حركة “طالبان”، في بداية سيطرتها على السلطة بأفغانستان منتصف آب/أغسطس 2021، تغنت وأطلقت وعودا عديدة بأن نظامها سيكون أكثر تساهلا من فترة حكمها الأولى بين العامين 1996 و2001، وحاولت الحركة الترويج لفكرة أنها ستتصرف بشكلٍ مختلف، في القضايا المحلية مثل تعليم الإناث، وخارجيا في مسألة الإرهاب. غير أن كلّ هذه الوعود لم تكن سوى حبر على ورق، فسرعان ما عادت الحركة إلى تفسيرها الصارم للشريعة الإسلامية الذي وسم حكمها في تسعينيات القرن الماضي، حيث فرضت قيودا صارمة على حرية و تنقل النساء والفتيات الأفغانيات، واتخذت خطوات عديدة لقمع حريات النساء، ولا سيما خلال الفترة الماضية.

حكومة “طالبان”، خلال الأشهر الماضية، أعلنت عن سلسلة قرارات تتعلق بتقييد حرية المرأة في أفغانستان، بدءا بإغلاق المدارس التعليمية، وصولا إلى مطالبة النساء بتغطية وجوههن بالكامل في الأماكن العامة مع تفضيل ارتداء “البرقع”، وكذلك حرمان المرأة من العديد من الوظائف في القطاع العام ومنعهنّ من السفر دون مَحرم خارج مدنِهن. كما أصدرت قرارا للقنوات التلفزيونية يقضي بضرورة ارتداء المذيعات للنقاب أثناء تقديم الأخبار وتقييد حرية التعبير والصحافة من خلال فرض قيود على الإعلام. حيث اضطرت المئات من المؤسسات الإعلامية إلى إغلاق أبوابها، ما ترك الآلاف من العاملين في المجال الإعلامي بدون عمل.

مؤخرا، اتخذت حكومة “طالبان” تدابير تشمل منعَ النساء الأفغانيات من العمل في المنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية في أفغانستان. كما وضعت قيودا أخرى تحدّ من قدرة النساء والفتيات على ممارسة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

إزاء كل ذلك، أعربت غالبية الدول الأعضاء في “مجلس الأمن”، مؤخرا عن قلقها البالغ على النساء والفتيات في أفغانستان، داعية حركة “طالبان” إلى التراجع فورا عن كل التدابير القمعية التي اتخذتها منذ سيطرتها على الحكم في كابل قبل أكثر من عام.

لذلك لابد من طرح عدة تساؤلات حول دلالات وأبعاد تقييد حركة “طالبان” لحرية المرأة وتنقّلها في أفغانستان، وما إذا كانت “طالبان” تسعى لعزل أفغانستان دوليا، وبعد عام من سيطرة الحركة على كابل، ما الذي تغير منذ التسعينيات، وأخيرا مدى تأثير بيان ونداء “مجلس الأمن الدولي” على سلوك الحركة المتطرفة.

أسباب التضييق

ندا محمد نديم، وزير التعليم العالي في حركة “طالبان”، برر قرار منع دخول النساء إلى الجامعات في أفغانستان، الأخير، بأنهن “لا يحترمن قواعد اللباس”، مشيرا إلى أن الفتيات، اللواتي كن يدرسن في مقاطعاتٍ بعيدة عن منازلهن، “لم يسافرن مع مَحرم”، في الوقت الذي شجب فيه وزراء خارجية مجموعة “دول السبع” الإجراءات المتخذة ضد النساء معتبرين أنها يمكن أن تُعدّ جريمة ضد الإنسانية. وهذا القرار أثار استهجانا دوليا وحركات احتجاجية في الداخل الأفغاني.

منذ سيطرة “طالبان” على أفغانستان، والبلاد لم تشهد سوى المزيد من التدهور في حالة حقوق الإنسان. فهي مزرية عموما في ظل حكم “طالبان”، وقاسية بشكلٍ خاص بالنسبة للمرأة.

