أربعمئة وخمسون مليون، هذا هو عدد المرات التي تفاعل فيها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعية في جميع أنحاء العالم مع المحتوى الرقمي باللغة الفارسية الذي أنشأته وزارة الخارجية الإسرائيلية العام الماضي، والمفاجأة أن 93 بالمئة من هؤلاء المشاهدين كانوا في إيران، الدولة الملتزمة بمحو إسرائيل عن الخريطة. 

لأكثر من عقد من الزمان، حافظ فريق الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلي على قنوات بأكثر من 50 لغة تصل إلى حوالي ملياري شخص كل عام. ولكن بطريقة ما أصبحت الفارسية اللغة الأكثر شعبية على الإطلاق، حتى أكثر من العبرية والإنجليزية مجتمعين. 

فكيف حدث هذا؛ لسبب واحد على عكس الدول الأخرى الأكثر حرص رقميا، يمكن للدبلوماسيين الإسرائيليين نشر محتوى شخصي ومهني مع قيود قليلة نسبيا. ويناسب هذا الانفتاح بلدا تكون فيه التكنولوجيا والابتكار أعظم ميزات إسرائيل التنافسية. والمجال الرقمي ليس استثناء، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع أعداء تل أبيب. 

هاتف لتشكيل الرأي العام

لدى الولايات المتحدة والغرب الكثير لتعلمه من جهود إسرائيل في اختراق الجماهير في الدول المعادية. لنتأمل إيران، في بلد تخضع فيه شبكات التواصل الاجتماعي والتقليدية للرقابة الشديدة، يستخدم الملايين شبكات “في بي إن” للوصول إلى المحتوى المحظور من قبل النظام. ولأكثر من عقد من الزمان، عملت إسرائيل ضمن هذه القيود لبناء مجتمع من الإيرانيين المهتمين بالتعرف على إسرائيل عبر الإنترنت، وهو مكان لطالما أطلق عليه القادة الإيرانيون “الشيطان الأصغر”. 

تجربة إسرائيل الرقمية في إيران تعد دليلا على أن الحكومات وشعبها لا يحتاجون إلى أكثر من هاتف ذكي لتشكيل الرأي العام في الخارج. وللقيام بذلك، يجب على الحكومات أولا وقبل كل شيء التحدث بلغات جمهورها المستهدف بالمعنى الحرفي والمجازي. فالمرأة التي تقف وراء حسابات في إسرائيل بالفارسية، على “تويتر” و”انستغرام”، هربت من إيران عندما كانت مراهقة وانتقلت إلى إسرائيل حيث تعيش اليوم. والطعام الفارسي والعطلات والفارسية ليست مجرد هوايات لها، فهي مكونات أساسية لهويتها ويمكن للإيرانيين الذين يتابعون “إسرائيل باللغة الفارسية” رؤية أنفسهم في المحتوى الذي تنتجه على “تويتر” و”انستغرام”. 

وينشئ كل من “إسرائيل باللغة العربية” و”إسرائيل باللغة الفارسية” محتوى يركز على الثقافة والموسيقى والطعام والقيم المشتركة. وبالنسبة لإيران، كان هذا يعني أن منشورات تحتفل بالأعياد الفارسية مثل نوروز جنبا إلى جنب، مؤخرا، مع محتوى يدعم علنا آلاف الإيرانيين المحتجين من أجل حرياتهم الأساسية.

يبدو أن هذا النهج يعمل، ففي تشرين الأول/أكتوبر 2022، تمكنت وزارة الخارجية الإسرائيلية من إجراء استطلاع داخل إيران أظهر أن أكثر من 70 بالمئة من الإيرانيين الذين شملهم الاستطلاع عبروا عن مشاعر إيجابية تجاه الدولة اليهودية. 

وقبل الاحتجاجات الأخيرة، غطت “إسرائيل بالفارسية” كل شيء، من التكنولوجيا الإسرائيلية إلى التاريخ اليهودي الفارسي وانتهاكات حقوق الإنسان المستمرة للنظام الإيراني. ومع ذلك، منذ بداية المظاهرات في أيلول/سبتمبر الماضي، تطور الحساب إلى صوت للشعب الإيراني الذي لم تكن خياراته الإعلامية محدودة أكثر من أي وقت مضى. والمحتوى اليوم يركز على عمليات التعذيب والإعدامات المروعة والانتهاكات التي يرتكبها النظام. 

اتفاقيات “سايروس”

يبدو أن الإيرانيين المتعطشين للمعلومات يريدون ما نقدمه. فمنذ بداية الاحتجاجات، ارتفع نشاط إسرائيل باللغة الفارسية بشكل كبير، حيث ارتفع عدد متابعي “انستغرام” من 400 ألف إلى 1.1 مليون في العام الماضي وحده، بينما ارتفعت أرقام “تويتر” تقريبا بنسبة 15 بالمئة. 

الحكومة الإسرائيلية تفرق بين مؤيدي المرشد الأعلى الإيراني المتوحشين والإيرانيين العاديين الذين يقاتلون ضد عقود من القمع والانتهاكات. وتنتقد “إسرائيل باللغة الفارسية” علنا النظام الإيراني، بينما تدعم الشعب الإيراني في كفاحه من أجل الحرية. وفي الوقت الذي لم يشعر فيه الكثير من الإيرانيين بأن صوتهم أعلى من أي وقت مضى، قد تفكر دول أخرى في إتباع قيادة تل أبيب. 

مع ظهور تقنيات جديدة للذكاء الاصطناعي مثل “تشات جي بي تي” سيستمر عالم الدبلوماسية الرقمية الناشئ في التعزيز، مع ابتكار البلدان وتكرار استراتيجياتها الرسمية لوسائل التواصل الاجتماعي. فصحيح أنه لا يوجد بديل للدبلوماسية التقليدية وجهاً لوجه، ولكن الأدوات الرقمية تسمح الآن للحكومات بتشكيل الرأي العام عبر الإنترنت للسياسات التي ترغب في الترويج لها بطرق لم يكن من الممكن تصورها حتى قبل عقد من الزمن. 

في الواقع، جهود “إسرائيل باللغة العربية” فعلت ذلك بالضبط. فقد تم إطلاق أولى القنوات على وسائل التواصل الاجتماعي باللغة العربية منذ ما يقارب من عقد من الزمان، قبل فترة طويلة من توقيع اتفاقيات “إبراهام”، والتي شهدت قيام إسرائيل ومجموعة رباعية من دول الخليج العربي بتأسيس علاقات دبلوماسية في أيلول/سبتمبر 2022. وقبل سنوات من اتفاقيات “إبراهام”، كانت اللغة العربية وفرق العمل تزرع بذور السلام الإقليمي من خلال تسليط الضوء على القواسم المشتركة التاريخية والثقافية. 

فعلى سبيل المثال، تمت مشاهدة مقطع فيديو واحد على الفيسبوك سريع الانتشار من عام 2019، والذي أظهر أوجه التشابه بين الكلمات بالعبرية والعربية، من قبل ما يقارب من 7 ملايين مرة، وشاركه مسؤول إماراتي رفيع المستوى أشاد بالروابط بين اللغتين. وسمحت وسائل التواصل الاجتماعي، بكل عيوبها وتحدياتها، لدول مثل إسرائيل بتجاوز القيود التي يفرضها الصراع والحرب والتحدث مباشرة إلى مواطني الدول التي تأمل إسرائيل في التواصل معها يوما ما. 

وبالعودة إلى إيران، فإن تغيير الحكم في طهران أمر لا مفر منه. وهذا هو السبب في أن الدبلوماسيين الرقميين الإسرائيليين يجهزون الرأي العام الإيراني لليوم الذي سيتم فيه توقيع “اتفاقيات سايروس” التي لم تتحقق بعد لإحلال السلام بين إسرائيل وإيران. ولا أحد منا يعرف متى سيحدث ذلك، لكن في غضون ذلك، سيستمر دبلوماسيو إسرائيل الرقميون في العمل كأصوات غير متوقعة للشعب الإيراني. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة