العديد من الأسباب والدوافع على مختلف المستويات، من سياسية إلى اجتماعية واقتصادية وأمنية، تحيط وتدفع الشعوب العربية إلى النظر بشكل سلبي إلى بلدانهم والتفكير في الهجرة، وما يلفت النظر في الأمر هو ارتفاع معدل هؤلاء الأشخاص خلال السنوات الماضية. حيث ترصد مراكز الأبحاث والدراسات تحولا كبيرا في هذه الرغبة بعد جائحة “كورونا “، والظروف المضطربة في كثير من الدول العربية، إضافة إلى التضخم الذي حدث خلال الفترات الماضية.

نسب الأشخاص الذين ينظرون إلى بلدانهم بشكل سلبي ويرغبون في الهجرة تعتبر عالية جدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يُعبّر أكثر من نصف سكان هذه المناطق عن نظرة سلبية لمستقبل بلدانهم، و52 بالمئة يعتقدون أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ لأسباب تتعلق بالظروف الاقتصادية المتردية والأوضاع السياسية غير المستقرة، وفق استطلاع أجراه “المؤشر العربي 2022” في 14 دولة عربية.

كذلك، أصدر استطلاع آخر للرأي أجرته منظمة “الباروميتر العربي“، وهي شبكة بحثية مستقلة تُقدّم نظرة عن الاتجاهات والقيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمواطنين في العالم العربي، حول نوايا ودوافع الهجرة في البلدان العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. البحث أظهر أن مؤشرات الهجرة لدى الشباب في الدول العربية تسير في منحى تصاعدي مقارنة بالسنوات السابقة، حيث يرغب ما يقرب من نصف السكان في المغادرة والتوجه صوب البلدان الغربية.

من هنا لابد من طرح بعض التساؤلات، لفهم سياق نظرة هؤلاء الشباب العربي تجاه بلدانهم، ومسألة الهجرة التي لها أهمية خاصة في السياق العربي المعاصر، لا سيما من حيث ارتباطه بفئة عمرية، اجتماعية تمثّل قلبه النابض ورهانه الرئيسي لرفع التحديات المستقبلية التنموية والتحررية؛ إذ إن ازدياد هجرة الشباب العربي في العصر الحديث، أضحت أزمة في محيط العالم العربي، من حيث خطر نقص المواهب البشرية من جيل الشباب.

أسباب عدة

الاستطلاع الذي أجراه “المؤشر العربي 2022” داخل 14 بلدا عربيا، شمل 33300 مستجوَب ومستجوَبة، وتناول قضايا السياسة والاقتصاد والتّدين والأمن ودور وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمعات العربية.

حسب المُخرجات العامة لنتائج الاستطلاع، فإن 40 بالمئة من المستجوَبين يُرجعون نظرتهم السلبية إلى بلدانهم وسيرها في الاتجاه الخاطئ لأسباب اقتصادية في المقام الأول، بينما أرجع 14 بالمئة السبب إلى الأوضاع السياسية مثل التخبط السياسي وعدم قيام أنظمة الحكم بما يجب القيام به، في حين قال 9 بالمئة بأن السبب يعود إلى سوء السياسات العامة.

البيانات الإحصائية للاستطلاع، أوضحت أن 28 بالمئة من مواطني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يرغبون في الهجرة، وأن الدافع لدى أكثريتهم يعود إلى تحسين أوضاعهم الاقتصادية.

المحامي والحقوقي، غزوان قرنفل، يعتقد من جهته أن نسبة 52 بالمئة من الذين يفكرون بالهجرة وفق “المؤشر العربي 2022″، متواضعة قياسا برداءة الأوضاع على مختلف المستويات بالدول العربية، ذلك لأن هذا الأمر يقود بالمرء إلى أن 48 بالمئة من النسبة المتبقية من الاستطلاع ما يزال لديهم يقين أو أمل بإمكانية إصلاح أو تحسين أوضاع المنطقة التي وصلت إلى القاع والدرك الأسفل من التعاسة.

طبقا لوجهة نظر قرنفل الذي تحدث لموقع “الحل نت”، فإن نسبة 48 بالمئة المتبقية من المتفائلين أو لنقل غير المدركين لأبعاد حالة انسداد الأفق أمام أي تغيير إيجابي في المدى المتوسط في هذه المناطق المتصحرة من كل شيء تقريبا، “كبيرة وربما غير واقعية”.

قد يهمك: هل تنجح ألمانيا في إقناع اللاجئين العراقيين بالعودة الطوعية؟

قرنفل يقول من جهته إن “نسبة 85 بالمئة من المجتمعات العربية عليها، إن اتيح لها مغادرة هذا القاع السحيق المسمى المنطقة العربية، وتترك هذه الجغرافيا الملعونة لحكامها يرتعون في خرائبها”. واليوم تنتقد المجتمعات وتشكو من الظروف المريرة والحال التي وصلت إليها الدول العربية، ويعبر الكثيرون عن رغبتهم في الهرب إلى دول أخرى تحوي أحلامهم وتطلعاتهم، في ظل افتقارهم للأمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.

بالتالي، العاملان الاقتصادي والأمني هما أبرز العوامل التي تدفع المواطنين العرب للهجرة من بلدانهم بشكل عام، ولا تُعد بلدان المنطقة العربية استثناء في ذلك، بل إنها قد تتوافر بها أقسى عوامل الهرب التي تدفع الشباب دفعا إلى الهجرة، إذ لا يمكن التغاضي عن الأزمات التي حلت في المنطقة العربية من النزاعات والحروب عملت على مضاعفة معدلات الهجرة، فالشباب العرب يرغبون في تأمين مستقبلهم ورسم حياتهم بالشكل الذي يليق بهم، ومن هنا اتجهوا للهجرة إلى الدول الأوروبية، بالنظر إلى أنها الخيار الأفضل.

كما أن المشكلات الاجتماعية من العوامل المحفّزة أيضا على الهجرة، مقابل الحوافز التي تقدمها الدول الأجنبية لاستقطاب الموارد البشرية العربية، خاصة شريحة المثقفين وخريجي الجامعات، أي الأدمغة والعقول. كما أن العديد من الراغبين في الهجرة أو مَن هاجروا بلغوا حالة اليأس من تحسّن ظروف حياتهم في بلدانهم، لا سيما بعد جملة الأزمات المضطربة في العديد من البلدان، مثل لبنان وسوريا والعراق وتونس، وأبرزها الوضع السياسي والاقتصادي والتعليمي الرديء.

إن ظاهرة الهجرة في بلدان المنطقة تبدو في ازدياد خلال الأعوام الماضية، وإن كان أخطر أنواعها شيوعا، هي تلك الهجرة غير الشرعية، بما تمثله من خطر على حياة الشباب الذي يقدم عليها، إذ لا يكاد يمر شهر دون ورود أخبار عن غرق مجموعات من الشباب العربي، فيما بات يُعرف بقوارب الموت وهي في طريقها بحرا إلى سواحل أوروبا، وفق مراقبين.

هذا وتصدرت الاحتياجات الاقتصادية قائمة أولويات مواطني المنطقة بنسبة 60 بالمئة. وقال أكثر من نصف المستجوَبين في المنطقة ذاتها إن البطالة وارتفاع الأسعار وسوء الأوضاع الاقتصادية والفقر هي أهم التحديات التي تواجه بلدانهم.

طوق نجاة؟

في المقابل، فإن 16 بالمئة من المستجوَبين يرغبون في الهجرة بدافع التعليم أو الاستمرار في التعليم، وعبّر 11 بالمئة عن رغبتهم في الهجرة لأسباب سياسية أو أمنية.

المحامي والحقوقي، يقول إن الهجرة رغم كل سلبياتها هي خلاص من القهر والفقر لا أمل له في زواله في البلدان العربية عموما، ولهذا السبب غالبا ما تكون الهجرة طوق نجاة لأنها تفتح آفاقا ومسارات مغلقة أو متأثرة في حياة مواطني هذه الأوطان.

قد يهمك: تزايد أعداد المهاجرين الإيرانيين.. الأسباب والتداعيات

كما وسُجّلت أعلى نسبة للراغبين في الهجرة بالمشرق ووادي النيل بنسبة الثُلثين، ثم المنطقة المغاربية بنسبة الثلث، مقابل 6 بالمئة فقط في بلدان الخليج. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن مؤشر الرغبة في الهجرة لدى مواطني المنطقة العربية يسير في اتجاه تصاعدي، إذ كان في حدود 22 بالمئة خلال عامَي 2019 و2020، لينتقل إلى 28 بالمئة في 2022.

أما بالنسبة للذين يرون أن بلدانهم تسير في الاتجاه الصحيح، فقد أفاد 19 بالمئة منهم بأن السبب راجع إلى الأمن والأمان في بلدانهم، وعزا 13 بالمئة منهم السبب إلى الحكم الرشيد، و7 بالمئة منهم إلى تحسّن الوضع الاقتصادي، و5 بالمئة منهم إلى توفر الاستقرار السياسي، و5 بالمئة منهم إلى الشعور بالتفاؤل في المستقبل.

هذا وتصدرت دول منطقة الخليج العربي قائمة البلدان التي ترى شعوبها أنها تسير في الاتجاه الصحيح بنسبة 89 بالمئة، تليها دول المنطقة المغاربية بنسبة 41 بالمئة، ثم منطقة وادي النيل التي تشمل مصر والسودان بنسبة 31 بالمئة، ثم المشرق العربي التي تشمل فلسطين ولبنان والأردن والعراق بـ 14 بالمئة.

هجرة الأدمغة

منظمة “الباروميتر العربي”، قالت في تقريرها الذي نُشر في حزيران/يونيو الماضي ، إن معدلات الأشخاص الراغبين في الهجرة عالية جدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحتل كل من الأردن والسودان وتونس رأس القائمة، حيث يرغب ما يقرب من نصف السكان في المغادرة. شمل البحث عيّنة من أكثر من 33 ألفا، توزعوا على 14 دولة. نتائج البحث أفضت إلى أن نحو 30 بالمئة من سكان هذه الدول يسعون للهجرة لأسباب تنوعت بين اقتصادية وسياسية وأمنية وتعليمية.

اللافت في نتائج الاستطلاع أن الحجة الاقتصادية لا تشكل سببا كافيا يدفع الناس إلى اتخاذ القرار بالهجرة بعيدا عن أوطانهم، لكن بالنظر إلى استخلاصات منظمة العمل الدولية حول تأثير جائحة “كورونا” على دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُلاحظ أن معدلات البطالة ارتفعت بنسبة 50 بالمئة في مصر و33 بالمئة في تونس و23 بالمئة في المغرب، مما يستدعي النظر إلى نقاط الضعف الهيكلية في أسواق العمل وقدرتها على استيعاب الأفواج المتجددة من الأيدي العاملة، خاصة من فئة الشباب.

في المقابل، تحدثت فئات متعددة في المسح الذي أجراه “الباروميتر العربي” عن أسباب أخرى دفعتها لاتخاذ هذا الخيار، وهي أسباب تعليمية وسياسية وأمنية، كلا وفقا للبلد الذي جاء منه والظروف المحيطة به. كما أن معظمهم من الحاصلين على مستوى تعليم جامعي جيد مقارنة بالحاصلين على تعليم ثانوي أو أقل، وهو ما عزز مخاوف المراقبين من هجرة الأدمغة العربية.

المراقبون يرون أن عوامل الطرد الماثلة أمام الشباب العربي كثيرة ومعقدة، أبرزها البطالة والفقر وتدني الأجور وعدم الثبات في العمل، ومن هنا يلجأون لتوظيف قدراتهم والاعتماد على ذواتهم وخبراتهم، في ظل غياب السياسات العادلة بحقهم.

في إطار الحلول يقول المحامي والحقوقي، إن الحلول دائما موجودة وإنما الإرادة غير موجودة، حيث أن الحلول تقتضي وجود دول محكومة بالقوانين وفيها قضاء مستقل وفيها قوانين متوازنة وعادلة وفيها فرص للتداول السلمي للسلطة وأمور أخرى متعددة يجب توافرها لينطلق قطار الحلول.

قد يهمك: أزمة اقتصادية سياسية متفاقمة في ليبيا.. ما تأثيرها على معدلات الهجرة؟

المحامي والحقوقي لا يعتقد أن أيّاً من أصحاب القرار في الدول العربية له مصلحة في انطلاق قطار الحلول الواضحة للجميع تقريبا. بالتالي، فإن نزيف الهجرة والنظرة السلبية تجاه مستقبل بلداهم سيكون في تصاعد ما لم يتغير توجهات سياسات هذه الدول، أو لحين قيام الدول الغربية بإحكام حدودها جيدا وإغلاق الباب أمام تدفق أعداد الهجرة من الدول العربية وغيرها.

إن الفئة العمرية التي تهاجر هي فئة الشباب، ومع الوقت ستتفاقم مشكلة هجرة العقول والأدمغة وأصحاب الكفاءات نتيجة عدم توفر البيئة المحفّزة الحاضنة لهم، ومما لا شك فيه سينعكس سلبا على هذه البلدان.

مؤشرات خطيرة

مسح “المؤشر العربي 2022″، اعتبر 61 بالمئة من المستجوَبين أن مستوى الأمان في بلدانهم جيد أو جيد جدا، مقابل 38 بالمئة قالوا إنه سيئ أو سيئ جدا، بينما وصف 44 بالمئة الوضع الاقتصادي لبلدانهم بأنه إيجابي “جيد أو جيد جدا”، مقابل 54 بالمئة قالوا إن الوضع الاقتصادي لبلدانهم سلبي أو “سيء أو سيء جدا”.

الوضع السياسي العربي تباينت توجهات الرأي العام في تقييمه، حيث اعتبر 44 بالمئة أنه إيجابي، مقابل 49 بالمئة قالوا إنه سلبي. في حين اعتبرت أغلبية مستجوَبي دول الخليج العربي أن الوضع السياسي جاء إيجابيا، لكن هذا التقييم كان أقل إيجابية بفارق 4 نقاط مقارنة بنتائج آخر استطلاع أجراه “المؤشر العربي” خلال عامَي 2019 و2020.

من جهة أخرى، ثمة نسبة كبيرة من الساعين للهجرة في الدول العربية أعربت عن استعدادها تحمل أهوال الهجرة غير النظامية حتى لو كانوا يفتقدون للوثائق اللازمة. وعلى مدار الأشهر الماضية، شهدت طرقات الهجرة المتنوعة “البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، والبلقان وما إلى ذلك من الطرق غير الشرعية”، ارتفاعا كبيرا بأعداد المهاجرين ولا سيما التونسيون والسوريون واللبنانيون.

في العموم، يبدو أن أعداد الراغبين في الهجرة والذين ينظرون بشكل سلبي إلى مستقبل بلادهم في السنوات القادمة في ازدياد، بسبب الديناميكيات السياسية وتدهور الأوضاع وقلة الفرص في مجالات التنمية والعمل وغيرها، وكذلك نتيجة للتغيرات البيئية، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن عدد اللاجئين بسبب تغير المناخ سيصل إلى حوالي 200 مليون لاجئ بحلول عام 2050.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.