صراعات سياسية حادة، ميزت العلاقة السعودية – التركية، على مدى العقد الماضي، وغالبا ما اتسمت بتبادل الاتهامات والتحريض، ونجحت بالفعل في تقسيم المنطقة إلى عدة معسكرات وحلفاء، ضمن محاولاتها للتأثير على سياسة المنطقة الشرق أوسطية.

لكن التغيرات السياسية التي شهدتها هذه المنطقة في الفترة الأخيرة، دفعتهما إلى تغيير الكثير من سياستيهما، كانت هذه التغيرات كفيلة بإنهاء حالة الصراع بين الدولتين، وبدء مرحلة التطبيع بينهما، والتي ظهرت ملامحها مؤخرا.

التطبيع ارتكز على المصالح الذاتية للقوتين الإقليميتين، فمن الأزمة الاقتصادية العالمية وحتى تراجع الدور الأميركي، وحاجة دول المنطقة إلى غطاء أمني وعلاقات واسعة تمكّنها من مواجهة التقلبات الطارئة والتحديات المفاجئة.

مدخل من أجل فهم العلاقة السعودية التركية

قديمة هي العلاقة بين السعودية وتركيا، وترجع الى عام 1926 تحديدا، فبعد أن قاد الملك عبد العزيز آل سعود ثورته ضد ملك الحجاز السابق، الشريف حسين، وسيطرته على مملكته، سارعت تركيا إلى إعلان اعترافها بالملك الجديد، وهو أمر ينبع من رغبة الرئيس التركي آنذاك مصطفى كمال أتاتورك بالثأر من الشريف حسين، وثورته ضد الدولة العثمانية، بحسب رأي المؤرخ التركي حقان أوز أوغلو، في كتاب “القوى الطموحة والمنافسون الإقليميون”، الصادر عن معهد “الشرق الأوسط” عام 2019 لمؤلفه ديفيد دومك.

وبشكل طبيعي فقد رحّب آل سعود بهذه البادرة، وعمل على توطيد العلاقة الجديدة، ضمن رغبته في كسب حلفاء إقليميين من خارج الحدود العربية.

دوامة الصراع بدأت تشتد بعد اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، أثناء زيارته لقنصلية بلاده في إسطنبول في 2 تشرين الأول/أكتوبر عام 2018، الرئيس التركي حمّل القيادة السعودية مسؤولية هذا الاختفاء، وقال في مقالة نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” في 2 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، إن “أوامر قتل خاشقجي جاءت من أعلى مستويات الحكومة السعودية”، هو لم يحدد المتهمين، ولكن كثيرين اعتبروها بمثابة إشارة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

قد يهمك: محمد بن سلمان يزور أردوغان.. ما مصالح السعودية وتركيا؟

رغم أن هذه التصريحات، صعّدت من حدة الخلاف السعودي – التركي، ولكنها لم تكن بداية صراعهما، فالحساسية السياسية بين البلدين ترجع إلى عام 2012 بعد صعود نجم “الإخوان المسلمين”، وسيطرتهم على السلطة في مصر، وهو تنظيم تدعمه تركيا، فيما تدرجه السعودية ضمن قوائم المنظمات الإرهابية.

مع عام 2013، قاد وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي انقلابا على حكومة “الإخوان المسلمين” ورئيسها محمد مرسي، على الأثر، وجهت تركيا أصابع الاتهام إلى السعودية بالتحريض ضد حليفها في مصر والمساهمة في الإطاحة به.

الخلاف بين الدولتين، وصل إلى مجلس التعاون الخليجي في عام 2014، بعد أن وجهت السعودية، اتهامات إلى جارتها قطر بدعم وتمويل تنظيم “الإخوان المسلمين”، يعتقد الكثيرون أن الاتهام مرتبط بالعلاقة القوية التي تجمع قطر بالحكومة التركية.

