النظريات المتعنتة لأستاذ العلوم السياسية الشهير، جون ميرشايمر، تظهر الحاجة إلى التحقق من واقعية التفكير القديم عن روسيا و”القوى العظمى”.  

ميرشايمر أثار العام الماضي ضجة في النقاش العام إلى درجة نادرا لم يضاهيها الأكاديميون في مجاله، حيث زعم بأن “الناتو”، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، مسؤولين بشكل أساسي عن غزو روسيا لأوكرانيا، وأن أهداف فلاديمير بوتين في هذه الحرب تقتصر على إبقاء أوكرانيا في فلك موسكو، وأن لدى بوتين الحق في تقديم هذا الادعاء، وأن على الولايات المتحدة ألا تنهي الحرب فحسب، بل يجب أن تشكل تحالفا مع روسيا في مشاريع جيوسياسية أوسع. لكنه مخطئ في كل هذه النقاط لأسباب أعمق من الأسباب الواضحة. 

قد يهمك: احتمالات نهاية الغزو الروسي لأوكرانيا

ميرشايمر اعتمد في لقاءاته التلفزيونية السابقة على كتابه المنشور في عام 2001 المعنون بـ “مأساة سياسة القوة العظمى”، وهو أطروحة كلاسيكية عن الحرب والسلام من خلال عدسة الواقعية الدولية المعروفة أيضا باسم “السياسة الواقعية. 

في شباط/فبراير الفائت، توجهت الأنظار للمقابلة التي أعدها الصحفي الأميركي إسحاق شوتينر، مع العالم السياسي والأستاذ الجامعي جون ميرشايمر، حول الأزمة الأوكرانية والدور الأميركي وتوسّع حلف الأطلسي شرقًا، والتي نشرت في مجلة “ذا نيويوركر” الأميركية.

ميرشايمر، استشهد بتصريح الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2008 بأن أوكرانيا، الواقعة على الحدود الروسية مباشرة، ستمنح يوما ما عضوية في التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، خلص ميرشايمر إلى أنه لم يكن لدى بوتين خيار سوى غزو أوكرانيا لمنعها من الانزلاق إلى الغرب. 

كان هذا الرأي متسقا، إلى حد ما، مع المبادئ الأساسية للواقعية، أن الدول تتصرف وفقا لمصالحها الأمنية، وأنه لا يمكن الحفاظ على السلام من خلال القانون الدولي الذي لا يمكن فرضه، ولكن من خلال الحفاظ على توازن القوى، وأن لـ “الدول الكبرى” الحق في السيطرة على “مناطق النفوذ” على حدودها أو بالقرب منها. وفقا لتقرير لمجلة “سلايت” الأميركية ترجمه “الحل نت”.

ميرشايمر ذهب في هذه الأطروحة إلى أبعد من ذلك في كتابه الصادر عام 2001. حيث كتب أن الدول تخشى على بقائها لأن العالم فوضوي فليس لدى الأمم المتحدة قوة شرطة، وأن الدول الكبرى بطبيعتها تتعامل مع هذا الخوف من خلال توسيع سيطرتها على الأراضي.

بالعودة إلى اللقاء، أثار شوتينر بعض النقاط عندما أجرى مقابلة مع ميرشايمر لأول مرة، وسأله عما إذا كانت أوكرانيا تريد الانضمام إلى المؤسسات الغربية، ميرشايمر، أجابه بأن هذا “سيء للغاية”، مضيفا، “عندما تكون دولة مثل أوكرانيا وتعيش بجوار قوة عظمى مثل روسيا، عليك أن تنتبه جيدا لما يعتقده الروس”.

أكد لشوتينر في مقابلته الأولى أن الهجوم لن يستمر طويلا، كان ذلك بعد أيام فقط من بدء الغزو. حيث قال ميرشايمر “يدرك بوتين أنه لا يستطيع غزو أوكرانيا ودمجها في روسيا الكبرى أو إعادة تجسيد الاتحاد السوفيتي السابق، لا يستطيع فعل ذلك”. ومع ذلك، يقول بوتين نفسه الآن أن هذا هو هدفه بالتحديد.

حقيقة أنه غير قادر على متابعة الأمر لا تعني أنه لا ينوي ذلك، ويتجاهل ميرشايمر هذه الفرضية، إنه ببساطة يتجاهل أو يشوه أحيانا ما قاله بوتين نفسه. 

في المقابلة التي أجراها في وقت سابق من هذا الشهر، عرض شوتينر هذا المقطع لميرشايمر مجددا، وسأل عما إذا كان لا يزال يوافق عليها. أكد ميرشايمر ذلك بشكل ملحوظ، مبينا أن كل ما يريده بوتين، هو المقاطعات الأوكرانية الأربع التي ضمها دون نجاح، بينما قال في المقابلة الأولى إن بوتين سيرغب في ضم اثنتين فقط، وتغيير النظام في كييف. 

المشكلة الأكبر تكمن في مفهوم ميرشايمر الكامل لـ “سياسات القوة العظمى”.  أولا، بالنسبة لولاء ميرشايمر “للواقعية”، فهي بالتأكيد نظرة غير واقعية للعالم. إنها تنظر إلى الدول على أنها علامات مغناطيسية تتحرك حول لوحة اللعب بطريقة واحدة، وبهدف وحيد هو تعظيم القوة. هذه نقطة مفيدة للمحللين وحتى الممارسين للسياسة الدولية. فهياكل السلطة لا تشكل بيئة صنع القرار، لكنها تذهب بعيدا.

 لا يوفر إطار عمل ميرشايمر، أي مكان لصنع القرار أو لصناع القرار أو للسياسة المحلية في أميركا. ولا فرق في مخططه بين كون الدولة ديمقراطية أو ديكتاتورية. كما لا يهم ما إذا كانت موسكو يديرها ستالين أو خروتشوف أو جورباتشوف أو بوتين، أو ما إذا كانت بكين يديرها ماو أو دينج أو شي. 

ثانيا، لا يعرف ميرشايمر الدول العظيمة أبدا، وعندما يتعلق الأمر بمناقشة روسيا، فإن هذا أمر بالغ الأهمية، وقد كتب توماس بيبينسكي، أستاذ في جامعة كورنيل، بعد مقابلة ميرشايمر الأولى، روسيا ليست قوة عظمى، من الواضح أنها قوة آخذة في التدهور.

أخيرا، يوجه بيبينسكي الضربة قائلا، “كان غزو أوكرانيا خطأ استراتيجيا غبيا ارتكبته قوة متراجعة لا تفهم مأساة سياسة القوى العظمى”.

كما أنه لا جدال في أن توسع “الناتو” حتى حدود روسيا، زاد من استياء بوتين وجنون العظمة لديه، ولكن هذا ليس عذرا للغزو. يتجاهل ميرشايمر حقيقة تأكيد المسؤولون الأميركيون لبوتين في الأسابيع التي سبقت الغزو، بأن “الناتو” لن يعرض عضوية أوكرانيا في المستقبل المنظور.

 في أوائل آذار/مارس، بعد أسبوعين فقط من بدء الحرب، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه غض الطرف حول الحاجة إلى الانضمام إلى “الناتو”، وإذا كان هذا هو خوف بوتين الوحيد أو حتى الرئيسي، فلديه الكثير من الفرص لوقف الحرب أو تجنب بدئها في البداية. 

حتى الآن، بعد أن أرسلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا ما قيمته أكثر من 20 مليار دولار من الأسلحة، وتقوم بتدريب الجنود الأوكرانيين على كيفية استخدامها، لا ترغب الولايات المتحدة ومعظم دول “الناتو” الأخرى، في دعوة أوكرانيا للانضمام إلى الحلف. 

من اللافت للنظر أنه وفي مقابلته الثانية مع شوتينر في وقت سابق من هذا الشهر، لا يزال ميرشايمر يؤكد أن خوف بوتين الرئيسي هو انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، فهو ينفي أن يكون لدى بوتين أي رغبة في احتلال كل أوكرانيا أو استعادة الإمبراطورية الروسية القديمة، ذلك بالرغم من أن بوتين قال إن هذا هو هدفه.

 هو يدعي فقط أن بوتين يريد ضم أربع مقاطعات، دون الاعتراف بأنه قال في وقت سابق إن بوتين يريد اثنين فقط، دون السماح بحدوث شيء خاطئ في مجرد الاستيلاء على الأرض. 

هذا بالنسبة لأستاذ الواقعية ميرشايمر أمر غريب. فهو لا يميز بين كيفية عمل سياسات القوة العظمى وكيف ينبغي أن تعمل.

أخيرا، فإن فرضية ميرشايمر القائلة بأن توسع القوة العظمى، وهو نتاج طبيعي لسياسات القوى العظمى، تؤدي حتما إلى الحرب هي ببساطة فرضية غير صحيحة. فقد تصادمت مصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مع بعضهما البعض لما يقرب من نصف قرن، على سبيل المثال لا الحصر، من خلال الحروب بالوكالة والأزمات التي كانت قريبة من الحرب على سبيل المثال، في برلين وكوبا، ومع ذلك لم يذهبوا أبدا إلى الحرب مع بعضها البعض مباشرة. 

اعترف ميرشايمر بهذه الحقيقة في مقال نشر في الشؤون الخارجية عام 2021، لكنه أوضح أنه خلال التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، “فهم كلا الجانبين المخاطر المخيفة للتصعيد النووي، لذلك لم يكن أي منهما على استعداد لبدء صراع من المحتمل أن يدمر بلده”. ومع ذلك، كتب في المقال ذاته “لا يمكن لأحد أن يفترض أنه لن يكون هناك تصعيد نووي، إذا ما نشب صراع بين بكين وواشنطن على تايوان، أو بحر الصين الجنوبي”.

في النهاية، فهم الفرضيات التي يضعها علماء السياسة الواقعية قد تجعل الحرب احتمالا لما هو متناسق مع منظورهم، لذلك فإن النظريات الأكاديمية حول تلك الفرضيات حاليا لا تتماشى مع ما هو مرسوم جيوبوليتيكا.

اقرا أيضا: ما سيناريو انتهاء الغزو الروسي لأوكرانيا؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.