الكوارث الطبيعية عادة ما تترك آثارا كبيرة، سواء على مستوى الخسائر البشرية أو التكليفات الاقتصادية الفادحة، والتي تحتاج البلدان إلى سنوات للتعافي منها. وربما تُعتبر الزلازل من أعنف الكوارث الطبيعية فتكا، لما لها من آثار اقتصادية كبيرة وأكثر من أي جوانب أخرى.

الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا قبل يومين، ووصلت هزاته إلى لبنان والأردن ومصر، في واحد من أكبر وأخطر الزلازل في العالم منذ عقد، دمّر مدن وأحياء ومبانٍ بأكملها في جنوب تركيا وشمال وشمال غرب سوريا.

صحيح أنه من الصعب في الوقت الراهن تحديد تكلفة الخسائر المادية للزلزال الذي حدث بشكل نهائي ورسمي، على اعتبار أن عمليات إزالة أنقاض آلاف المباني المنهارة لا زالت مستمرة ونتائج وإحصاءات الكارثة لا زالت في بدايتها، ولكن التقديرات الأولية المتباينة تشير إلى أن الزلزال خلّف أضرارا جسيمة وخسائر فادحة تُقدّر قيمتها بالمليارات. خاصة مع متطلبات إعادة بناء البنية التحتية وتعويض الناجين مما يؤدي إلى أعباء كبيرة تتحملها معظم الحكومات.

الزلزال ترك وراءه حتى اللحظة ما يزيد عن أكثر من 9800 قتيل من تركيا وسوريا، والعدد مُرشّح للزيادة في كل لحظة، وعدد المتضررين بالزلزال قد يصل إلى 23 مليونا، بينهم نحو 5 ملايين في وضع ضعيف، وفقا لـ”منظمة الصحة العالمية”. كما وتدرك المنظمة الدولية قدرة تركيا القوية على الاستجابة وتعتبر أن الاحتياجات الرئيسية التي لم تُلبَّ قد تكون في سوريا على المدى القريب والمتوسط.

من هنا تبرز عدة تساؤلات تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، وهي كيف سيؤثر ذلك على اقتصاد تركيا وسوريا ككل، وانعكاسات هذا الزلزال على المتضررين، لا سيما في سوريا، حيث الفقر وسوء الأحوال المعيشية. وعلى نطاق واسع، كيف ستواجه هذه الدول تداعيات هذه الكارثة، ومدى قدرتها على تغطية تأمينات هذه الأضرار التي لحقت بمنازل السكان.

خسائر أولية فادحة

في فجر يوم الإثنين الفائت، قُتل وأصيب الآلاف في زلزال قوي ضرب جنوب شرقي تركيا قرب الحدود السورية وأجزاء واسعة من شمال وغرب سوريا، والذي اعتبرته “الصحة العالمية” الأسوأ خلال هذا القرن في تلك المنطقة.

الزلزال ضرب نحو 10 مدن تركية، وانهارت العديد من المباني، من بينها قلعة غازي عنتاب التي بُنيت خلال مرحلة الإمبراطورية الرومانية، وهي مَعلم تاريخي صمد لأكثر من ألفي عام. كما وخلّف الزلزال المدمر آثارا اقتصادية ضربت البنية التحتية بصورة كبيرة، مسبّبا بتوقف إمدادات الطاقة وسط تسرب نفطي في أحد الموانئ التركية، بجانب تعطّل حركة الطيران والشحن ضمن التداعيات المبدئية للزلزال.

وكالة “إدارة الكوارث التركية” أشارت بدورها إلى أن “لديها 11342 بلاغا عن انهيار مبان سكنية تم تأكيد 5775 منها”، فيما ذكرت وكالات تركية أن مطار أضنة جنوب تركيا أُغلق أمام الرحلات الجوية مؤقتا. بينما طالبت بورصة إسطنبول الشركات المقيدة بضرورة الإفصاح عن خسائرها نتيجة الزلزال، وأوقفت ثمان شركات عن التداول قبل بدء الجلسة.

مؤشر الأسهم التركية الرئيسي خسر 7.5 بالمئة من قيمته على مدار اليومين الفائتين. ولم تكن الليرة التركية أفضل حالا إذ وصلت إلى مستوى منخفض قياسي جديد أمام الدولار عند 18.85 ليرة للدولار خلال تعاملات يوم أمس.

من المتوقع أن تتراوح كلفة الزلزال بين 35 و50 مليار دولار، بينما يبلغ العجز التجاري المحلي والخارجي لتركيا 110 مليارات دولار”، بحسب تقديرات المتخصص الجيولوجي التركي أوفغون أحمد أركان، عبر حسابه على منصة “تويتر”، وأن كلفة وفاة شخص واحد بسبب الزلزال تصل إلى 1.2 مليون دولار”، مشيرا إلى أن ذلك سيؤدي إلى تراجع التنمية في تركيا.

قد يهمك: تتربع على 3 خطوط.. لماذا تعتبر تركيا بؤرة جاذبة للزلازل؟

“هيئة المسح الجيولوجي الأميركية” قالت إنه “من المتوقع أن يصل التأثير الاقتصادي لأكثر من مليار دولار أميركي جرّاء الزلزال”. والعديد من الخبراء الاقتصاديين يقولون إنه من الصعب تقدير الخسائر الاقتصادية للزلزال الذي حدث في المنطقة، على اعتبار أن الكارثة لا زالت حديثة وعمليات البحث جارية عن المفقودين والمتضررين. ولكن الزلزال يمثّل كارثة كاملة، وحتما هذا سيؤدي إلى تراجع التنمية في تركيا، بجانب تضرر الوضع الاقتصادي في سوريا، الذي هو في الأساس ضعيف وهشّ.

الخبير الاقتصادي، والباحث في “مركز السياسات وبحوث العمليات”، الدكتور كرم شعّار، يقول إنه من المبكّر جدا تقدير الخسائر والتكلفة الاقتصادية لهذا الزلزال، وعادة بعد حدوث كوارث طبيعية، توجد عدة أشكال للتعافي وذلك حسب طبيعة وقدرات كل دولة على حِدى.

على المديين القريب والبعيد

في بعض الدول التي تعاني من أوضاع اقتصادية سيئة، يكون رد فعل الاقتصاد أسوأ إزاء حدوث الكوارث الطبيعية، أي حدوث تراجع للأنشطة والعمليات الاقتصادية بشكل عام، وهذا الوضع متوقع حدوثه في سوريا بعد هذا الزلزال المدمر الذي حصل قبل أيام، وبالتالي هذا سيؤثر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي، وفق تقدير الشعّار.

بينما في البلدان ذات الاقتصادات القوية، يقول الشعّار بإن رد الفعل جراء الكوارث، تكون قوية من حيث الأنشطة الاقتصادية، وكذلك تسارع حركة الإنتاج الاقتصادية على المدى القريب، على اعتبار أن الشركات تسرع وتتجه نحو عملية إعادة الإعمار وإصلاح ما تم تدميره، ومن ثم يكون الاقتصاد منتعش ولكن على المدى القصير فقط.

أما على المدى الطويل فتبدأ آثار الكارثة ونتائجها بالظهور وذلك على شكل زيادة في المديونية، سواء بالنسبة للدولة أو للأشخاص المتضررين من الكارثة، وفق وجهة نظر الخبير الاقتصادي.

جراء الزلزال الذي ضرب المنطقة، قالت “هيئة الملاحة البحرية” التركية إن ميناء إسكندرون الواقع على البحر الأبيض المتوسط تضرّر جراء الزلزال القوي. وبعد عمليات التفتيش لرصد الأضرار، قالت الهيئة إن العمليات مستمرة في موانئ إلى جانب ميناء إسكندرون، وفق ما نقلته وكالة “رويترز”.

كما تعرضت بعض أجزاء شبكات الغاز المحلية لأضرار بعد الزلزال، بحسب شركة الغاز الحكومية التركية “بوتاس”. وأوضحت الشركة في بيان أن الأضرار طالت خط “كهرمان مرعش، غازي عنتاب” لنقل الغاز. وتوقفت إمدادات الغاز إلى أكثر من 10 مقاطعات تركية. كما تأثر خط “كيليس” للغاز الطبيعي فيما لا تزال الإمدادات مستمرة.

