موجات الجفاف الكبيرة التي ضربت كينيا، التي لم تشهد أمطارا جيدة منذ ثلاث سنوات. يواجه ما لا يقل عن 18 مليون شخص في القرن الإفريقي جوعا شديدا في ظلّ أسوأ فترة جفاف تضرب المنطقة منذ 40 عاما، وهو ما ينذر بحدوث صراع على الموارد بين المزارعين والحيوانات.

التنوع البيولوجي

وفق أرقام نقلتها وكالة “فرانس برس” يعاني نحو 950 ألف طفل دون سنّ الخامسة و134 ألف امرأة حامل أو مرضعة، في المناطق القاحلة النائية في كينيا، من سوء التغذية الحاد. وفي حزيران/ يونيو الماضي توقّع “البنك الدولي” أن يؤدي الجفاف والأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية إلى إعاقة تعافي كينيا اقتصاديا من تداعيات جائحة فيروس “كورونا”.

في حين أن موجات الجفاف هذه لم تساعد السكان على زراعة أراضهم. وتداعيات الجفاف نتيجة تغيّر المناخ لم تؤثر على المزارعين فقط، بل كان لها تأثير على الحيوانات التي لم تجد مياها صالحة للشرب، لا سيما الأفيال التي بدأت تجوب المنطقة بحثا عن الطعام والمياه. وتستهلك الأفيال 200 كيلوغرام من النباتات يوميا، و200 لتر من المياه يوميا.

عادات الحيوانات تبدلت في كينيا ولم تعد تخشى الناس بشكل كبير. وتشير راشيل كينيدي التي تعيش على مقربة من موتوكو إلى زيادة حركة الأفيال في الفترة الأخيرة، إذ باتت تقترب من مساكن الناس بحثا عن الطعام والشراب.

هذا وتعد منطقة تسافو موطنا لأكبر تجمعات للأفيال في كينيا، وهي تغطي نحو 4 بالمئة من مساحة الأراضي في البلاد. وارتفع عدد الأفيال في كينيا من حوالي 13 ألفا عام 2007 إلى أكثر من 14897 عام 2021، على الرغم من الضغوط الناجمة عن الصيد الجائر، والصراعات، والجفاف. حيث قال وزير السياحة المنتهية ولايته نجيب بلالا، لهيئة البث البريطانية “بي بي سي”، في وقت سابق من هذا العام، إنّ أزمة المناخ تقتل “الأفيال أكثر من الصيد الجائر بعشرين مرة”.

بحسب بلالا، فإنّ كينيا فقدت 179 فيلا؛ بسبب الجفاف بين كانون الثاني/ يناير، وحزيران/ يونيو من هذا العام؛ لأنّ البلاد “نسيت الاستثمار في إدارة التنوع البيولوجي”. ويضطر السكان المحليون إلى استخدام وسائل مختلفة لإبعاد الأفيال.

هذا ويؤثر الجوع على أربعة ملايين شخص على الأقل في البلد الذي يزيد عدد سكانه عن 50 مليون نسمة. وبحسب السلطات، أثّر الجفاف على 23 مقاطعة من أصل 47 في البلاد.

قد يهمك: خطر الهجوم الصيني على الفلبين.. ما احتمالية تفعيل “الدفاع المشترك” لواشنطن؟

الجفاف يغرق الطبيعة

إن الإفراط في رعي الماشية والجفاف التاريخي المتفاقم بسبب أزمة المناخ، يقضيان على الحياة البرية ويدفعان بملايين من الناس في القرن الإفريقي إلى حافة المجاعة، وفقا لـ”اندبندنت“.

حيث أن أنواع الحيوانات الصلبة العود والمقاومة للجفاف، كالحمير الوحشية والفيلة، تُنفق بشكل جماعي. أما النسور التي أصبحت سمينة من شدة افتراسها للجيف، فباتت بالكاد تقوى على الطيران، وكأن الطبيعة انقلبت رأسا على عقب في كينيا.

