في ظل ما تشهده ليبيا من أوضاعا غير مستقرة، أتت صفقة الغاز التي وقّعتها “حكومة الوحدة الوطنية” المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة مع إيطاليا عبر شركة “إيني” للتنقيب عن الغاز مؤخرا، لتُفاقم الخلافات بين الأطراف السياسية هناك وتعمّق حجم التوترات في الشارع الليبي.

ليبيا وإيطاليا، وقّعتا أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، اتفاقا بقيمة قد تصل إلى 8 مليارات دولار يستمر لمدة 25 عاما، تزوّد بموجبه طرابلس روما بكميات كبيرة من الغاز، لتعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا، والتي تراجعت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.

هذه الاتفاقية قوبلت بجملة من الانتقادات والرفض، حيث اعتبر محمد عون وزير النفط والغاز في حكومة الدبيبة أن أي صفقة تبرمها المؤسسة الوطنية للنفط مع إيطاليا هي إهدار لثروة الدولة الليبية. في حين حذر رئيس مجلس الوزراء المكلف من “مجلس النواب الليبي” فتحي باشاغا، من مضمون هذه الاتفاقية ووصفها بـ”الغامض”، إلى جانب تهديد نائب رئيس المجلس الأعلى لقبائل ليبيا، السنوسي الحليق، بالتوعد بإغلاق حقول وموانئ النفط والغاز بشرق البلاد في غضون أيام بعد الاتفاق النفطي مع إيطاليا. ووصف الاتفاقية بأنها “غير قانوني وغير شرعي”. كما ورفضها أعضاء من البرلمان الليبي.

إذاً، حتى الآن لقيت هذه الاتفاقية انتقادات وردود حادة وواسعة من الأطراف الليبية المعارضة لحكومة الدبيبة وحتى بعض أعضاء حكومته، والجميع متفق على أن نصيب ليبيا من هذا الاتفاق ضائع وغير عادل، أي أن الاتفاقية تمنح استثمارات ضخمة للحكومة الإيطالية في قطاع الطاقة، بينما تُعدُّ تنازلا جديدا من قبل حكومة الدبيبة، بهدف الحصول على دعم دولي لاستمرارها في السلطة.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول احتمالية تفجير الشارع الليبي غضبا في حال دخول اتفاقية الدبيبة مع إيطاليا حيز التنفيذ، وانعكاسات هذا التأجيج الشعبي على الانتخابات الليبية، إضافة إلى التساؤل عن فرص نسف هذا الاتفاق والتبعات على اقتصاد البلاد والجهات التي تقف وراء ردود وتهديدات القبائل الليبية وأسباب ذلك.

واشنطن تحافظ على التهدئة

في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية، قال نائب رئيس المجلس الأعلى لقبائل ليبيا، إن الإغلاق يشمل خطوط إمداد الغاز إلى إيطاليا في كامل المناطق الواقعة في سرت وفي الجنوب الشرقي للبلاد. وقال أيضا إن الاتفاق أضاع حقوق الليبيين، واعتبره إهدارا للمال العام، مضيفا أن الاحتقان في الشارع وصل إلى درجة غير مسبوقة.

في المقابل، دافع الدبيبة، يوم الأربعاء الماضي، عن الاتفاقية وقال إنها استثمار غير مسبوق وتصب في مصلحة البلاد. وحسب اعتقاد الدبيبة، فإن التأخر في تنفيذ هذا المشروع يعني أن ليبيا ستتحول في عام 2027 من دولة مصدّرَة للغاز إلى دولة مستورِدة. وأضاف في كلمة خلال اجتماع لمجلس الوزراء أن بلاده في أمسّ الحاجة لإعادة تفعيل مشروعات الغاز وتطويرها بشكل عاجل لأن الدراسات الرسمية والبيانات الدولية تؤكد أن التّأخر سيسبب نقصا في قدرة ليبيا على إنتاج الغاز، وفقا لتقرير لقناة “العربية“.

نهاية الأسبوع الماضي، أبرمت حكومة طرابلس اتفاقا مع إيطاليا بحضور رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني يقضي باستثمار شركة “إيني” للتنقيب عن الغاز،  8 مليارات دولار في حقلين بحريين ليبيين يبلغ إجمالي احتياطهما 6 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي لاستخراجها خلال 25 عاما.

بينما قال الدبيبة إن هذه الاتفاقية وقِّعت في الأساس منذ عام 2008 وقامت حكومته بإعادة تفعيلها بعدَ تأخر تنفيذها طوال هذه السنوات، وأن هذا التأخير ترّتب عنه التزامات على الطرفين. وأضاف أن توقيعها جاء بعد مفاوضات ماراتونية.

قد يهمك: بعد 18 عاما من الإغلاق.. ما دلالة إعادة فتح السفارة المغربية في العراق؟

ضمن الإطار، يرى المتحدث باسم “مبادرة القوى الوطنية الليبية”، محمد شوبار، الجميع يعلم جيدا أن من يسيطر على القرار السياسي والعسكري في الشرق الليبي هي روسيا، التي تستخدم أفراد مجموعة “فاغنر” المصنفة مؤخرا “مجموعة إجرامية عابرة للحدود”، للعمل على زعزعة الاستقرار في كثير من الدول الإفريقية ومنها ليبيا التي تتخذها روسيا كقاعدة خلفية للسيطرة على القارة السمراء، وهذا ما لن يسمح به المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية.

لذلك فإن أي بيانات صادرة عن الشرق الليبي تعبّر عن إرادة روسية خالصة، سواء كانت تلك البيانات صادرة عن جهات حكومية أو غير حكومية، وبعد زيارة وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” إلى البلاد، يصبح تنفيذ أي تهديدات بوقف صادرات النفط والغاز الليبي، أمرا مستحيلا سواء كان من قبائل أو أي أطراف أخرى، وفق تقدير شوبار لموقع “الحل نت”.

شوبار يقول إن حكومة الدبيبة غير مخولة بعقد اتفاقيات طويلة الأمد وفقا لاتفاقية جنيف، وبتلك الاتفاقية التي تم التوصل إليها بين حكومته وإيطاليا مؤخرا، سيكون مصيرها مثل باقي الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها سابقا بين البلدين؛ حكومة الدبيبة وتركيا التي صدر بشأنها قرار من “مجلس الأمن الدولي” برفضها الكامل. خاصة وأن الدبيبة يسعى لتحقيق مكاسب لإبقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة.

إلا أن هذه الانتقادات والاعتراضات  خاصة من الشارع الليبي، قد تقود البلاد إلى مسار أكثر تعقيدا مما هو عليه، خاصة وأن خروج الليبيين إلى الشارع أمر غير مستبعد، بجانب حدوث اضطرابات أمنية بين القوى السياسية أمر وارد. واستدلالا على ذلك، ألمح باشاغا رئيس “حكومة الاستقرار” الليبية الموازية قبل يومين إلى أن حوار سياسي جديد في البلاد على غرار الحوار الذي استضافته “الأمم المتحدة” في جنيف عام 2020. وهذا الحديث جاء تزامنا مع اتفاقية النفط بين حكومة الدبيبة وإيطاليا، أي أن الأطراف بدأت تتحرك ولن يقبلوا باستحواذ طرف واحد على موارد البلاد وثرواتها واستغلالها لمصالح سياسية.

من جهة أخرى، أبلغ المتحدث باسم “الاتحاد الأوروبي” بيتر ستانو، وسائل إعلام محلية ليبية، مؤخرا، بأهمية إدارة وتوزيع الموارد النفطية بشفافية وعدالة، بالإضافة إلى تقديم الخدمات العامة في جميع أنحاء البلاد لصالح جميع المواطنين. وقال إن “خلال مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الدبيبة الموقّعة في تشرين الأول/أكتوبر عام 2022 أكدنا فيها موقفنا بشأن تجنب الأعمال التي يمكن أن تقوض الاستقرار الإقليمي”.

المتحدث باسم “الاتحاد الأوروبي”، أكد على ضرورة أن تكون كل الأعمال والاتفاقيات التي تجري مع طرابلس تصب وتربط بمصالح اقتصادية قوية مع ليبيا، معربا عن استعداد الاتحاد للتعاون مع ليبيا، شريطة تهيئة الظروف لفرص طويلة الأجل للتعاون بين الطرفين.

أيضا، من جانب آخر، فإن عدم استثمار ثروات البلاد وخيراتها بشكل مستقل من قبل جهات متوازنة ومستقلة، غير خاضعة لأية جهات خارجية، يعني أن الاقتصاد الليبي سيتدهور وستكون الظروف المعيشية للبلاد أيضا عند مستويات منخفضة، مما يعني أن عجلة الاقتصاد ستكون في مكان ثابت، دون تحقيق أي تقدم أو تطورات ترجع بالفائدة لمصلحة الدولة والشعب ككل.

أسباب الانسداد السياسي

باشاغا، قال في تصريحات تلفزيونية يوم الأربعاء الفائت، إن “حكومة الوحدة الوطنية” المؤقتة الدبيبة، انتهت شرعيتها بموجب اتفاق جنيف، ولكن دوليا الأمم المتحدة تعترف بها لأن خروجها يجب أن يتم بحوار جديد، وهذا ما سيتم قبل نهاية الشهر الحالي، دون أن يقدم المزيد من التفاصيل.

باشاغا اعتبر أن حكومة الدبيبة، التي وصفها بأنها منتهية الولاية، فشلت فشلا ذريعا في مهامها لإجراء الانتخابات والإصلاحات التي تمسّ حياة الليبيين، مستبعدا إمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة في ظل الحكومتين، في إشارة إلى نزاعه على السلطة في مواجهة غريمه الدبيبة.

كذلك، رأى أن إتمام الانتخابات مستبعد ومستحيل في ظل الحكومتين، وقال يجب أن يكون لليبيا حكومة واحدة تستطيع إجراء الانتخابات في البلاد بمؤسسات غير منقسمة بالإضافة إلى توحيد قيادة الجيش. وجاءت هذه التصريحات بعد ساعات من نفي بعثة “الأمم المتحدة” ما وصفته بالمزاعم بشأن تشكيل هيئة تشريعية جديدة تهدف إلى إيجاد حلول للمضي قدما، عبر منظمة مجهولة تدعي أنها تابعة لـ”الأمم المتحدة”، في إشارة إلى مركز الحوار الإنساني الذي يتخذ من سويسرا مقرا له.

المتحدث باسم “مبادرة القوى الوطنية الليبية”، يرى أن حالة الانسداد والانقسام السياسي التي تمر بها ليبيا اليوم سببها ضعف وفساد كل المؤسسات التي انبثقت عن “ملتقى الحوار السياسي الليبي” في جنيف، فكل الطبقة السياسية المتواجدة في السلطة تسعى للبقاء أطول فترة ممكنة لنهب أموال الليبيين وتحويلها للخارج وهذا ما لن يسمح به المجتمع الدولي. بالتالي إطالة أمد مستقبل واستقرار البلاد، بوجود هذه الأطراف السياسية الليبية واستمراريتها في النزاع على دفة البلاد.

لزوم تحشيد دولي

إن الحل الجذري للأزمة الليبية سيكون قريبا، وفق تقدير شوبار، إذا ما طُبق قرار “مجلس الأمن الدولي” رقم  2656، والذي يدعو فيه تشكيل قيادة وطنية قوية بوجوه جديدة لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل الذي يتضمن خروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة المتواجدين على الأراضي الليبية.

قد يهمك: تحرك دولي إقليمي.. هل سيسهم بإنجاح الانتخابات في ليبيا؟

هذا بالإضافة إلى جمع الأسلحة لتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، ووجود حكومة موحدة تبسط الأمن على كامل التراب الليبي سيجعل مهمة الحفاظ على قدرات الشعب الليبي متاحة وميسرة، حسب وجهة نظر شوبار،  كما إن البلاد اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ومهمة تنطلق معها خطوات بناء ليبيا الحديثة التي ستكون قطبا هاما للتنمية والإعمار والازدهار في المنطقة قاطبة لما تحمله المرحلة من عملية اقتصادية ضخمة تجلب الرخاء والنمو لجميع شعوب شمال إفريقيا.

المراقبون أيضا يؤكدون على أهمية تفكيك كافة الميليشيات وخروج القوات الأجنبية لضمان التوصل نحو الاستحقاق الانتخابي في ليبيا وربما تجدها واشنطن أيضا المقاربة الواقعية الأكثر نجاعة. كما تولي الإدارة الأميركية في الوقت الراهن مقاربة سياسية تشتبك مع الانسداد السياسي من خلال تفكيك حضور قوات “فاغنر” في جغرافيا الهلال النفطي الليبي وتفعيل وساطة فيما بين المشير خليفة حفتر والدبيبة، لضمانة حضور حكومة تعمل في كافة أنحاء البلاد وتسمح بتنفيذ الاستحقاق الانتخابي خلال الأفق المنظور من العام الجاري، وبالتالي ضمان وصول البلاد إلى أولى خطوات مسار الاستقرار والأمن.

كذلك، لا يمكن التغاضي عن أن هذا العام يُعد فرصة مهمة لإجراء الانتخابات في ليبيا والخروج من الأزمة السياسية التي تعانيها البلاد، والتحشيد المستمر للميليشيات وتحديدا “فاغنر” المتواجدة في ليبيا، ليس في صالح استقرار البلاد وأن الأوضاع ستبقى على ما عليه، إذا لم تكن في اتجاهها نحو الأسوأ.

لذلك فإن التعبئة الدولية ستكون بمثابة محرك إيجابي يمضي نحو تهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات في ليبيا ودفع البلاد نحو التوافق والاستقرار، وهو أمر يجب أن تتفق عليه الأطراف كافة. إلا إن تحرك بعض الأطراف بشكل فردي ودون الرجوع إلى رأي وتوافق الأطراف والقوى الليبية الأخرى، مثل اتفاق النفط بين حكومة الدبيبة مع إيطاليا مؤخرا، قد يُفاقم أوضاع البلاد ويدفعها إلى مرحلة أكثر تعقيدا وانسدادا وفوضى مما هي عليه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.