شركة “بوتاس”، قالت إن توريد الغاز للمنشآت الحيوية مثل المستشفيات والأفران في المنطقة سيتواصل من خلال شركات إمداد الغاز الطبيعي المسال. أيضا وعلى الجانب الآخر، أوقف إقليم كردستان العراق مؤقتا تدفق النفط عبر ميناء جيهان التركي بعد الزلزال، وفقا لما ذكرته “بلومبيرغ” الأميركية.

أما في سوريا، نقلت “وكالة الأنباء السورية” (سانا) عن وزارة النفط قولها، إن السلطات أوقفت العمل في مصفاة بانياس النفطية لمدة 48 ساعة لمعالجة أضرار لحقت بها جراء الزلزال الذي ضرب البلاد.

كذلك، قطاع السياحة لم يسلم من هذا الزلزال، فقد انهارت أجزاء من قلعة غازي عنتاب التاريخية في جنوب تركيا، فيما كشف الجانب السوري عن تضرر بقلعة حلب، وقلعة المرقب، وقلعة قدموس في محافظة طرطوس.

تغطية التأمينات

 بعد أن هبطت الليرة التركية مباشرة بعد وقوع الزلزال إلى مستوى قياسي جديد، تهاوى مستوى البنوك بأكثر من 5 بالمئة، قبل تقليص بعض الخسائر. وبحسب تقرير للموقع البريطاني المتخصص في الأسواق “آرتمايز” فإن غالبية الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذا الزلزال الكبير من المرجح أن تكون غير مؤمنة، مما يؤدي إلى خسارة على الأرجح ستكون قليلة لقطاع التأمين وربما صناعة إعادة التأمين.

قد يهمك: خروج الجيش التركي من سوريا وتنفيذ اتفاق الانسحاب.. تمهيد لإعلان تشكيل العلاقات؟

ستيف بوين، كبير المسؤولين في شركة استشارات التأمين العالمية “غالاغر ري”، قال إن زلزالا مشابها بقوة 6.7 درجة أدى إلى خسائر بلغت حوالي 600 مليون دولار عندما وقع في نفس المنطقة خلال كانون الثاني/يناير 2020. لكن يُعتقد بأن أيّة خسائر في صناعة إعادة التأمين ستكون أقل بكثير، مشددا على أن “مجموعة التأمين ضد الكوارث” (تي سي آي بيي) في تركيا تبلغ قدرتها على سداد المطالبات ما يقرب من 2.5 مليار دولار، بناءً على تجديد إعادة التأمين للعام 2021.

ففي تركيا يتم تقديم التأمين الإجباري ضد الزلازل للأتراك من خلال “مجموعة التأمين ضد الكوارث”، وهذه المجموعة أُقرّت من قبل حكومة إسطنبول تأمينا إجباريا بعد زلزال إزمير عام 1999، ويعود لـ”مؤسسة التأمين ضد الكوارث الطبيعية”، إذ يغطي التأمين الأضرار التي تصيب الأبنية بعد الزلازل، وتشمل الأضرار المادية والحرائق والانفجارات والانهيارات الأرضية.

تقارير تركية، كشفت عن معدل التأمين الإلزامي على المنازل في المدن العشرة التي تعرضت للزلزال، طبقا لبيانات “مجموعة التأمين ضد الكوارث”. والبيانات التي نشرتها صحيفة “دنيا” الاقتصادية المتخصصة في تركيا، تشير إلى أن نسبة تقدر بحوالي 54.7 بالمئة من إجمالي المساكن في عموم البلاد تحت مظلة التغطية التأمينية. وتُقدّر البيانات ذاتها أن هناك 20 مليون و32 ألف مسكن في عموم تركيا، يصل عدد المنازل المغطاة بتأمين الزلازل الإجباري إلى 10 ملايين و949 ألف تقريبا.

بالنسبة للمدن العشرة التي تعرضت للزلزال الأخير جنوبي شرق تركيا، فتصل متوسطات المنازل المؤمن عليها فيها إلى حوالي 49 بالمئة. والنسبة الأكبر منها في غازي عنتاب بحوالي 64.5 بالمئة. ويوفر مجمع التأمين الحد الأقصى من التغطية التي تحددها الزيادة في تكاليف البناء كل عام. وكان قد تم تحديد الحد الأقصى لمبلغ الضمان المُقدّم بـ 640 ألف ليرة أي نحو 34 ألف دولار، لجميع أنواع المباني اعتبارا من 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

أما عن سوريا يعلق الخبير الاقتصادي كرم شعّار بالقول “لا يوجد تأمين على الأغلبية الكاسحة من المنازل في سوريا، وصحيح من الممكن أن تكون هناك بعض المباني التي يوجد لها تأمين في مناطق سيطرة الحكومة السورية، لكن من المؤكد أن المباني التي دُمرّت في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، ليست مؤمنة بالتأكيد، حيث لا يوجد فيها شركات تأمين أصلا”.

حجم الخسائر في سوريا كبير، على الرغم من أنه لم يتضح بعد، لكن التقديرات الأولية تشير إلى أنه لن يتخطى حجم الأضرار الناتجة عن الحرب السورية منذ 2011، فقد تحدثت تقارير محلية عن تصدّع في سد “ميدانكي” في منطقة عفرين جراء الزلزال وتضرر مستشفى “الدانا” بأضرار جسيمة وإخلائه بالكامل، كما انهار 150 مبنى بشكل كامل و330 بشكل جزئي وتصدع آلاف المباني في شمال غربي سوريا، وفق ما أعلنته منظمة “الدفاع المدني” أو ما تسمى بـ”الخوذ البيضاء” في شمال غربي سوريا.

انعكاسات سلبية

مدير مرصد “قنديللي” للزلازل في جامعة “البوسفور” التركية ومدير “معهد البحوث الزلزالية التركي”، مصطفى إرديك، ذكر لموقع “سكاي نيوز عربية” أن “موقع الزلزال كان معروفا؛ لكن لم يكن بإمكان أحد توقع الوقت، إذ راكم هذا الزلزال في هذا الجزء من الصدع في عام 1114 وعلى مدار 900 عام ضغطا كافيا لإحداث زلزال كبير بهذا الحجم، والزلزال كان متوقعا منذ قرون في سلسلة تلال هاتاي وعثمانية وكهرمان مرعش وغازي عنتاب بقوة 130 قنبلة ذرية، فالكارثة ضخمة في يوم شتاء بارد”.

قد يهمك: جولة بلينكن إلى الشرق الأوسط.. تحالف جديد ضد إيران؟

هذا الزلزال يُعتبر أكبر من زلزال 1999، حيث أطلق ما يقرب من 4-5 أضعاف الطاقة التي أطلقها زلزال “إزميد”، وتركيا تحتاج إلى تقوية المباني الحالية لمواجهة الزلازل، والخسائر في المباني التي تعرضت لأضرار لا يمكن إصلاحها بنحو أكثر من 10 آلاف مبنى.

اليوم، تركيا، أحد أكبر 20 اقتصادا عالميا، تواجه كارثة طبيعية، تكررت للمرة الثانية في غضون 24 عاما، ومركز الزلزال اقترب هذه المرة، من إحدى عواصم الإنتاج والصناعة الرئيسية في البلاد، وهي مدينة غازي عنتاب، التي أوشكت على أن تصبح العاصمة الصناعية لتركيا، بسبب آلاف المصانع المقامة هناك، وبالتالي سيكون لهذا الزلزال آثار اقتصادية سلبية جمة، حتى لو لم تظهر على المدى القصير، وفق مراقبين.

سوريا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة على خلفية الحرب الدامية منذ 11 عاما، فهي تواجه الآن مصيرا مجهولا ومعقّدا بعد هذا الزلزال الكارثي

نظرا لضعف الأبنية في المناطق المتضررة من الزلزال، وقلة الدعم وضعف قدرات الحكومة السورية إلى جانب قلة دعم المنظمات المدنية العاملة في هذه المناطق، فضلا عن الغياب الكبير للدعم الدولي، خاصة في شمال غرب سوريا، فإن هذا الزلزال سيترك أخطر آثاره على سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة