خلافا لما حققته ألمانيا من مكانة اقتصادية حجزت مقامها على رأس اقتصادات القارة الأوروبية والعالم على مدى عقود، تواجه اليوم خطر الركود المستدام بسبب نقص العمال المهرة، الأمر الذي يمثل تهديدا كبيرا لمعدلات النمو بشكل متزايد، ولمكانة الدولة الصناعية الأولى عالميا، ما يشي بانتكاسة اقتصادية كبيرة ما لم يتم تدارك الأمر، وهو ما فتح الباب أمام التكهنات حول إذا ما كان ذلك سيدفع بموجة هجرة جديدة قد تشجع لها ألمانيا لإنقاذ الوضع. 

دراسة حديثة لمعهد “إيفو” للبحوث الاقتصادية، و”بنك التنمية” الألماني الحكومي، أظهر أن نحو نصف الشركات الألمانية تعاني من الضعف في النشاط التجاري خلال الربع الأخير من هذا العام، ويعود السبب إلى عدم وجود عدد كاف من الموظفين، بحيث تبقى الوظائف الشاغرة على حالها إلى نحو مدة 5 أشهر في المتوسط.

السبب الرئيسي في نقص العمالة الماهرة في ألمانيا، هو التطور الديموغرافي، فيما يتركز ذلك النقص في قطاع الخدمات، إذ اشتكى أكثر من 48 بالمئة من الشركات من عدم تمكنها من العثور على ما يكفي من الموظفين، في الوقت الذي يتوقع فيه أنه في حال كان ميزان الهجرة صفرا، سيتراجع عدد السكان في سن العمل بنحو 9 ملايين شخص بحلول عام 2040، ما يرجح ارتفاع عدد السكان الذين في سن التقاعد إلى حوالي 4 ملايين و700 ألف نسمة.

تأثيرات نقص العمالة في ألمانيا

مخاطر نقص العمال المهرة في ألمانيا تأتي في وقت تشير فيه التقديرات لانخفاض عدد العمال المحليين بمقدار 1.5 مليون في السنوات الثلاث المقبلة وحدها، ما قد يجبر الدولة على إشراك النساء وكبار السن والعاطلين عن العمل بشكل أكبر في سوق العمل لمواجهة نقص العمال الذي تتطلبه، وفي وقت أوصت الحكومة بضرورة أن تكون هناك هجرة متزايدة للعمال الأجانب للمحافظة على استقرار معدلات النمو الاقتصادي.

ولعل ما تقدم، قد يفسر سبب تحول ألمانيا الدولة الواقعة وسط القارة الأوروبية على حدود تسع دول، بأن تكون إحدى أكثر الدول اكتظاظا بالسكان، ومالكة لأحد أكبر الاقتصادات العالمية، فضلا عن تحولها منذ الحرب العالمية الثانية وإلى الآن لواحدة من أكبر المستوردين والمصدرين في العالم، لتصبح ثاني أكثر الدول جذبا للمهاجرين في العالم بعد الولايات المتحدة، حيث وصل ما يناهز 1.9 مليون شخص من الخارج العام الماضي بهدف العمل في ألمانيا، بما في ذلك 1.6 مليون من دول أعضاء في “الاتحاد الأوروبي”، بينما وصل ما يقرب من 300 ألف شخص من دول خارج “الاتحاد الأوروبي”؛ في المقام الأول من الهند، وفي المرتبة الثانية من دول البلقان.

اقرأ/ي أيضا: “صندوق قناة السويس”.. بيع لأصول الدولة المصرية أم استثمار؟

وحول هذا الموضوع، وإذا ما كان سيدفع الحكومة الألمانية إلى تشجيع الهجرة مجددا، يعتقد الخبير في العلاقات الدولية والسياسات العامة وليد الأيوبي، أن الموضوع يتعلق بالطبيعة السكانية لتلك الدول، قائلا في حديث لموقع “الحل نت”، إن الأمر لا يخص ألمانيا فقط، بل كل الدول الغربية والصناعية منها على وجه التحديد، ويرتبط ارتباطا مباشر في مسألة النمو السكاني والبنية السكانية وأثرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إذ أنها ونتيجة لعدة عوامل صارت تعاني من هذا النقص، والتي منها اتباع سياسات الانجاب التي انعكست بشكل كبير على الاستقرار السكاني في دول مثل ألمانيا وخلق إشكالية سكانية تحتاج إلى تعزيز.

الأيوبي بيّن خلال حديثه، أن البنية السكانية في ألمانيا وأغلب الدول الصناعية تعاني من مشكلة إن صح وصفها بأنها منقلبة رأسا على عقب؛ بمعنى أن القاعدة السكانية في الدول النامية تمثل القاعدة العريضة أمام رأس الهرم، في حين أن القضية في ألمانيا والدول التي على غرارها تكون القاعدة السكانية التي تمثل شريحة العمال وغيرها ضعيفة أمام رأس هرم، ما أثر إستراتيجيا على البينة الصناعية والاقتصادية فيها ومستقبلها بالشكل العام؛ لسبب أنه كلما تراجع مستوى حجم القاعدة الإنتاجية التي تحرك الاقتصاد وتدفع الضرائب ستزداد الهوة وتكون هناك انعكاسات على حجم العمالة الماهرة.

بوادر هجرة جديدة؟

الأمر الذي شجع الهجرة إلى كل من ألمانيا وكندا وأميركا وأستراليا، بحسب الأيوبي. والذي لفت إلى أنه لولا صعود ظاهرة الإرهاب الدولي لكان استمرار تدفق المهاجرين جاريا إلى الآن، بإشارة إلى أن تراجع الإرهاب في الوقت الحالي مع استمرار حاجة تلك الدول إلى تعزيز مجالاتها العمالية قد يمثل حافزا إلى فسح المجال إلى الهجرة مجددا، ولاسيما للكفاءات وأصحاب العقول الذي تعسى تلك الدول لاستقطابهم بالدرجة الأولى، على حد تعبير أستاذ العلاقات الدولية.

في السياق، أوضح الأيوبي أنه وسط هذه الحالة، هناك مفارقة تتمثل بمستوى العلاقات بين دول الشمال والجنوب، أي بين الدول الصناعية والدول النامية التي تعاني من كتلة سكانية كبيرة لها وجهين؛ إيجابي وسلبي. وهي أن دول الشمال تحمل دول الجنوب مسؤولية الإنجاب الكثير، وتطالبها في ترشيد ذلك، في وقت لم تظهر تلك السياسات المتبعة لديها سوى الخلل في البنية المجتمعية، مشيرا إلى أن ما قد يعزز من حركة الهجرة أيضا هو ليس فقدان اليد العاملة في الدول الصناعية مثل ألمانيا فقط، بل في فقدان السيولة لدى اليد العاملة المتوفرة في الدول النامية.

اقرأ/ي أيضا: أزمة وقود وأوضاع متهالكة.. إلى أين يتجه الاقتصاد السوري؟

ولنقص العمالة المهرة، تحتاج ألمانيا لمليونين وافد من اليد العاملة، وتصل الحاجة إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر سنويا لتعويض النقص في اليد العاملة، وفقا لما صرح به رئيس “الوكالة الاتحادية للتوظيف” بألمانيا، ديتليف شيل في العام 2021، في الوقت الذي تعمل فيه برلين على إدخال إصلاحات جديد لتسهيل عملية القدوم إلى ألمانيا.

إذ تفكر الحكومة في “بطاقة خضراء” في نسختها الألمانية، شبيهة بنظام النقاط للأشخاص ذوي “المؤهلات المهنية الجيدة”، بمسعى لتبسيط إجراءات القدوم إلى ألمانيا من أجل البحث عن عمل في بعض المهن، مثل تكنولوجيا المعلومات، حيث هناك تفكير في جعل مستوى اللغة الألمانية شرطا يقدره صاحب الشركة التي تحتاج للموظفين.

تسهيلات ألمانية

في حين كان قانون “هجرة العمالة الماهرة أو الكفاءات” قد دخل حيز التنفيذ منذ العام 2020، ويهدف إلى تحقيق وصول أسهل للعمالة الماهرة الأجنبية من دول خارج “الاتحاد الأوروبي” في والوصول إلى آفاق أفضل للاقتصاد الألماني، كما يؤمن هذا القانون الإطار القانوني للعمال المهرة الذين يحتاجهم الاقتصاد الألماني بشكل عاجل.

وفقا للوائح المنظمة الخاصة بهذا القانون، يمكن للعمال المهرة الحاصلين على تدريب مهني مؤهل؛ القدوم الآن إلى ألمانيا بشكل مؤقت أو لفترة محدودة للبحث عن وظيفة، فيما يؤكد هذا القانون أنه يجب على المتخصصين المؤهلين من الخارج أن يجدوا طريقهم إلى سوق العمل بسرعة وبالحد الأقل من الإجراءات البيروقراطية، حيث يسمح القانون بتنفيذ جميع الإجراءات الضرورية في هيئة الأجانب المسؤولة أو السفارات في الخارج بمبادرة من صاحب العمل، أي توفير عقد العمل المناسب مع توفير مواعيد نهائية آمنة للعمل وللإقامة في ألمانيا بعد الوصول.

أثناء ذلك، انخفضت نسبة المواليد في ألمانيا إلى ما يعادل 1.5 مولود لكل امرأة، ولم تعد الولادات السنوية 9.5 بالألف تعوض عن الوفيات 11.5 بالألف، فيما يعمل حوالي 75 بالمئة من النساء في سن العمل البالغات من 20 – 64 سنة، في حين تضاعف عدد المسنين العاملين من 7 بالمئة إلى 15 بالمئة على الأقل، فيما لا تزال نسبة غير العاملين من المسنين إلى جانب نسبة الأطفال دون سن العمل في ازدياد مستمر، مما أوجد ثغرات في مجالات عديدة.

في غضون ذلك، وبالنظر إلى البيانات المتوفرة حول نقص العمالة التي تهدد مستقبل الاقتصاد الألماني، وبالإضافة لبيانات وزارة الداخلية الألمانية، التي تشير إلى أنه مع تقاعد جيل طفرة المواليد في ألمانيا من 1946 إلى 1964 من سوق العمل، فإن الوضع في هذا المجال سيزداد سوءا بشكل حاد اعتبارا من عام 2030، ما قد يضطر ألمانيا للجوء إلى تشجيع حركة الهجرة من دول العالم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.