منير أديب، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي، يرى أن أسباب هذا التقييد هو اختيار فقهي، وربما تكون هذه الحركة قد تبنته لمصلحتها. لذلك فهي لا ترى حقا للمرأة، وبالتالي فهي ترى أن الأخيرة ليست جزءا من المجتمع، بل ترى في الرجل وصيا على المرأة عموما، في ظل وجود حكمها، سواء عندما سيطروا على أفغانستان عام 1996 أو عندما عادوا إلى السلطة بعد عشرين عاما، في عام 2022، فإن وضع المرأة كما كانت ولا تزال بلا حقوق، بل الإنسان في ظل وجود هذه الحركة المتطرفة أيضا بلا حقوق، ذلك لأنها حركة متطرفة ذات اختيارات مذهبية، ولأنها لا تؤمن بحقوق المرأة، ناهيك عن عدم إيمانها بحقوق الإنسان بشكل عام، وهذه سمة كل الجماعات والحركات الدينية المتطرفة التي لا تعترف بحقوق الإنسان أو حق للمرأة.

كما أن هناك أسبابا أخرى وراء تقييد حركة “طالبان” لحرية المرأة، منها السطحية والقشرية التي تدّعيها الحركة، حيث تقول إن المرأة لا تلتزم بالزي الشرعي الإسلامي، ونتيجة لذلك اتخذت الحكومة قرارات لقمع حرية المرأة الأفغانية. لكن في الواقع هذا ليس صحيحا، وفق رأي أديب لموقع “الحل نت”، بالحديث عن النساء العاملات في المنظمات غير الحكومية، لكن الحركة المتطرفة اتخذت موقفا من تعليم المرأة بشكل عام، سواء في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية، فإن الموقف هو ليس التزام المرأة من عدمه بالزي الإسلامي وإنما له علاقة بأنها لا تؤمن بحقوق المرأة وحتى في التعليم.

قد يهمك: على نهج “طالبان”.. قيود “الحوثي” تخنق الحرية في اليمن؟

في الحقيقة كانت الحركة أكثر اتساقا مع نفسها عندما قررت الوقوف أمام تعليم النساء، فإن قرارها ليس غريبا مع ما تؤمن به، ولم تكن أفكارها مغايرة لما أخذته من قرار ربما تأخر بعض الشيء، وهنا لم تنقلب الحركة إلا على تعهداتها السابقة ولكنها كانت متسقة مع أفكارها في الوقت ذاته والتي لم تتغير منذ عشرين عاما عندما وصلت إلى السلطة.

دلالة وأبعاد قمع النساء

مشهد غريب ينتشر بواجهات محلات الأزياء بجميع أنحاء العاصمة الأفغانية كابل. مشهد ربما يكون مخيفا للبعض. فالعارِضات في متاجر الملابس النسائية رؤوسهن مغطاة بأكياس من القماش أو ملفوفة بأكياس بلاستيكية سوداء، وذلك بأمر من سلطات “طالبان” الحاكمة، وفق تقارير.

“طالبان” أصدرت مرسوما يقضي بضرورة إزالة جميع العارِضات من نوافذ المتاجر أو قطع رؤوسها، وفقا لوسائل الإعلام المحلية، مؤخرا. حيث امتثل بعض بائعي الملابس. لكن آخرين رفضوا ذلك، واشتكوا من أنهم لن يتمكنوا من عرض ملابسهم بشكل صحيح أو سيتعين عليهم إتلاف عارضات الأزياء باهظة الثمن. فما كان من مسؤولي “طالبان” إلا أن لجؤوا لتعديل القرار والسماح لأصحاب المتاجر بتغطية رؤوس العارضات بأكياس بلاستيكية أو قماشية بدلا من ذلك.

بحسب وجهة نظر الخبير في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي، فإنه طالما أن الحركة حرمت النساء من التعليم، الأمر الذي يعني أنها حرمت المجتمع من التعليم عموما وهذا سوف يؤدي إلى المزيد من التطرف، ذلك لأن المجتمع سوف يتحول إلى مجتمع جاهلي مما سينعكس على المجتمع بصورة كبيرة وبالتالي تحول المجتمع إلى “مجتمع تطرفي”، ويتوقع أديب أن يكون هناك المزيد من القرارات والإجراءات المتطرفة حيال المجتمع الأفغاني، وسوف يتجه الوضع في البلاد نحو المزيد من الظلام والانهيار والجاهلية.

