تحركات محمومة من النخبة السياسية الحاكمة في لبنان وأتباعها من أجل إنهاء التحقيق في انفجار مرفأ بيروت مما أثار صراعا في الهيئة القضائية في محاولة لتجنب المساءلة بأي ثمن، وانفجرت التوترات التي مرت بفترات من الهدوء بشأن التحقيق بعد أن وجّه القاضي طارق البيطار، اتهامات لبعض الأشخاص الأكثر نفوذا في البلاد متحديا الضغوط السياسية باستئناف تحقيقه.

أيضا ساهم بتفجير التوترات، أن قائمة المتهمين شملت أصدقاء وحلفاء من أقوى الفصائل في لبنان، بما في ذلك “حزب الله”، ما دفع المؤسسة القضائية الموالية لـ”الحزب” والقوى الأخرى بالرد يوم الأربعاء الفائت، باتهام المدعي العام للبيطار بأنه يغتصب السلطات.

هذا الانفجار في المواقف السياسية، بالنسبة لموضوع قضائي يثير تساؤلات حول رفض النخبة السياسية اللبنانية وقسم من القضاء اللبناني اتهامات البيطار، وتداعيات الاتهامات التي وجّهها البيطار لأطراف مختلفة، وكيف ستحمي النخبة الحاكمة نفسها، وهل ستتحول قضية المرفأ إلى القضاء الدولي.

لماذا ترفض النخبة الحاكمة اتهامات البيطار؟

في الرابع من آب/أغسطس 2020، وقع انفجار في مرفأ بيروت نتيجة وجود مئات الأطنان من المواد الكيميائية المخزنة بشكل غير سليم وكان الرئيس ورئيس الوزراء حينذاك، من بين مسؤولين آخرين، على علم بهذا.وكل المتّهمين ينفون ارتكابهم أي مخالفات.

انفجار مرفأ بيروت

تحقيق البيطار توقف آنذاك بعد أن استقال قضاة من محكمة كان يتعين أن تبت في شكاوى مقدمة ضده من مسؤولين وجه إليهم البيطار الاتهام من بينهم أعضاء بارزون في حركة “أمل” التي ينتمي إليها نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني، وامتنع وزير المالية المدعوم من رئيس البرلمان، نبيه بري، عن التوقيع على مرسوم بتعيين قضاة جدد مما أثار مخاوف من مأزق إلى أجل غير مسمى.

البيطار استأنف عمله، الاثنين الماضي، ووجه اتهاما إلى عدد أكبر من المسؤولين من بينهم المدّعي العام، غسان عويدات، واللواء عباس إبراهيم، وهو مسؤول أمني له علاقات قوية بـ”حزب الله” القوة الأكبر في لبنان.

المدعي العام عويدات، كان قد تنحّى سابقا عن نظر القضية حيث كان صهره، وهو عضو من حركة “أمل” ووزير سابق، من بين المتهمين. لكن عويدات عاد هذا الأسبوع ليرد على البيطار بإجراءات تضمنت إطلاق سراح محتجزين فيما يتعلق بانفجار المرفأ.

قد يهمك:هل سينجح الوفد القضائي الأوروبي في تأدية مهمته في لبنان؟

محاولات من النخبة الحاكمة والشخصيات المحسوبة عليها لرفض ما يقوم به البيطار، لأنه وحسب الصحفية اللبنانية، فاطمة عثمان، خلال حديثها لـ”الحل نت”، أن غالبية الشخصيات السياسية المنخرطة في الحكم متورطة في الانفجار وعلى رأسها “حزب الله”، حيث تبين خلال التحقيقات الأولية بعد الانفجار وجود بقايا وقود صواريخ في العنبر رقم 12 في المرفأ والذي كان يحوي مادة نترات الأمونيوم، وبالتالي فإن “حزب الله” المسيطر على كل المرافق في الدولة اللبنانية بما فيها قسم من القضاء اللبناني المسيّس يسعى لدفن التحقيق.

تداعيات اتهامات البيطار

المنطقة المحيطة بـ”قصر العدل” في بيروت، تحولت يوم الخميس الفائت إلى ما تشبه ساحة معركة بين أهالي ضحايا انفجار المرفأ الذين تجمعوا للاحتجاج على القرارات الأخيرة التي اتخذها القاضي غسان عويدات من جهة، وقوات الأمن التي حاولت منعَهم من التقدم ودخول المبنى. وشهد مكتب وزير العدل القاضي غسان خوري تلاسنا وتضاربا بين عدد من النواب، الذين اجتمعوا به لمطالبته باتخاذ قرار يعيد التحقيقَ إلى مساره.

النائب أديب عبد المسيح قال إنه، “أثناء الاجتماع تعرَّض النائب وضاح الصادق للضرب، وجرى عراك بين النواب والعناصر الأمنية في وزارة العدل”، وأصدر وزير العدل بيانا أسف فيه “للمشاهد السيئة والمؤسفة التي حصلت أثناء استقباله مجموعةً من النواب”، وأوضح أن الإشكال جاء نتيجة “الأجواء القضائية المشحونة، ونوايا بعض النواب الذين لم يلتزموا أصولَ التخاطب واللياقة مع الوزير”.

في هذا السياق، تشير عثمان إلى أن أبرز التداعيات هي الانفجار الشعبي اللبناني الذي بدأ فعليا من قبل أهالي الضحايا ومن يقف ويتعاطف معهم، وبالتوازي مع ذلك انخفض سعر صرف الليرة اللبنانية أكثر إذ بلغ 61 ألف ليرة مقابل كل دولار أميركي واحد ومن المتوقع أن تنخفض أكثر.

أيضا تضيف عثمان أن هناك بوادر لانفجار أمني في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن، وفي حال حصل ذلك فإن تداعياته لن تقف عند حدود لبنان فقط.

محاولات لدفن التحقيق

“مجلس القضاء الأعلى” اللبناني أخفق في عقد جلسته الطارئة، التي دعا إليها رئيسه القاضي سهيل عبود، للبحث في الوضع القضائي ومصير ملف التحقيق في انفجار المرفأ، في ظل حرب الإلغاء المستمرة بين المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، وتسود المخاوف من أن تؤدي الأزمة القضائية المستفحلة إلى نسف التحقيقات ودفن أي فرصة للوصول إلى الحقيقة بشأن المسؤولية عن الانفجار.

من جهة ثانية يرى من يقف مع القاضي البيطار واستمرار التحقيق، أن ما يجري انقلاب على تحقيق البيطار، ويترك هذا القليل من الأمل في تحقيق العدالة بأي حال في الانفجار الذي أودى بحياة 220 شخصا ودمر مساحات شاسعة من بيروت، ويثير القلق أيضا بأن القضية ستسلك الطريق نفسه الذي سلكه عدد لا يحصى من القضايا الأخرى في بلد لطالما كان الإفلات من العقاب هو القاعدة.

عثمان تؤكد أن النخبة السياسية بمختلف أطيافها وعلى رأسها “حزب الله” تحاول كف يد القاضي البيطار، ودفن التحقيق وإيجاد شخصيات مغمورة تابعة لها لتكون في وقت ما تحت قوس الاتهام كبديل عن كبار الشخصيات السياسية.

هل تتجه قضية المرفأ للتدويل؟

بعض اللبنانيين طالبوا بإجراء تحقيق دولي منذ البداية لشكهم في قدرة السلطات المحلية على إخضاع أي شخص للمساءلة بشأن الانفجار، ومثل هذا التحقيق لن يكون الأول من نوعه. فقد تشكلت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، وأدانت في نهاية المطاف عضوا في “حزب الله” بالضلوع في مؤامرة لقتل الحريري.

المدعي العام غسان عويدات

من الممكن أن تذهب القضية إلى التدويل تبعا لطبيعة التركيبة اللبنانية وما يقوم به “حزب الله” بشكل خاص لإيقاف التحقيق، ففي عام 2021، بعث مسؤول في “حزب الله” برسالة إلى البيطار توعده باقتلاعه، وشارك أنصار الجماعة في مسيرة مناهضة للبيطار تسببت في نشوب أعمال عنف دامية على طول خط مواجهة قديم يعود للحرب الأهلية بين أحياء مسيحية وشيعية.

عثمان تشير إلى أن أي محاولة لإغلاق ملف التحقيق بانفجار المرفأ ستجعل القضية برمتها تتجه نحو التدويل، وأهالي الضحايا لن يسكتوا بعد اليوم عن حقوقهم ولن تثنيهم محاولات ابتزاز “حزب الله” والجماعات السياسية الأخرى، وهم أصلا باتوا ينادون بنقل الملف إلى محكمة دولية لأنهم يعتبرون أن القضاء اللبناني مشكوك بأمره واستقلاليته.

مشكلة جديدة تُضاف إلى المشاكل التي يعاني لبنان منها، خاصة في ظل فراغ مقعد الرئاسة، واشتداد حدة الخطاب الطائفي، وانهيار العملة، وتولي الناس مهام الأمن بأنفسهم في بعض المناطق، ومن الممكن في حال نظّم أهالي ضحايا المرفأ احتجاجات مستمرة أن تتجه الأوضاع نحو تصعيد أوسع خلال المرحلة القادمة.

إقرأ: تفاقم الوضع الاقتصادي بلبنان.. هل يزيد من المخاطر الأمنية؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.