في جنوب كينيا التي تُعد موطنا لبعض أكثر المراعي إنتاجية في العالم، تمتد شجيرات خالية الأوراق على مدى أميال طويلة، فيما تصاب الحيوانات بالإنهاك وتنفق من الجوع، وسط الغبار الذي يغطي متنزه “أمبوسيلي الوطني”.

مشاهد مروعة التقطها مصور الحياة البرية تشارلي هاميلتون جيمس، الذي توجه إلى المنطقة في وقت سابق من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري مع الناشطة الكينية البارزة في مجال البيئة الدكتورة باولا كاهومبو، لتوثيق آثار الجفاف بدعم من “جمعية ناشيونال جيوغرافيك”.

المصور يقول في وصف مشاهداته، “لقد اندثر كل شيء. ليس هناك ما نأكله. إنها فعلا صحراء قاحلة”. ويتذكر رؤيته لحمار وحشي وهو يسقط نافقا بعد تمكنه من الوصول بجهد جهيد إلى حفرة مائية، حسب “اندبندنت”.

جيمس أردف، “يمكن رؤية الكثير من الحيوانات النافقة حول آبار الري. لا أدري ما الذي يحصل. فتلك الحيوانات تصل في نهاية المطاف إلى الماء وتشرب منه ثم تنهار وتنفق، أي تلفظ أنفاسها”.

هذه الحال ليست مجرد مأساة فقط بالنسبة إلى الحياة البرية والزراعة في المنطقة. فالجفاف ونفوق المواشي وتغير النظام البيئي، كلها عوامل مجتمعة تنعكس سلبا بشكل هائل على ثقافة المنطقة واقتصادها وشعبها. هذه الأزمة متعددة الجوانب، إنما تسلط الضوء على التداعيات التي يمكن أن يتسبب فيها تغيّر المناخ، لجهة تهديد الأنظمة البنيوية الحرجة أصلا ودفعها إلى الانهيار.

بالرجوع إلى لغة الأرقام، يواجه نحو 21 مليون شخص خطر المجاعة في كل من الصومال وإثيوبيا وكينيا، حيث تشهد المنطقة خامس موسم متتال من غياب الأمطار. وكان الدكتور غوليد أرتان مدير مركز المناخ الإقليمي لشرق إفريقيا، التابع لـ”المنظمة العالمية للأرصاد الجوية”، قد نبّه في الصيف الأخير قائلا، “نحن على شفير كارثة إنسانية غير مسبوقة”.

بحسب الدكتورة كاهومبو، التي تنتمي إلى فريق المستكشفين لدى “ناشيونال جيوغرافيك” والمديرة التنفيذية لمنظمة الحفاظ على الموارد البيئية “وايلد لايف دايريكت”، فإن جذور الأزمة القائمة هي أعمق من تغيّر المناخ وحده، إذ إن الرعي الجائر الذي تقوم به الماشية وغيرها من الحيوانات، أسهم في إتلاف التربة في أجزاء مختلفة من كينيا، مما أدى إلى إفقاد المراعي مرونتها، وتجريدها من التنوع البيولوجي، وإفساح المجال لتكاثر النباتات القاسية، وانتشار “الأنواع الغازية” للأراضي التي تنتشر خارج نطاق التوزيع الطبيعي، وتهدد النظم البيئية، التي تتجنب الحيوانات استخدامها غذاء لها.

كاهومبو تقول، “صحيح أن النظام قد يتضرر أو يتدهور بسبب الرعي الجائر، لكن تغيّر المناخ يمكن أن يدفع به إلى ما بعد نقطة التحول، هذا ما نراه في شمال كينيا، وهذا ما بدأنا نراه في جنوبها، إذ لم يسبق أن لاحظنا ذلك في جنوب كينيا. ولم نشهد مطلقا هذا المستوى من الانهيار الكارثي، بحيث عندما تستفيق في الصباح ترى من حولك حيوانات نافقة في كل مكان”.

بحسب التقرير، فإن المسؤولين في البلاد تلقوا منذ فترة طويلة تنبيهات إلى أن المنطقة كانت مقبِلة على مثل هذه الظروف، لكن الدكتورة كاهومبو تقول، إن الخطر كان “غير مرئي” لأعوام، إما بسبب تفشي جائحة “كوفيد”، أو الانتخابات، أو اقتصار التداعيات الأولية على الحيوانات وعدم تسببها بعد بكثير من الوفيات البشرية أو المجاعات على نطاق واسع، لكن في الوقت الحالي، بدأت الانعكاسات على الناس تظهر للعيان.

كذلك، الأطفال الذين كانت عائلاتهم تعتمد على ماشيتها لتأمين الغذاء أو تحقيق دخل لها، يرتادون المدارس وهم في حال من الجوع الشديد، أو يضطرون إلى ترك مقاعد الدراسة لأنهم لا يستطيعون تحمل رسوم التعليم، ما حدا بسكان الريف تالياً إلى الانتقال إلى المدن للعثور على عمل.

في سياق متّصل، شعب الماساي الذي يتألف من مجموعات شبه رحّل وتُعرف بقطعان ماشيتها، يشهد تهديدا لجزء أساسي من ثقافته وتلاشي ثرواته في لحظة من الزمن. فالأبقار التي كانت تتمتع بصحة جيدة وكان الرأس منها تبلغ قيمته ألف دولار أميركي، بالكاد تباع الآن بـ 10 دولارات، وهي هزيلة الشكل وفي حال مزرية، ما اضطر بعض الأفراد إلى بيع أراضيهم لمواصلة العيش.

هذا ومن الممكن أو المرجح أن يتم تحويل هذه المراعي السابقة إلى مواقع زراعية، على الرغم من أن مزارعين في البلاد أفادوا بأن حيوانات جائعة تبحث عن محاصيل زراعية لتقتات منها، لأن الجفاف يهدد الإمدادات الغذائية العادية لتلك الكائنات.

قد يهمك: اشتعال التوترات بين إيران وأذربيجان.. ما علاقة المكاسب الجيوسياسية الأذربيجانية والتركية؟

وسائل مختلفة

مدير محمية لومو للحياة البرية جوزيف موانيالو، التي تبلغ مساحتها 48000 فدان “19000 هكتار”، أشار إنه مع عام إضافي من الجفاف ستزداد مثل هذه النزاعات بين الحيوانات والمزارعين. ومنذ عام 2018، بدأت المحمية التي تسمح برعي الماشية في جمع التبن وبيعه للرعاة بسعر مدعوم، ونجحت هذه الخطة في تخفيف حدّة النزاعات بين الإنسان والحياة البرية، وقد امتنع الرعاة عن الرعي في المناطق المخصصة للسياحة.

غير أنه مع انخفاض تساقط الأمطار، لم يعد هناك من تبنٍ لجمعه في الآونة الأخيرة، وهو الوضع الذي سيشهد منافسة شديدة بين البشر والماشية والحيوانات البرية على الموارد الشحيحة داخل منطقة الحماية.

إلى جانب وسيلة أخرى، وهي إبعاد الأفيال عن المَزارع تتمثل بوضع سياج بيولوجي على غرار زراعة بذور عباد الشمس التي تُبعد الأفيال، كما تساعد القرويين. ويمكن أيضا تأسيس سياج من خلايا النحل متصلة بأسلاك، إذ تساعد هذه الطريقة في إبعاد الحيوانات عن المَزارع، ولهذا الشيء فوائد اقتصادية مهمة وبيولوجية.

على الصعيد الدولي، لا تبدو الأمور أفضل بكثير، كما ويعلّق سكان تسافو مثل موتوكو وغيره آمالهم على تعهدات جديدة من الدول المعنية بتداعيات وآثار تغيّر المناخ، ولكن في حال لم تفلح البلدان المتقدمة في تقديم الحلول والمساعدة لأولئك الأكثر تضررا من أزمة المناخ، فمن الممكن أن تتفاقم المشاكل في كينيا وتتحول إلى صراعات ونزاعات أهلية.

قد يهمك: السلوك العسكري الروسي في إفريقيا.. هل يعزز انتشار الإرهاب؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة