخيرة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن بلاده بالتعاون مع البرتغال وإسبانيا، تريد بناء خط جديد لنقل الهيدروجين، وفي حالات الطوارئ الغاز أيضا بين برشلونة ومارسيليا.

هذا المشروع سيكون بديلا لخطط بناء أنبوب لنقل الغاز بين إسبانيا وفرنسا عبر جبال البرينيه، والذي كانت تفضله ألمانيا، وقال ماكرون خلال القمة “ليس جيدا لألمانيا ولا لأوروبا أن تعزل ألمانيا نفسها”.

“الطرفان منزعجان من بعضهما” بحسب زايدندورف، الذي يضيف وفق تقرير لموقع “دي دبليو”، “تعتقد ألمانيا أنه يمكنها تجاوز فرنسا وتحقيق إجماع متعدد الأطراف مع الدول الصغيرة. وماكرون منذ خطابه في السوربون عام 2017، ينتظر من ألمانيا المزيد من الاندماج الأوروبي”.

هذه الأزمة لا تجدها كبيرة المحللين السياسيين في مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، صوفيا بورنشليغل، “شيئا سارا”، وتقول “ليس لدينا الوقت لهكذا شيء، هناك حرب في أوروبا ونواجه أزمة طاقة”.

“إذا كنا محظوظينَ ولم يصبح الجو باردا جدا، سنتجاوز هذا الشتاء، ولكن على المدى الطويل نحتاج حلا أوروبيا لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، على سبيل المثال تأسيس صندوق تضامن. فإذا لم نستطع تأمين الطاقة فإن ذلك سيؤدي إلى أزمة اقتصادية ومعدلات بطالة مرتفعة”.

الانقسام الأوروبي يخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن هذا يجعل أوروبا غير قادرة على التحرك والتصرف، بحسب بورنشليغل.

الأزمة الحالية أعمق من الخلافات السابقة بين البلدين، ففرنسا وعلى عكس ألمانيا تطالب بالطاقة النووية، وهذا الخلاف بالرأي بين باريس وبرلين، بالنسبة للباحثة السياسية في المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن في برلين رونيا كيمبين، يعبّر عن معارضة أساسية وقوية.

خلاف بقضايا الدفاع

“يريد ماكرون منذ فترة طويلة أن يعمل الاتحاد الأوروبي ضمن مجموعات صغيرة معنية بقضايا محددة، وهو ينظر بريبة لتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقا قبل إصلاح الآلية التي يعمل بها الاتحاد. والاتحاد الأوروبي بالنسبة لفرنسا هو وسيلة لزيادة القوة”، وفق كيمبين.

وفق الخبيرة بالعلاقات الفرنسية الألمانية، فإن ألمانيا على عكس ذلك، تميل إلى توسيع “الاتحاد الأوروبي” باتجاه الشرق؛ لأنها تنظر إلى “الاتحاد الأوروبي” كوسيلة تغيير تجلب السلام.

هناك خلاف عميق بين فرنسا وألمانيا في قضايا الدفاع أيضا، فصحيح أن ألمانيا قد غيرت سياستها التقليدية وزادت نفقاتها العسكرية، لكنها تعول على الشراء المباشر بدل المشاريع الأوروبية المشتركة، وهو أيضا ما يتعارض مع الموقف الفرنسي، حسب كيمبين.

ماكرون، يعتبر أن ألمانيا أمام مسؤولية تاريخية، لكنها بدلاً من أن تقف أمام مسؤولياتها تحاول التغريد خارج سرب “الاتحاد الأوروبي” في مسائل الدفاع والطاقة.

بينما ترى ألمانيا، أن الرئيس الفرنسي حاول إجبار المستشار الألماني أولاف شولتس على تحديد سقف أسعار الغاز، الأمر الذي وصفته صحف ألمانية بأنه محاولة لإرضاخ برلين من خلال تصريحات قاسية وإلحاح لم يتوقف.

هذا التباين تعززه وقائع كثيرة، منها جمود مشاريع الدفاع المشتركة، فألمانيا تقود مبادرة -من دون فرنسا- لإقامة درع جوي، على أساس معدات أميركية وإسرائيلية، وهذا أمر وجدت فيه باريس خرقاً لمبدأ السيادة والاستقلال.

ففي وقت وجدت فيه فرنسا الفرصة سانحة لتسويق مبادرة ماكرون حول تعزيز السيادة والاستقلال الأوروبيَين في مسائل الطاقة والدفاع، بعد الحرب الأوكرانية، كانت ألمانيا غير جاهزة لسماع أطروحة الرئيس الفرنسي حول هذه المسألة عندما ترأست بلاده “الاتحاد الأوروبي” في دورته الماضية.

كذلك ألمانيا عندما شعرت بجدية التهديد العسكري-الأمني الذي تشكله الحرب في أوكرانيا على أوروبا، وعليها بشكل خاص، لم تلجأ لشراء طائرات “رافال” الفرنسية، بل توجهت إلى الولايات المتحدة.

انهيار أم استمرار “الاتحاد الأوروبي”؟

في توجه ألمانيا إلى الولايات المتحدة مبرر قوي؛ لأن “الاتحاد الأوروبي” يعيش واقعاً صعباً، تزيّنه صورة التضامن والرفض للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن خلف ذلك انقسامات عميقة جدا، لا سيما في الجانبين الأمني والعسكري، ويضاف إلى ذلك مسألة “البريكست”، التي ما تزال تداعياتها قائمة إلى اليوم، مع حتمية الانحياز البريطاني إلى السياسة الأميركية.

بعد مداولات طويلة وشاقة، قبلت ألمانيا مبدأ المشتريات المشتركة للغاز، لكنها لا تزال تجد صعوبة، بل ترفض بشكل حاد، وضع سقف للأسعار، فالنموذج الألماني في الاستهلاك، كان يعتمد بشكل كبير على روسيا بالدرجة الأولى، وعلى الصين بدرجة أقل، وهذا يجعل ألمانيا عاجزة عن أن تقرر شؤون الطاقة ومستقبل اقتصادها وحدها في سياق “الابتزاز الروسي” لها، الذي كان له دور كبير في قراراتها.

المستشار الألماني شولتس، يبحث عن توافق في حكومة مؤلفة من 3 أحزاب (الديمقراطيين الاجتماعيين والمدافعين عن البيئة والليبراليين)، ما يجعله منهمكا في تسوية الشؤون الداخلية أكثر من اهتمامه بشؤون “الاتحاد الأوروبي”، مقابل أريحية فرنسية يملكها ماكرون المتمتع بسلطة مطلقة فيما يتعلق بالشؤون الخارجية.

كل تلك الوقائع جعلت المَهمة في غاية التعقيد بالنسبة للمستشار الألماني، ووضعه في نقاش لم ينتهِ إلى اليوم حول نموذج الطاقة والاقتصاد والدفاع، ودفعه لاتخاذ قرارات يعتبرها كثيرون “لم تخضع لمبدأ الحكمة” الذي يُعرف عن هذا البلد، مثل مراجعة اعتماده على الغاز الروسي، والاستثمار الكبير في الجيش، وتمديد عمر آخر 3 محطات للطاقة النووية في البلاد، والسماح لشركة صينية بالاستثمار في ميناء هامبورغ.

الحرب في أوكرانيا أيقظت دولا أوروبية كثيرة، ودفعتها لإعادة صياغة استراتيجياتها الجيوسياسية، وبالنسبة لألمانيا، يرتسم مبدأ إعادة صياغة استراتيجيتها الجيوسياسية في خطاب شولتس عندما أفصح عن رؤيته لمستقبل “الاتحاد الأوروبي” خلال قمة براغ الأخيرة، وضرورة أن تتجه أوروبا نحو دول شرق القارة لتحقيق شرط الوساطة بين شرق وغرب أوروبا، وفي ذلك تحجيم للدور الفرنسي-الألماني، وفق تقرير لموقع “العربية نت”.

لا مفاوض قوي في إطار العلاقات الدولية دون تكتل قوي اقتصادياً كالاتحاد الأوروبي حتى اللحظة الراهنة، لكنه بات على كف عفريت في ظل الخلاف المتواتر بين ألمانيا وفرنسا بسبب أزمة الطاقة العالمية.

رغم كل الخلافات الحالية بين ألمانيا وفرنسا، يرى خبير العلاقات الفرنسية الألمانية، شتفان زايدندورف، أن هناك بصيص أمل يلوّح في الأفق، بقوله “حتى الآن أدركَ كل القادة الفرنسيين والألمان في النهاية أنه لا يمكن الاستغناء عن الآخر، حتى عندما يكون الوصول إلى حل وسط صعبا”.

بالمحصلة، فإن الخلافات بين ألمانيا وفرنسا إذا ما استمرت دون حل، قد تكون مقدمة لانهيار جدار “الاتحاد الأوروبي” وتؤدي إلى تفككه، أما إذا تمكنت باريس وبرلين من إنهاء خلافاتهما، فإن ذلك يعني استمرار تكتل “الاتحاد الأوروبي”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة