في منتصف شهر كانون الثاني/يناير الفائت، أعلنت الحكومة السورية على لسان وزير خارجيتها فيصل المقداد، أن على تركيا أن تتجه إلى إنهاء وجودها العسكري في سوري للاستمرار في تطبيع العلاقات بين الجانبين، هذا التصريح الذي أدخل تطبيع العلاقات في مرحلة جديدة.

بالنظر إلى الأطراف المشاركة في عملية عودة العلاقات مع دمشق، يبدو أن أنقرة تحولت إلى الحلقة الأضعف، فهي تتجه حاليا لتقديم التنازلات من أجل المضي قُدما في عملية التطبيع مع دمشق قبل موعد الانتخابات الرئاسية لديها، فهل تبدأ عمليات الانسحاب من سوريا كنتيجة أولية للمحادثات مع دمشق.

تحركات على طريق “إم فور” الاستراتيجي

في خطوة تبدو حتى الآن استجابة رمزية لشروط دمشق، سحبت القوات التركية إحدى نقاطها العسكرية من شمال غربي سوريا على الطريق الدولي حلب – اللاذقية، والذي تسعى روسيا للتوسط من أجل استكمال العمل على فتحه بالتنسيق مع أنقرة ودمشق.

النقطة التي سحبتها القوات التركية وفق ما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط”، تقع على بُعد بضعة كيلو مترات من تمركز القوات السورية، جنوبي الطريق الدولي حلب – اللاذقية، كما أن النقطة تفصل بين تمركز قوات دمشق ومدينة جسر الشغور بريف إدلب الواقعة تحت سيطرة “الفصائل المعارضة”، ما يطرح التساؤلات حول سبب هذا الانسحاب في المرحلة الراهنة.

كنتيجة للشراكة الروسية التركية التي بدأت مؤخرا لتسهيل عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق، بدأت القوات التركية بإجراءات من شأنها فتح الطريق المذكور، تنفيذا لاتفاقيات ثنائية كان قد وقّعها الجانبان في موسكو آذار/مارس 2020.

الباحث السياسي والصحفي فراس علاوي، رأى أن أي تحرك تركي في المرحلة الراهنة، يخدم عملية التطبيع مع دمشق، معتبرا أن شرط دمشق الخاص بانسحاب تركي كامل من سوريا مستبعد التنفيذ، لكن ربما يتم التوصل لنقطة التقاء بوساطة الجانب الروسي الذي دخل بقوة على خط عودة العلاقات.

علاوي قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “الانسحاب الذي جرى مؤخرا، كان حسب طلب الأهالي وهو من نقطة كانت في مدرسة، وهذا هو التبرير المحلي أو حتى تبرير الأتراك، لكن بالنهاية أي تحرك تركي هو يخدم عملية أو مسار التقارب التركي مع النظام السوري بوساطة من الروس ومؤخرا الإيرانيين”.

برأي علاوي فإن النقاط العسكرية التابعة للقوات التركية، ترسم خارطة النفوذ التركي في المنطقة خلال الفترة القادمة، مع ارتفاع أهمية الدور الروسي للتوصل إلى نقطة التقاء بين أنقرة ودمشق، حول مستقبل تمركز القوات العسكرية التركية في سوريا.

حول ذلك أضاف، “بالنسبة لشرط النظام، أعتقد أن الوساطة الروسية ستسعى للتوصل لنقطة معينة ترضي الطرفين، لأن الاستراتيجية التركية بالتدخل في سوريا معتمدة فقط على الدخول لعمق معين، وأعتقد أن النقاط التي وضعتها تركيا حاليا ستكون متمركزة لفترة معينة إذا حصل اتفاق بين دمشق وأنقرة، ويمكن أن يقتصر الوجود التركي على هذا النقاط، وإذا لاحظنا على الخريطة، نجد هذه النقاط على شكل قوس على عمق معين، وهذا يخدم الاستراتيجية التركية القائمة على تطوير اتفاقية أضنة لعمق يتراوح ما بين 12 إلى 30 كم”.

الطريق الدولي حلب – اللاذقية والمعروف بـ”إم فور”، يبدو أنه سيكون نقطة محورية لتنفيذ التفاهمات بين أطراف “أستانا” وهو الذي كان محوريا بالاتفاقيات السابقة وتثبيت نقاط المراقبة التركية على امتداده والمناطق المحيطة به.

قد يهمك: استراتيجية مصر تجاه شرق آسيا.. دوائر حركة جديدة؟

التركيز على هذا الطريق جاء برغبة روسية، إذ تسعى موسكو لإعادة وصل المدن الرئيسية الواقعة تحت سيطرة دمشق، إذ أن الطريق يرسم بأهميته الاستراتيجية، خريطة السيطرة لعدة قوات محلية وإقليمية، ويُعتبر بمثابة الشريان الرئيسي الذي يربط بين العديد من المناطق الهامة في سوريا.

مسار التطبيع أمام عقبات

يبدو أن مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، لن يكون بالسهولة التي تخيلتها تركيا عندما بادرت لعودة علاقاتها مع حكومة دمشق، لتضطر لطلب مساعدة موسكو وتقديم التنازلات في هذا الإطار، ومؤخرا اضطرت أنقرة لإشراك إيران في هذه العمليات، بعدما عبّرت إيران عن رفضها لأية مسارات سياسية في سوريا لا تكون جزء أساسي فيه.

كذلك فإن إقحام وضع القوات العسكرية التركية في ملف المفاوضات، سيكون عثرة جديدة في طريق نجاح هذه المحادثات، هذا كله فضلا عن الرفض الأميركي المتواصل لأية عمليات تطبيع مع الحكومة السورية.

بالعودة إلى التحركات العسكرية وعلاقتها بمسار التطبيع، فإن الانسحاب الكامل أمر لا يمكن أن تقره أنقرة بهذه السهولة، خاصة وأن دخول القوات التركية كان سببه حماية الأمن القومي التركي من المخاطر المزعومة، والتي لا تزال قائمة حتى الآن، كما أن الوجود التركي مرتبط بشكل كبير بالسياسة الخارجية للحكومة التركية.

تقرير لموقع “سينديك” التركي، أشار إلى أن “دعم أنقرة السابق لفصائل المعارضة في إدلب، قد يعقد مسألة الانسحاب من الشمال السوري، حيث أن الانسحاب التركي قد يؤدي بهذه الفصائل إلى معاداة أنقرة، وكحلفاء سابقين سيصبحون أعداء جدد لاسيما وأنهم متواجدون على الأراضي التركية والسورية”.

تعقيدات كثيرة تلك التي تقف أمام الانسحاب التركي، خاصة وإن كان هذا الانسحاب لصالح قوات الحكومة السورية، فالانسحاب التركي وتقدم قوات دمشق، يعني تدفق المزيد من اللاجئين السوريين نحو الأراضي التركية، وهو أمر لا ترغب به أنقرة ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن أوروبا ستسعى كذلك لعدم السماح لتركيا بالانسحاب بهذا الشكل.

يمكن أن نشهد خلال الفترة القادمة، عمليات إعادة تموضع لبعض القوات التركية، وذلك ليبدو تنفيذا لشرط دمشق، لكن بالتأكيد فإن عملية الانسحاب التركي الكامل من الأراضي السورية كما اشترط المسؤولون في دمشق، هو أمر غير ممكن بالنظر إلى ظروف المنطقة ووضع الملف السوري ككل.

تركيا الآن أمام العديد من التحديات لإنجاح عملية التطبيع مع دمشق، خاصة بعد اضطرارها لإشراك إيران في المحادثات، ما قد يشكل خطرا على المسارات السياسية التي تسعى أنقرة إلى خلقها بالتعاون مع روسيا، خاصة إذا كانت هذه الآليات تضر بمصالح النفوذ الإيراني.

إذ إن إيران لن تسمح بالتأكيد لأي مسار أن يؤثر سلبا على نفوذها في سوريا تزامنا مع تزايد التصعيد ضد الخصوم الإقليميين، فأصبح الجميع ينظر لإيران كعنصر معطّل في الجهود والمسارات السياسية، في سوريا.

إيران هددت بشكل غير مباشر بتعطيل أي اتفاق روسي تركي في الملف السوري باستخدام قدراتها العسكرية في البلاد إذا تم تهميشها، مشيرا إلى أن جميع الأطراف تنظر إلى إيران كونها عنصرا معّطلا لأي اتفاق أو حل سياسي مستقبلي في سوريا.

إيران واحتمالية العرقلة

خلافات عديدة قد تظهر خلال الفترة القادمة بين إيران وتركيا في المسارات السياسية في سوريا بعد مشاركة طهران، خاصة وأن أنقرة تريد الوصول إلى تعديل على اتفاقية “أضنة” بما يخص قدرتها على التوغل إلى داخل الأراضي السورية لمتابعة من تصفهم بـ “الإرهابيين” إلى عمق 30 كم، هذا ما قد يهدد مناطق تموضع الميليشيات الإيرانية في الشمال السوري.

في مؤشر على الإصرار التركي في المضي قدما بعمليات التطبيع مع دمشق، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إن الاجتماعات الثلاثية بين تركيا وروسيا وسوريا ستستمر خلال الأيام المقبلة على مستوى الوفود الفنية، وذلك في تصريحات نقلتها وكالة “الأناضول” التركي.

بالتأكيد لا يبدو أن التحركات التركية الأخيرة، ناجمة عن رغبة تركية بتنفيذ شروط دمشق، لكن ربما تسعى أنقرة إلى مزيد من تحفيز حكومة دمشق، للإسراع باللقاءات الثنائية، وإيصال رسائل أن أنقرة لا تزال لديها الرغبة بالتطبيع ومنفتحة على مناقشة جميع القضايا، وذلك على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه عودة العلاقات بين الجانبين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.