كذلك، لا شك في أن هكذا قرارات فيما يتعلق بمنع الفتيات من تلقي تعليمهن سوف يرسخ لمستقبل مظلم في أفغانستان، مستقبل تسوده الخرافة والجهل وتغيب عنه المعرفة والتقدم والتطور، بحسب أديب، طالما لم تتغير الحركة المتطرفة ولن تتغير بعد وصولها إلى السلطة للمرة الثانية، لا سيما وأن الحركة ليس لديها أي مشروع سياسي بل كلها اجتهادات فاشلة.

“طالبان” لم تنجح بعد ولا توجد أي مؤشرات لذلك على المدى القريب أو البعيد، فضلا عن غياب مشروع إدارة الحكم عنها بكل تفاصيله، وموقفها من المرأة هو مجرد دلالة على تطرف الحركة واتجاهها نحو التشدد.

أديب يقول إن “طالبان” لا تسعى إلى عزل أفغانستان دوليا، وإنما تريد أطرافا دولية وتريد المزيد من الدعم المالي والسياسي من قبل المجتمع الدولي، ولكن بخياراتها وشروطها، وليس بشروط المجتمع الدولي الذي يريد أفغانستان قوية وألا تُعزل القوى المجتمعية السياسية أو حتى القبلية أو المرأة من العمل في داخل البلاد.

 عزل أفغانستان؟

هيئة “الأمم المتحدة” لدعم المرأة، أصدرت مطلع كانون الثاني/يناير الجاري، أن 86 بالمئة من منظمات تقدم المساعدات الإنسانية، والتي كانت تقودها النساء أو تشرف عليها في أفغانستان أصبحت لا تعمل أو قُلّصت أعمالها.

المنظمة الدولية قالت على منصة “تويتر” إنه بعد أسبوع من الحظر المفروض على النساء العاملات في المنظمات غير الحكومية في أفغانستان، تم سؤال 151 منظمة تقدم مساعدات إنسانية، معظمها تقودها نساء أو تركز عليها، عن مدى تأثير الحظر على قدرتها على تقديم الخدمات، وتبين أن الحظر كانت له آثار خطيرة.

قد يهمك: تهديدات السلم والأمن في 2023.. التوقعات والاحتمالات

كذلك، روى العديد من الفتيات والنساء اللاتي مارسن مجموعة متنوعة من الألعاب الرياضية لوكالة “أسوشييتد برس”، أنهن تعرضن للترهيب من قبل “طالبان” بزيارات ومكالمات هاتفية تحذّرهن من ممارسة الرياضة. وقبل حكم “طالبان”، كانت الرياضة النسائية تواجه معارضة من الكثيرين في المجتمع الأفغاني المحافظ، الذي ينظر إليها باعتبارها انتهاكا لحشمة المرأة ودورها في المجتمع. برغم ذلك، أنشأت الحكومة السابقة المدعومة دوليا برامج لتشجيع الرياضات النسائية والأندية المدرسية والبطولات والفِرق الوطنية للسيدات في العديد من الألعاب الرياضية. هذا فضلا عن قرار تأمر من خلاله حكومة “طالبان” بمنع عمل الفتيات في المراكز التجارية، وإغلاق صالونات التجميل النسائية في أفغانستان.

أديب، يقول من جانبه، أنه في الحقيقة عاد الوضع إلى ما كان عليه في فترة التسعينيات، وهي سنوات مظلمة بالنسبة لأفغانستان أثناء حكم الحركة آنذاك، وبالتالي يتوقع أديب أن يكون مستقبل البلاد أسوأ في ظل حكم هذه الحركة، إن لم يتخلص الشعب الأفغاني من الحركة وتسلطها، وأن يضغط عليها بحيث يكون هناك متنفس للمرأة والرجل أيضا.

