الزراعة تعرف على أنها أحد المرتكزات التي يعتمد عليها الاقتصاد بشكل عام لما لها من أهمية في تأمين المستويات الأساسية للأمن الغذائي لأي بلد، فالقطاع الزراعي يتطلب رأس مال إنمائي أقل بكثير من الذي تحتاجه القطاعات الاقتصادية الأخرى على أهميتها.

إذا ما سلطنا الضوء على الزراعة في سوريا بشكل عام فسنلاحظ مساهمتها الكبيرة في الدخل القومي حيث كانت سوريا قبل عام 2011م تحتل المرتبة السادسة عالميا من حيث الإنتاج وخاصة المناطق الساحلية ومحافظتي حلب وإدلب؛ وذلك بحسب بيانات منظمة الأغذية العالمية “فاو”، فسوريا كانت تعتبر السلسلة الغذائية التي لا يمكن الاستغناء عنها في المنطقة العربية.

زراعة الزيتون والفستق الحلبي

سوريا اشتهرت بالزراعة منذ أقدم العصور إلى أن أصبحت جزء لا يتجزأ من الاقتصاد السوري، حيث تمثل الزراعة ما نسبته 22.9 بالمئة من الناتج المحلي عام 2009، وفقا لبعض الدراسات.

خلال فترة ما قبل الحرب التي اندلعت في سوريا عام 2011، كانت الأراضي القابلة للزراعة تبلغ 6 مليون هكتار، مستثمر منها 5.7 مليون هكتار، وتبلغ الأراضي المروية 1.4 مليون هكتار والبعلية 3.3 مليون هكتار ومساحة الحراج 576 ألف هكتار، وقد كان القطاع الزراعي يوفر فرص عمل لما يقارب 1 مليون نسمة أي ما نسبته 19.4 بالمئة من قوة العمالة في سوريا، بحسب “الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية”.

من المزروعات الأساسية والتاريخية والتي لعبت دورا هاما في القطاع الزراعي في سوريا الزيتون والفستق الحلبي، حيث تعتبر سوريا ومدينة إدلب بالتحديد من أقدم المدن التي استثمرت بشكل كبير في هاتين الشجرتين، لتحتل سوريا المرتبة السادسة عالميا والثالثة عربيا في إنتاج الزيتون، أما عن الفستق الحلبي فتعتبر حلب وإدلب وحماة من المدن التي عرفت زراعة شجرة الفستق الحلبي منذ مئات السنين لتأتي سوريا في المرتبة الثالثة عالميا في إنتاج الفستق الحلبي بعد إيران والولايات المتحدة الأميركية.

وقد قسمت “الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية” مناطق الزراعة في سوريا إلى خمس مناطق استنادا إلى منسوب معدل الأمطار وكانت منطقة الاستقرار الثانية والتي معدل أمطارها بين 250 – 350مم/سنة تشمل المحاصيل الرئيسية كالحبوب والبقوليات والأشجار المثمرة وأهمها الزيتون واللوز.

حسب مجموعة الإحصاء الزراعية السورية لعام 2013، فإن المساحة المزروعة من الفستق الحلبي كانت 59903 هكتار وبلغ الإنتاج 54516 طن، أما عن الزيتون فقد كانت المساحة المزروعة منه 697442 هكتار وبلغ الإنتاج 842098 طن.

التحديات التي تواجه الزراعة والإنتاج 

القطاع الزراعي عانى خلال السنوات العشر الأخيرة العديد من العوامل التي أثرت بشكل سلبي على الزراعة في سوريا بشكل عام، والزيتون والفستق الحلبي بشكل خاص؛ لينخفض إنتاج الزيتون والفستق الحلبي إلى نحو النصف، فقد انخفض إنتاج مدينة حلب من الزيتون من 322 ألف طن إلى 171 ألف طن، وفي إدلب انخفض الإنتاج من 140 ألف طن إلى 75 ألف طن، وفي حماة انخفض الإنتاج من 57 ألف طن إلى 46 ألف طن، وذلك بين عامي 2011 و2018، بحسب المجموعة الإحصائية في وزارة الزراعة التابعة لحكومة دمشق.

المستويات المنخفضة من الإنتاج جاءت نتيجة للعملية العسكرية الأخيرة التي شنتها قوات حكومة دمشق باتجاه الشمال السوري والتي خلفت أضرارا بإحراق وقطع قسم من الأشجار المثمرة ونهب معدات الآبار الارتوازية.

شجرتي الزيتون والفستق الحلبي تحتاج إلى عناية دائمة متمثلة بالقطاف والري اللذان يحتاجان إلى المحروقات الذي ارتفعت أسعارها مع غياب التيار الكهربائي، كما تحتاج الشجرتان إلى السماد الذي تضاعفت أسعاره في الآونة الأخيرة، وإلى بخ المبيدات الحشرية والتقليم الدائم للحشائش اليابسة وأفرع الأغصان، وهذه العناية تحتاج إلى تمويل لا يمكن للمزارع بمفرده تحمل تكاليفها.

المزارع يعاني للعناية بهاتين الشجرتين من صعوبة تكيفه مع الوضع الاقتصادي الراهن المتمثل في تضخم العملة واضطراب الأسواق وصعوبة النقل الآمن، كل ذلك انعكس سلبا على تراجع المهارات الزراعية التي تعزز الإنتاجية وعودة بعض المزارعين إلى الأساليب البدائية في الزراعة.

من ناحية أخرى فإن انخفاض الدعم من قبل المنظمات والمؤسسات بشكل متواتر خلال السنوات الأخيرة والذي من شأنه تخفيف تكاليف الصيانة المتعلقة بمخلفات الحرب الناتجة عن الدمار الهائل الحاصل في سوريا، أجبر المزارعين إلى الاتجاه نحو البحث عن سبل عيش أخرى بعيدة عن الزراعة، حيث بلغت خسائر مجمل القطاع الزراعي في سوريا حتى عام 2018 بحسب منظمة “الفاو” 16 مليار دولار.

أما عن الكوارث الطبيعية البعيدة عن الحروب التي يشنها الإنسان كارثة التغير المناخي الذي يعاني منه كوكب الأرض بمستوى أكبر خلال السنوات الأخيرة، فالتغير المناخي يعتبر اللاعب المحوري في خروج مساحات من الأراضي الزراعية من الاستخدام الزراعي، والذي يتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وتغير معدلات وأوقات موجات الحر ونقص المياه الجوفية، لتدخل سوريا في موجة جفاف هي الأسوأ منذ سبعين عاما، فالتغير المناخي سيزيد عبئ تكاليف استخدام الأراضي للإنتاج الزراعي، بحسب ما أوردت وزارة البيئة والإدارة المحلية لحكومة دمشق في تقريرها.

تعافي الزيتون والفستق الحلبي

إذا ما تكلمنا عن حل سياسي في سوريا وتنشيط عملية إعادة الإعمار فلا بد من التركيز على إعادة تأهيل القطاع الزراعي بشكل عام، ووضع خطط التنمية على مستوى الدولة وتكون هي الداعم الرئيس للقطاع الزراعي وخاصة للمزروعات التي تساهم بشكل لا بأس به في القطاع الزراعي كأشجار الزيتون والفستق الحلبي، فمن الممكن أن تكون تكاليف تطوير وتلافي الضرر في مثل هذه المزروعات أقل من غيرها.

عند حديث “الحل نت” مع المزارع أيمن الذي يملك أرضا من الزيتون في مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري، قال إن كل هكتار من شجر الزيتون يحتاج في السنة الواحدة إلى فلاحة وسماد وبخ مبيدات حشرية وتنظيف العشب من تحت الأشجار وسقي بحوالي 300 صهريج من المياه، وقص وتقليم الأشجار كل سنتين مرة، كل ذلك يكلف ما يقارب 3100 دولار أميركي.

المزارع أيمن قدّر حمل كل هكتار من شجر الزيتون الفتي بـ 10 طن، إذا ما تمت العناية به بشكل جيد، وقال إن شجر الزيتون عادة يحمل في السنة مرة حمل كامل وفي السنة التي تليها يحمل ثلث حمل بتكلفة تصل إلى النصف. أما عن تكلفة زراعة الفستق الحلبي، أجاب أيمن بأن تكلفة زراعته قريبة من الزيتون، إلا أن كمية الري ستكون أقل لأن شجر الفستق الحلبي يتحمل حرارة أكبر.

أمام هذه التكلفة الكبيرة التي لا يمكن للمزارع في الشمال السوري أن يتحملها بمفرده، يجب توفير الدعم اللازم له من خلال تفعيل دور الحكومة المؤقتة في إعداد الخطط وتنفيذ المشاريع المتعلقة بالقطاع الزراعي والاهتمام بتطبيق معايير الجودة العالمية على المنتجات الزراعية لتسهل عملية تصديرها للخارج، وخاصة زيت الزيتون والفستق الحلبي عن طريق مؤسساتها غير الفعالة بشكل حقيقي في مناطق الشمال السوري. وبما أن مزارعي مناطق الشمال السوري كانوا يستثمرون بشكل كبير في زراعة الزيتون والفستق الحلبي فمن الجيد بمكان تأمين دعم من قبل المنظمات الدولية المهتمة بمشاريع التعافي البيئي بعد الأزمات وإزالة مخلفات الحرب ومشاريع كسب العيش المستدام المتعلقة بالزراعة، على أن يتم تأمين مناطق الشمال السوري من خلال ضمانات دولية لتقف في وجه أي تحرك للآلة العسكرية التابعة لحكومة دمشق والدول الحليفة لها تجاه تلك المناطق.

من المهم دعم عملية إكثار بذور شجرتي الزيتون والفستق الحلبي وتحسين سلالاتها لتعويض الأشجار التي تم إحراقها أو اقتلاعها، وذلك عن طريق انشاء مختبرات خاصة باختبار المحتوى الجيني للبذور وإنشاء أماكن خاصة للحفاظ على حيوية البذور وسهولة حصول المزارعين عليها.

لا يمكن التغافل عن معالجة آفة التصحر والتغير المناخي وإدخال تقنيات ري ذات فعالية أكبر والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، لندخل في مضمار البنية التحتية وإعادة تأهيلها للنهوض بالقطاع الزراعي وتطويره ككل من خلال إعادة تأهيل المزارعين لاستخدام تلك التقنيات الحديثة في استصلاح أراضيهم واستثمار الأراضي الغير مزروعة.

الخبير الاقتصادي سمير الطويل أرجع خلال حديثه لـ”الحل نت” تراجع إنتاج الفستق الحلبي والزيتون في الشمال السوري إلى غياب المنظومة الزراعية المتكاملة بشكل عام، وإلى التهجير الذي مازال يعاني منه المزارعين، كما أن قطع الأشجار للتدفئة بشكل عشوائي لعب دورا في تراجع الإنتاج.

بحسب الطويل فإنه لا يمكن الحديث عن إقامة مشاريع زراعية متكاملة أو العمل بشكل منظم عبر وحدات إرشاد زراعي في ظل الظروف الراهنة، بسبب انعدام دور الوزارات وغياب التمويل اللازم لهم في مناطق الشمال السوري. وختم قوله: “في ظل غياب الإمكانيات المادية لدى المزارعين وهشاشة الوضع الأمني واقتصار المبادرات الزراعية على الأفراد، وضعت زراعة الزيتون والفستق الحلبي في حالة معقدة”.

الأثر المنتظر من التنمية الزراعية 

استهلت منظمة الأغذية العالمية تقريرها الأخير الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 الخاص بسوريا، أن دخول النزاع في سوريا عامه الثاني عشر، يجعل الأسر السورية في جميع أنحاء البلاد تواجه مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائي.

المزيد من السوريين اليوم يكافحون أكثر من أي وقت مضى لوضع الطعام على موائدهم، وأن 12 مليون إنسان في سوريا يعانون انعدام الأمن الغذائي، و2.5 مليون إنسان يعانون انعدام الأمن الغذائي الشديد، مما يضعنا أمام الحاجة الملحة لتعويض النقص الحاصل في الغذاء من خلال بذل كل الجهود للنهوض بالقطاع الزراعي والعودة الآمنة للمزارعين إلى حقولهم وأراضيهم.

وعليه فإن تركيز الاهتمام على القطاع الزراعي في سوريا يجب أن يكون في أولويات المسؤولين، فالتنمية الزراعية هي حجر الأساس للخروج من انعدام الأمن الغذائي لدى السوريين والذي سينعكس على تعزيز القطاعات الاقتصادية الأخرى، فتنمية القطاع الزراعي سيوفر سوق كبير للسلع الصناعية المتعلقة به ويزيد من حجم الصناعات الغذائية والتي بدورها ستساهم في خفض أسعار المواد الغذائية الناتجة عن نقص المنتجات الزراعية.

لا ننسى أيضا عمليات التصدير للمنتجات الزراعية وتزيد من كتلة القطع الأجنبي الواردة إلى الداخل السوري، فالقطاع الزراعي له القدرة على رفع معدلات النمو وخفض معدلات البطالة والفقر بشكل كبير من خلال توفير فرص العمل في مختلف القطاعات، ليخفف كل ما سبق من وطأة التضخم الحاصل في أسعار الغذاء العالمية وينعكس إيجابا على المواطن السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.