تاليا قطعت السعودية علاقاتها مع دولة قطر وتم طردها من مجلس التعاون الخليجي في عام 2017، وبحسب تقرير لمعهد “كلين جنديل” الهولندي المختص بالدراسات الدولية والمنشور في كانون الثاني/يناير 2021، فقد سارعت أنقرة إلى دعم الحكومة القطرية، إثر قطع علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2017 قبل هذا الاتهام، وأرسلت بعده قوات عسكرية لحمايتها، وهو ما اعتبرته الرياض تدخلا في الشأن الخليجي، قطعت بعدها علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، وحجبت كافة مواقعها الإخبارية، وردت تركيا هذه الإجراءات بأخرى مماثلة.

عودة العلاقات بين البلدين

قصة العداء بين البلدين، ختمت أحداثها بعد لقاء جمع وزيري الخارجية التركي والسعودي في العاصمة الباكستانية إسلام أباد على هامش أعمال اجتماع الـ 48 لمجلس وزراء خارجية منظمة “التعاون الإسلامي”، في 22 أذار/مارس عام 2022، وهو ما يعزز وجود وساطة باكستانية، مكّنت من اجتماع الوزيرين.

وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أعلن في لقاء تلفزيوني، عن قرب مرحلة جديدة من العلاقات مع السعودية. وجه الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على إثرها دعوة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لزيارة المملكة، وبالفعل هبطت طائرة الأخير في جدة في 28 نيسان/أبريل عام 2022، والتقى بالملك وولي عهده.

بن سلمان رد على هذه الزيارة، بعد أقل من شهرين، حيث استقبله في أنقرة في 22 حزيران/يونيو، الرئيس التركي، ورغم أن زيارة بن سلمان لم تستمر سوى لساعات قليلة، إلا أنها أوحت بعودة ودية في الطريق.

دوافع عودة العلاقة بين البلدين

في منطقة تموج بالتوترات، قد تبدو عودة العلاقة بين الخصمين أكثر ضمانا لاستقرار المنطقة، فالتحولات السياسية الكبيرة التي شهدتها، وابتعاد دول الخليج عن سياسة واشنطن، قد يبرر بعض دوافع عودة مياه العلاقة بين البلدين الى طبيعتها.

المتطلبات الأمنية تتربع على عرش هذه الدوافع، حيث ترغب دول الخليج بوجود بديل عن الدعم الأمني الأميركي، لمواجهة الخطر الإيراني، هي ترغب بعودة علاقاتها مع طهران، ولكن عودة هذه العلاقة لم يحسم أمره حتى الآن.

ما يضع تركيا في خانة الدول المفضلة في هذا الجانب، ليس بسبب قدراتها العسكرية المتصاعدة، ولكن لقربها أيضا من الخليج العربي، وقدرتها تاليا على صد أي هجمات متوقعة، إضافة الى كونها من دول “الناتو” والذي يزيد من مقبوليتها بشكل أكبر.

اقرأ أيضا: هل تؤجل زيارة ولي العهد السعودي الخطط التركية في شمال سوريا؟

الصحفية التركية والمحررة في جريدة “ديلي صباح” التركية، ديلارا أصلان، تؤيد هذا الرأي، حيث ترى أن تراجع الدور الأميركي في المنطقة، قد يبرر أحد أسباب عودة العلاقة بين البلدين في الوقت الحالي، خاصة وأن دول المنطقة لم تعد قادرة على الاعتماد على واشنطن، لحل المشكلات الأمنية، إضافة الى التغيرات الجيوسياسية التي تمر بها.

في الحقيقة فإن خطوة بن سلمان وزيارته إلى تركيا، اعتبرت بمثابة ضربة للعلاقات السعودية – الأميركية، خاصة وأنها سبقت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية للمشاركة في قمة جدة التي أُقيمت بعدها بأيام قليلة.

تركيا والحافز الاقتصادي

الرغبة بعودة العلاقة بين السعودية وتركيا لا يقتصر على الرياض، كما لا يتوقف عند الدوافع الأمنية، إذ يلعب الجانب الاقتصادي دوره أيضا، وهو جانب مرتبط في معظمه بالآثار السلبية التي خلفتها جائحة “كورونا” على التجارة العالمية، والأزمة الروسية-الأوكرانية.

 تركيا تعاني تضخما ماليا مفرطا، بحسب تصريح أصلان لـ”الحل نت”، وتضع تاليا الدوافع الاقتصادية في قمة هرم أسباب عودة العلاقة، وتعزز رأيها باللقاء الذي جمع وزيري المالية التركي والسعودي في 25 أيلول/سبتمبر الماضي، وتجاوز نسبة الإيداعات السعودية في البنك المركزي التركي حاجز 5 مليارات دولار، إضافة إلى ارتفاع الصادرات التركية إلى السعودية، لتصل إلى أكثر من 420 مليون دولار، بزيادة سنوية قدرها 180بالمئة، في الفترة من كانون الثاني/يناير إلى أيلول/سبتمبر، وهو تعاون قد يساهم في فوز أردوغان في الانتخابات التركية المقبلة عام 2023 وفق تعبيرها.

بحسب “مجلس العلاقات الخارجية”، وهو منظمة أبحاث أميركية مستقلة، في تقريرها المنشور في 4 أيار/مايو، عام 2022، فإن “الاستثمارات الخليجية هي أفضل الحلول المتاحة أمام الحكومة التركية للخروج من هذه الضائقة، وتراجع قيمة عملتها المحلية، هي تدرك أن مفتاح عودة العلاقات مع دول الخليج يبدأ من الرياض، وتاليا فإن التطبيع بينهما سيؤدي الى علاج أزمتها الاقتصادية”.

أنقرة تبحث بالفعل عن أي فرصة لتخفيف الضغط الاقتصادي عن مواطنيها، ولكن “مجلس العلاقات الخارجية”، يؤشر هذه الأمر، ضمن محاولاتها كسب رضا ناخبيها في السباق الانتخابي عام 2023.

الرياض بدورها تدرك ذلك، المحرر الدبلوماسي في صحيفة “التايمز” البريطانية روجر بويز يؤكد ذلك، في تحليله المنشور أواخر شهر حزيران/يونيو الماضي، بقوله إن “السعودية استغلت الفوضى التي يعاني منها اقتصاد تركيا من أجل ضمان حريتها، وتعزيز بقاء الخصمين على قيد الحياة السياسية، السعودية أمنيا وتركيا اقتصاديا”.

مستقبل العلاقة بين البلدين

على الرغم من الدفء الملحوظ في العلاقة حاليا، فإنه من الصعب الحديث عن تطبيع بينهما بشكل كامل بحسب أصلان، ويشاركها في ذلك الباحث في الشؤون الأمنية والإستراتيجية علي عبد الإله، الذي يعتقد خلال حديثه لـ”الحل نت”، بأن التقلبات التي تشهدها المنطقة، قد تعيق التنبؤ بمسار هذه العلاقة، خاصة في ظل محاولات الولايات المتحدة، لإثبات وجودها في المنطقة والتأثير على قراراتها.

قد يهمك: تعطّل المحادثات بين إيران والسعودية.. خط دبلوماسي شائك مع طهران؟

لكن مسار العلاقة لا يتوقف على هذه الأسباب، بحسب عبد الإله، فتوافق كلا من الرياض وأنقرة محكوم بدوره بمدى توافقهما داخل مناطق الصراع والنفوذ، وقد يبدو الدور الإيراني البارز في هذا الشأن، من أبرز تحديات استمرار هذه العلاقة أيضا، خاصة إذا ما تم زجّه في عملية تقاسم قيادة المنطقة، وهو أمر قد يسبب مشاكل بين هذه الدول، نظرا إلى كثرة أذرعه السياسية والمسلحة في المنطقة، وفق تعبيره.

إشارات كبيرة، تؤكد أن التطبيع السعودي-التركي، يسير على نحو جيد، نظرا إلى تخفيف حدة العداء الذي تروجه الماكينات الإعلامية في البلدين ضد بعضهما الأخر، كما أن كليهما قد اتخذا احتياطات من شأنها عزل أي ما قد يعكّر هذا التطبيع، مثل الإيداعات البنكية السعودية في تركيا، وموافقة الأخيرة على تزويد السعودية بالأسلحة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة