بينما يترافق موسم قطف الزيتون في الدول المجاورة باحتفالات وطقوس تشبه الأعياد من كل عام، يجد عمال قطف الزيتون السوريين أنفسهم أمام مقامرة قد تكلّفهم حياتهم مقابل أجور بخسة وساعات عمل طويلة، في وقت تقل فيه فرص العمل في الشمال السوري، وتنخفض القوّة الشرائية للسكان، ما يجعلهم أكثر قابلية للمخاطرة والذهاب للقطف في بيئات شديدة الخطورة.

في مثل هذه الأيام من كل عام، يكون موسم حصاد الزيتون في أوجه، تلك الشجرة التي ترمز للسلام والبركة، تعتبر مكوّن رئيسي للزراعات في أرياف شمال البلاد، غير أن هذا الموسم يضطر العمّال إلى القطف في حقول هي في ذات الوقت حقول زيتون وحقول ألغام غير منفجرة.

انتهى موسم القطاف هذا، غير أن العمال الذين شاركوا في عمليات القطاف كانوا ضحية الاستهداف المباشر من جهة، وضعف الرواتب إلى حد وصف البعض ظروف العمل بـ “العبودية”.

دولارين ونصف يوميا

“الحل نت” سأل خمسة رجال سوريين عملوا في قطاف الزيتون في هذا الموسم عن الرواتب التي تقاضوها وساعات العمل التي قضوها يوميا، البعض منهم عمل في ريف حلب، وآخرين في ريف إدلب الجنوبي والغربي، فاجتمعت الإجابات على رواتب وساعات عمل متقاربة، الجميع عمل لساعات طويلة وتقاضى أجورا بخسة.

في ريف إدلب الجنوبي، قال الشقيقان حمزة وياسر، لـ “الحل نت”، إنهما عملا في قطف الزيتون لمدّة 10 ساعات يوميا مقابل 60 ليرة تركية عن كل يوم، وهو ما يعادل نحو ثلاثة دولارات ونصف.

ياسر الشقيق الأكبر، قال “سمعنا أن هناك مزارع أعطت أجورا تصل إلى 80 ليرة، ومزارع أخرى منحت العمّال 40 ليرة تركية فقط، نحن عملنا في هذا الحقل لأن الرواتب كانت متوسّطة، وكان موقع العمل قريبا من قريتنا، لذلك لم نتكلف كثيرا بأجور المواصلات” وفق تعبيره.

قبول ياسر بهذا الأجر يعود إلى أن الأجور في الشمال السوري بشكل عام منخفضة للغاية، ولا تتناسب مع الأسعار في الأسواق حيث يقول، إنه “خلال الأشهر الست الفائتة، بدّل عمله أكثر من ثلاث مرّات، في بعض الأحيان تكون الرواتب جدا منخفضة وفي بعض الأحيان لا يتحمّل جسده الضغط الشديد للعمل فيتوقّف عنه”، لافتا إلى أنه لو وجد عملا بظروف أفضل، لما عمل لهذه الساعات الطويلة في مزارع الزيتون مقابل أجر كهذا، على حد وصفه.

أبو أحمد، أب لثلاثة أطفال يعيش في ريف إدلب، يصف خلال حديثه لـ”الحل نت” ظروف العمل في قطاف الزيتون هذا العام بـ “العبودية”، حيث يقول إن “غالبية أصحاب المزارع اجتمعوا على منح أجور بخسة لعمّال القطاف، وهذا يعني وجود إجماع على استغلال العمال الذين ليس لديهم إلّا حل واحد للعمل بهذه الأجور”.

موسم الزيتون يجلب رزقا وفيرا لأصحاب الأراضي الزراعية، لذلك لن يخسروا الكثير لو منحوا أجورا جيدة، بحسب أبو أحمد، كما لفت إلى أن ظروف العمل كانت قاسية وتحت الضغط لقطف أكبر كمية ممكن خلال ساعات اليوم.

الاستهداف المباشر

في كل عام، بالتزامن مع موسم حصاد الزيتون في ريف إدلب الجنوبي، تتعرّض المزارع لاستهدافات متكرّرة من جهة مناطق سيطرة القوات الحكومية، والتي تبعد بضعة كيلو مترات عن مزارع ريف إدلب الجنوبي، وفق حديث مسؤول برنامج إزالة الذخائر غير المنفجرة، محمد سامي المحمد، لـ”الحل نت”.

فرق “الدفاع المدني” استجابت منذ 23 أيلول/سبتمبر، حتى 30 من تشرين الأول/أكتوبر، لخمس هجمات مباشرة استهدفت المدنيين أثناء جني الزيتون، أدت تلك الهجمات لإصابة تسعة مدنيين بجروح، بينهم 5 أطفال و3 نساء، وثلاثة من تلك الهجمات كانت بصواريخ حرارية موجهة وهي الأخطر بسبب دقة إصابتها.

إحدى هذه الهجمات، نجا منها الشاب السوري فصيل اليوسف، الذي قال لـ “الحل نت”، إنه “بينما كنّا نقوم بقطاف الزيتون، سقطت قذيفة مدفعية بالقرب منا، وأصابت طفلة بجروح تم نقلها إلى المستشفى”.

فيصل المنحدر من ريف حماة الشمالي، عمل هذا الموسم لحوالي 10 ساعات يوميا مقابل 50 ليرة تركية (نحو 2.5 دولار) وقال إنّه، “غامر بحياته من أجل هذا المبلغ الزهيد، لأنّه لم يجد عملا منذ بضعة أشهر، حتّى أن احتياجات أسرته الأساسية بات غير قادر على تحصيلها، وفق تعبيره.

مخاطر مخلّفات الحرب

لم يسجل هذا العام أي إصابات بمخلّفات الحرب، غير أن الأعوام الماضية سجّلت عدّة إصابات خلال موسم قطف الزيتون. خلال سنوات الحرب السورية، فقد 3058 شخصا أرواحهم، وأصيب نحو 10 آلاف ببتر أطراف أو إصابات بالغة، بسبب هذه المخلّفات وفقا لإحصاءات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

هذه المخلّفات تنتشر في معظم الأراضي السورية، ولاحظ “الحل نت” أن غالبية المناطق التي تحتوي على مزارع الزيتون فيها مخلّفات للحرب، ومنها كامل ريف إدلب الجنوبي والغربي، وكامل ريف حماة الشمالي والغربي، إضافة إلى الأجزاء الشمالية والجنوبية والغربية من ريف حلب، وكامل مدينة الرقة وأرياف دمشق ودرعا.

استمرار وجود هذه المخلّفات، يعتبر انتهاكا لمعاهدة حظر الألغام (معاهدة أوتاوا) التي وقعت عليها 164 دولة منذ عام 1997 حتى الآن، لم تكن سوريا ضمن هذه الدول الموقّعة.

فيما يبدو أن تراجع وتيرة الإصابات بمخلّفات الحرب هذا الموسم، كانت نتيجة لعمليات مطوّلة لإزالتها من مزارع الزيتون، وذلك على عكس السنوات الماضية، التي شهدت إصابات واسعة بين العاملين في القطاف.

في هذا الصدد يشرح محمد سامي المحمد بإن “مراكز الذخائر بالدفاع المدني، ركزت خلال الفترة الماضية على المناطق التي تكثر فيها عمليات جني محصول الزيتون، وذلك بمختلف النشاطات التي تقوم بها هذه المراكز من مسح غير تقني، وعمليات إزالة وتوعية من مخاطر الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة”.

فرق المسح غير التقني، عملت على تكثيف زياراتها للقرى التي تنتشر بها بساتين الزيتون في شمال غرب سوريا، حيث عملت من خلال الاستبيانات التي قامت بجمعها على تحديد المناطق الملوثة بالذخائر غير المنفجرة، وتحديد أماكن انتشار الذخائر لكي تقوم فرق الإزالة، بتأمين المناطق من خلال عمليات الإزالة، والتخلص النهائي من الذخائر غير المنفجرة ومع المتابعة مع السكان المحليين من خلال تلقي البلاغات حول أماكن وجود الذخائر.

منذ بداية العام الحالي حتى 27 تشرين الأول/أكتوبر، تمكنت فرق “الدفاع المدني” من إتلاف 721 ذخيرة، والقيام بأكثر من 1000 عملية مسح غير تقني تم خلالها تحديد 341 منطقة على أنها ملوثة بالذخائر غير المنفجرة، بحسب المحمد.

الرواتب منخفضة

رغم جودة الزيتون السوري وزيوته عالميا، إلّا أنّه تلّى حصته من الخسائر التي خلّفتها الحرب، وبالتالي تعرّض أصحاب الأراضي الزراعية إلى خسائر فادحة.

في السابق كانت سوريا تحتل المرتبة السابعة عالميا بتصدير الزيتون ومشتقاته، والثانية عربيا بعد تونس، حيث كانت الصادرات تباع إلى دول عربية وأوروبية، وذلك وفقا لتقرير سابق لـ”المركز السوري” للسياسات الزراعية. لكن هذا الإنتاج انخفض حيث هبطت الصادرات وحدها من 112 ألف طن سنويا قبل الحرب، إلى 30 ألف طن في العام الواحد.

كل هذه الخسائر العامة ترافقت مع خسائر لأصحاب الأراضي الزراعية، وهنا يتحدّث أحد ملّاك مزارع الزيتون (فضل عدم الكشف عن اسمه) لـ”الحل نت” قائلا، إن “توفير الوقود وسعره، بالإضافة للسماد والري وغيرها من الأمور اللوجستية، أصبح تأمينها أصعب مما نتصور، كل ذلك جعل بعض أنواع الزراعات خاسرة بالنسبة للفلاحين، باستثناء موسم الزيتون الذي بقي رابحا ولكن مع شقّ الأنفس” حسب تعبيره.

منتجات الزيتون تمثل المصدر الرئيسي لكثير من سكان الشمال السوري، ومع تجاهل معاناة المزارعين وتركهم يواجهون صعوبات عدة تعيق عمليات إنتاج الزيتون، من تكاليف مرتفعة وآفات زراعية تهدد المحصول، إضافة إلى المتغيرات المناخية، فإن حجم خسائر هذا القطاع مرشح للزيادة وبالتالي ضرره ينعكس على الجميع في سوريا.

عدد أشجار الزيتون في سوريا يبلغ، وفق إحصائية وزارة الزراعة، نحو 106 ملايين شجرة، منها 82 مليونا مثمرة، وتتوزع زراعة الزيتون في المنطقة الشمالية إدلب وحلب، بنسبة 46 بالمئة، وفي المنطقة الوسطى حمص وحماة، بنسبة 24 بالمئة، وفي المنطقة الساحلية طرطوس واللاذقية، بنسبة 18 بالمئة، وفي الشرقية دير الزور والحسكة والرقة، بنسبة 2 بالمئة، لتدخل مناطق الجنوب درعا والسويداء حديثا وبوتيرة زراعة عالية، بنسبة 10 بالمئة، ما أوصل الإنتاج المتوقع إلى أكثر من 800 ألف طن هذا العام من الثمار، ونحو 125 ألف طن من زيت زيتون.

قد يهمك: زيتون إدلب ينتظر المعاصر والألم يعتصر قلوب الفلاحين

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.