في إطار ما يشهده العالم من تأثيرات تغيّر المناخ، تعاني تونس من أزمة جفاف حادة تركت أثارها على حركة الزراعة في البلاد والمزارعون. وسط عجز حكومي لا يجد أمامه سوى اللجوء إلى مياه السدود التي تعيش مخاطر النضوب هي الأخرى، وذلك لغياب سياسات واستراتيجيات واضحة للترشيد في استهلاك الماء، ما ينذر بأزمة حقيقية قد تدفع بالبلاد إلى عطش، وتمثل خطرا كبيرا على الأمن الغذائي.

المخاطر المائية التي تشهدها تونس، تأتي في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية أخرى، إذ تشهد نقصا كبيرا في الأمطار منذ سبعة مواسم وجفافا مستمرا للعام الثالث على التوالي مما زادت من المخاطر التي تحدق بالأمن الغذائي، الأمر الذي يضع العديد من المناطق في البلاد من ضمنها العاصمة تحت تهديد العطش نتيجة تراجع مخزون السدود إلى مستوى غير مسبوق.

سيناريو يشي بأوضاع خطيرة للغاية، ما قد يصل إلى حدّ الجفاف المستمر، لاسيما في ظل ما تشهده سدود البلاد من نقص كبير للمياه، إذ يبلغ منسوب السدود في تونس 25 بالمئة من سعتها بينما وصل في بعضها إلى عشرة بالمئة فقط، ليصل إجمالي المياه في سدود البلاد إلى 660 مليون متر مكعب فقط، بحسب ما أكدته مصادر رسمية تونسية، وهو ما يعزوه خبراء إلى الاستنزاف الكبير في المواد المائية التي تعاني في الأساس بسبب نقص الأمطار، ما استدعي إعلان حالة الطوارئ المائية التي ستسمح باعتماد وتنفيذ تدابير استثنائية من بينها تحلية مياه البحر.

تونس ومخاطر العطش

تأكيدا على ذلك، يشهد سد “سيدي البراق” التونسي الواقع بنفزة على بعد 140 كيلومترا شمالي العاصمة منظرا صادما، حيث يكاد السد ينضب من الماء، فيما تبدو الأرض متشققة والأشجار المحاذية تموت ببطء نتيجة موسم الجفاف الذي يضرب البلاد للعام الثالث على التوالي، في حين لا تتجاوز الكميات الحالية من المياه في مدينة سليانة، أربعة ملايين متر مكعب في سد “سليانة” الذي يتسع لحوالي 27 مليون متر مكعب، وسط حيرة الفلاحين الذين ينتظرون موسما زراعيا صعبا للغاية.

اقرأ/ي أيضا: سياسة إعدام المحتجين.. النظام الإيراني أمام مقاطعة دولية؟

نتيجة لذلك، وبسبب ندرة الأعشاب وغلاء الأعلاف، حسبما أفادت “رويترز” اضطر الكثير من المزارعين للتخلي عن الآلاف من الأبقار مما خلّف تراجعا كبيرا في إنتاج الحليب الذي اختفى من رفوف أغلب المتاجر، مما فاقم ذلك غضب السكان الذين يعانون الويلات للحصول على سلع أخرى من السكر والزيت والزبدة والأرز، في وقت تشير التوقعات إلى أن الحبوب ستشهد حصادا هزيلا لهذا العام بسبب الشح الكبير في الأمطار، فيما تواجه بقية الزراعات، مثل الزيتون الذي يمثل أهم صادرات تونس، خطر التراجع الكبير وبالتالي زيادة عجز الميزان التجاري الغذائي للبلد الذي توشك ماليته العامة على الانهيار.

مشهدٌ دفع بالفلاحيين إلى اللجوء لسقي مزارع الزيتون واللوز في موسم الشتاء، الأمر الذي لم يحصل منذ العام 1990 في البلاد، بحسب شهادات مزارعين، في وقت نشرت فيه مراكز تنمية فلاحية بيانات محلية تدعو الفلاحين لوقف استعمال مياه الري في الزراعات السقوية القائمة على السقي؛ إما بواسطة الأنهار أو العيون أو المياه الجوفية، للخضراوات، على اعتبار أن الأولوية للحبوب والزيتون ثم بعد ذلك لأشجار الفواكه.

بناء على ذلك، وفي إطار ما يمكن أن يمثله الجفاف على مستوي الأمن الغذائي التونسي، يرى المحلل السياسي حازم القصوري، أن مسألة المياه عبر العالم هي تحديات هذا القرن، على اعتبار أن معارك المياه ليست قضية تونسية فقط، بل على مستوى قارة إفريقيا بأكملها ولعل ملف سد النهضة مؤشر في قادم الأيام على ذلك، مشيرا أن أمام الشعوب في المستقبل معارك مائية قد تمثّل مرحلة مهمة، تؤكد أن الأمر لا يقتصر على معارك الطاقة.

خطة وطنية كفيلة بتدارك أزمة تونس المائية

القصوري وفي حديث لموقع “الحل نت“، قال إن الوضع العام في تونس هذه السنة يمرّ بمرحلة من الجفاف بسبب قلة الأمطار، وهي مرحلة عادة ما يكون فيها المزارعون التونسيون ينتظرون الغيث النافع ومردوده على الوضع العام، بيد أن الأمر يمكن اعتباره أمرا دوليا تفرضه تغيرات المناخ، لافتا إلى أن تونس كانت سباقة منذ فجر الاستقلال إلى بناء السدود للمحافظة على مياه الأمطار لذلك أن مسألة السدود وإدارتها يُعد أمرا مستبعدا فيما تعيشه البلاد من أزمة مالية سببها قلة الأمطار.

غير أن المحلل السياسي التونسي، أشار إلى أن ندرة المياه في الوقت الحالي تفرض على الدولة رسم خارطة جديدة للتعاطي مع الأزمة، مؤكدا أنها ليست أزمة وطنية بل دولية وتأثيرها على الأمن الغذائي التونسي سيكون جزئيا، لسبب أن تونس تمتلك مخزونا استراتيجيا من المياه العذبة في السدود التي يمكن الاعتماد عليها، لافتا إلى أن كل ما تتطلبه المرحلة الحالية هو تطوير استراتيجية وطنية يمكنها الاقتصاد في المياه وتكرير مياه البحر للخروج من الأزمة لتلافي الأزمة بشكل كامل وتدارك التغيرات المناخية.

اقرأ/ي أيضا: اتجاهات وتجارب الاحتجاجات الإيرانية.. مستقبل “حزب الله” على المحك؟

القصوري بيّن أن الاستراتيجية الوطنية يمكن أن تكون من خلال إنشاء وزارة تعني بالمياه، وتطوير تكنولوجيا بديلة لإيجاد المياه، ودراسة الأزمات التي يمكن أن يتسبب بها قلتها، في حين أنه ومنذ أيلول/سبتمبر الماضي، سقطت 110 ملايين متر مكعب فقط من الأمطار في تونس، أي حوالي خمس المعدل الطبيعي إذ أن المعدل الاعتيادي لا يقل عن 520 مليون متر مكعب.

في مقابل ذلك، وكإجراء عاجل، بدأت السلطات التونسية بمنح الأولوية لمياه الشرب عَبر الحدّ من الحصص المائية الموجهة للقطاع الزراعي، لكن ذلك أدى إلى ندرة بعض المنتجات الزراعية وارتفاع أسعار الخضر، وبينما قفز المعدل العام للتضخم إلى 10.1 بالمئة في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، ارتفع تضخم السلع الغذائية لما يقارب 15 بالمئة.

تونس وحاجتها المائية

يُذكر أن تونس تستغل 5 مليارات متر مكعب من الموارد المائية للزراعة ولاستهلاك مياه الشرب، وهي مياه سطحية تبلغ كميتها 2575 مليون متر مكعب، ومياه جوفية تبلغ كميتها 2197 مليون متر مكعب، فيما يتبخر أكثر من النصف أو يتدفق إلى الأراضي الرطبة والبحر، وتفيد المؤشرات بأن الإجهاد المائي قد ارتفع من 66 بالمئة في عام 2000 إلى 109 بالمئة في عام 2020 وإلى 132 بالمئة عام 2021.

“الإجهاد المائي” هو مؤشر يقع من خلاله قياس ندرة كمية المياه العذبة المتجددة المتوفرة لكل شخص في كل عام من إجمالي الموارد المائية المتاحة لسكان المنطقة، ومع ندرة الموارد المائية في تونس، تتعاظم الخشية من العطش هذا العام، الأمر الذي دفع بالحكومة الشهر الماضي إلى اللجوء لرفع أسعار الماء الصالح للشراب للبيوت والفنادق سعيا لترشيده.

وسط ذلك، وفي وقت سابق، أكد مدير متابعة التصرف في المنظومة المائية بوزارة الفلاحة عبد الرحمن الوصلي، أنه لتحقيق التوازن بين العرض والطلب إلى حدود سنة 2050، لا بدّ من حوكمة قطاع المياه والتحكم في الطلب وإيجاد الحلول للتحدي في مجال الطاقة واللجوء إلى المياه غير التقليدية ومحاولة تعبئتها مثل المياه غير المعالجة وتحلية مياه البحر.

كما حثّ على ضرورة مواصلة إنجاز السدود وتعلية سد “بوهرتمة” وبرمجة سدود أخرى في أقصى الشمال، إضافة الى تعزيز مجهودات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بإقامة المنشآت الكبيرة بالسعيدة والقلعة، لتلبية الطلب بجهة الساحل وصفاقس، الخيار الذي اتفق معه العديد من الخبراء في الشأن المائي لتلافي أزمة اقتصادية يمكن أن تتسبب بها الأزمة المالية من خلال الانعكاس على الأمن الغذائي للدولة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.