 تأثير الضغط الدولي

في المقابل، وقبيل اجتماع مغلق لـ”مجلس الأمن الدولي” لمناقشة الحالة في أفغانستان، أصدرت 11 من الدول الـ 15 الأعضاء ما سمته بيان الالتزامات المشتركة لمبادئ المرأة والسلام والأمن للتعبير عن القلق البالغ حيال الوضع الحرج للنساء والفتيات في أفغانستان. وإذا حضّت “طالبان” على التراجع الفوري عن كل التدابير القمعية ضد النساء والفتيات، طالبتها بـ”التمسك بالتزاماتها المنصوص عليها في قرار “مجلس الأمن” رقم 2593 واحترام حقوق النساء والفتيات، ومشاركتهنّ الكاملة والمتساوية والهادفة ودمجهنّ في كل جوانب المجتمع في أفغانستان، من السياسية والاقتصادية إلى التعليم والفضاء العام”، وفق “الشرق الأوسط“.

هذا ووصفت الدول الـ11 هذه التدابير بأنها “تتعارض مع التزامات أفغانستان بصفتها طرفا في اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة”.

أما عن تأثير بيان “مجلس الأمن” على سلوك “طالبان”، فيرى أديب أنه ربما تستجيب الحركة استجابة جزئية لهذا البيان، نتيجة الضغوط الدولية، لكنها ستعود إلى ما كانت عليه، لأنها تعتبر خياراتها “فقهية” وهي في الحقيقة تعتبر تصورها ضد المرأة منصفا على اعتباره “موقف ديني”، وبالتالي لن تتراجع عن هكذا سياسة وممارسات والذي يراهنون على تغيير الحركة مع تغير الظروف والضغوط الدولية فهو “رهان خاسر”، فسوف تبقى الحركة متطرفة، تمارس تطرفها بصورة أوسع وأكبر، تضرب بالمرأة و بمستقبل أفغانستان ككل.

الدول الـ11 وهي ألبانيا والبرازيل والإكوادور وفرنسا والغابون واليابان ومالطا وسويسرا والإمارات العربية المتحدة وبريطانيا والولايات المتحدة، أفادوا أن “النساء يضطلعن بدور محوري وحيوي في عمليات تخفيف الوضع الإنساني المزري”، ذلك لأن لديهن خبرة فريدة وإمكانية الوصول إلى السكان الذين لا يستطيع زملاؤهم الذكور الوصول إليهم، و يقدمن الدعم المنقذ للحياة للنساء والفتيات.

وأكدت أنه من دون مشاركة النساء لن تتمكن المنظمات غير الحكومية من الوصول إلى أولئك الذين هم في أمسّ الحاجة إلى المساعدات، ولا سيما النساء والفتيات. وكررت مطالبة كل الأطراف بـ”السماح بوصول كامل وآمن ودون عوائق للجهات الفاعلة الإنسانية بغض النظر عن الجنس”، علما بأن “أفغانستان مستقرة وقابلة للحياة اقتصاديا ومسالمة لا يمكن تحقيقها واستدامتها إلا إذا كان في إمكان جميع الأفغان، وبينهم النساء والفتيات، الحصول على التعليم وتلقيه، والمشاركة الكاملة والمتساوية والهادفة في مستقبل البلاد” بما يتماشى مع قرارات “مجلس الأمن” 1325 و2593 و2626.

بالتالي ومع اقتراب موعد تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان “أوناما”، أكدت الدول الـ11 “دعمها القوي للبعثة الأممية” ومساهمتها القيمة في المساواة بين الجنسين، وتمكين النساء والفتيات وحمايتهن، وتوفير الحماية الكاملة لحقوقهن، بما في ذلك التعليم والعمل وحرية التنقل. ودعت إلى إبقاء حالة النساء والفتيات في أفغانستان على رأس جدول أعمال مجلس الأمن.

في العموم، يبدو أنه لا شيء سيغير الوضع في أفغانستان في ظل حكومة “طالبان” إلا إذا كانت هناك مقاومة من الشعب الأفغاني نفسه، والتي تبدأ من المرأة التي كانت ولا تزال تحارب من أجل الحصول على حقها وحق بلدها في حياة كريمة، أو ثمة تدخل دولي لإزالة حكم هذه الحركة المتطرفة أو تعديل سلوكها بفرض القوة، وإلا فإن ذلك سيكون له عواقب وخيمة على الشعب الأفغاني ومن ثم على المنطقة والعالم ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.