في خطوة غير مسبوقة منذ 40 عاما، وقّع العراق والسعودية مذكرة تفاهم أمني، شملت كل أشكال التعاون الأمني وتبادل الرؤى، وتفعيل العمل الأمني المشترك، ليفتح ذلك باباً على جملة من التساؤلات، خصوصا مع النظر إلى الحساسية التي رافقت علاقة البلدين لسنوات، تحديدا ما بعد العام 2003. 

فمنذ عام 1991، حين قرر رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، والذي أطاحت بحكمه الولايات المتحدة الأميركية عام 2003، أن يغزو الكويت، انقلبت العلاقة بين بغداد والرياض من الصداقة إلى الخصومة، ففي ذلك الوقت قادت المملكة العربية السعودية حملة تحشيد دولية وعربية ضد العراق، أسفرت عن تدخل أممي قادته أميركا، دمرت على إثره بحملة عسكرية قطاعات الجيش العراقي وأجبرته على الانسحاب من الكويت.

العراق ظل بعد ذلك قابعا تحت الحصار الاقتصادي الدولي حتى لحظة الإطاحة بنظام حزب “البعث” الحاكم آنذاك، حيث عانى خلال تلك الفترة ظروف معيشية وإنسانية صعبة للغاية، وظلت بغداد تحمّل الرياض وحلفائها مسؤولية ذلك.

السعودية والعراق من الاتهامات إلى التفاهمات 

بعد عام 2003 وما لحقه من انفلات أمني أفرز عن ولادة وتنامي الجماعات الإسلامية الجهادية، بما فيها تنظيم القاعدة، بقي المسؤولون الأمنيون العراقيون والأحزاب المهيمنة على السلطة المقربة من إيران، يتهمون دول وجهات بعينها وعلى رأسها السعودية، بتقديم الدعم لتلك الحركات، وتسهل نشاطاتها. 

سيناريو تسبب بشحن العلاقات بشكل كبير، لتطغى حالة التوتر بين تعاملات الجانبين، وبقيت العلاقات شبه معدومة، ومقتصرة على البروتوكولات النادرة والشكلية في بعض المناسبات، حتى بات العراق أقرب إلى إيران عن كل شيء آخر، ومع ما شهدته المنطقة من تحولات إقليمية ودولية، وفي الوقت الذي بات نفوذ طهران يهدد مصالح الخليج العربي، يبدو أن هناك شبه قناعة بضرورة إعادة العراق إلى الحضن العربي ومحيطه الطبيعي، وفق مراقبين.

اقرأ/ي أيضا: باكستان واتساع الهوة مع العالم.. ماذا يعني مغادرة الشركات الكورية لإسلام آباد؟

بناء على ذلك، تطلّب الأمر إبعاد العراق عن تأثير إيران، خصوصا مع ما يمثله من عمق جيوسياسي وجيوبولوتيكي بالنسبة للمنطقة العربية، ناهيك عمّا يمتلكه من حدود طويلة مع إيران، ومفتاحا إلى قلب المنطقة العربية. تجلت تلك المحاولات منذ العام 2020، وعاد الانفتاح الخليجي على بغداد، الأمر الذي ساهم بدعم العراق ليأخذ دوره المحوري في المنطقة، حتى باتت بغداد تقود مفاوضات استراتيجية بين الرياض وطهران لإعادة العلاقات.

عقب ذلك، وصل الأمر إلى توقيع مذكّرة للتفاهم الأمني، الأحد الماضي، وهي الأولى من نوعها منذ العام 1983، لتعزيز التعاون الأمني بين البلدين، وبحسب بيان رسمي عن وزارة الداخلية العراقية، فإن المذكّرة تتضمن، جميع أشكال التعاون الأمني وتبادل الرؤى وتفعيل العمل الأمني المشترك لما يضمن المزيد من الأمن للبلدين، وجاء ذلك خلال زيارة أجراها وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري، على رأس وفد أمني إلى الرياض، لبحث عدد من الملفات الأمنية المشتركة، دون أي تفاصيل أخرى. 

غير أن المغزى من هذه المذكّرة بقي غامضا، خصوصا وأنها جاءت في ظل حكومة تُتّهم بقربها إلى إيران، إذ تم تشكيلها توافقيا بين القوى السياسية، لكنها تحمل رغبة الأحزاب الشيعية المقرّبة من طهران، والتي يمتلك بعضا منها ميليشيات مسلحة، والتي تنضوي جميعها تحت تحالف “الإطار التنسيقي”، باستثناء “التيار الصدري” الذي يتزعمه مقتدى الصدر، المنسحب من العملية السياسية إثر خلافه مع “الإطار”.

الأمر الذي أثار السؤال حول دلالة هذه التعاون غير المسبوق، وإذا ما كان يمثل بادرة أخرى لاحتضان العراق، أو يمكن اعتبارها مؤشر على أن بغداد باتت شريكا موثوقا على مستوى التعامل الأمني خصوصا مع الحديث عن قربها من طهران غريم الرياض التقليدي، وهذا الخيار على ما يبدو بحسب خبراء مستبعد إلى الآن، بخاصة وأن بغداد لا تزال مستبعدة عن القمم الأمنية الخليجية الرفيعة، مع غياب تعامل أمني ضمن خطة معلنة.

اتفاقية عدم ثقة؟

لذلك، فإن توقيع الاتفاقية الأمنية إن صح وصفها، لا تعكس مدى الثقة بين الطرفين، خصوصا في إطار مفهوم العلاقات الدولية، كما يرى الخبير السياسي العراقي هيثم الهيتي، بل على العكس من ذلك أحيانا؛ فإن هذه الاتفاقيات ربما تكون بسبب وجود اختلال في الثقة بين الأطراف، ما يدفع الطرفين إلى اللجوء لتوقيع مثل هذه الاتفاقيات بوجود طرف ثالث.

عادة توقّع هذه الاتفاقات لمنع أي اعتداءات محتملة بين الطرفين، بالتالي فإنه لا يجب ربط هذا التوقيع بمدى الثقة بين العراق والسعودية، خصوصا في ظل عدم وجود أي تغييرات في السياسة، بحسب حديث الهيتي لموقع “الحل نت”. ووفقا لذلك فإن الثقة ما بين الرياض وبغداد لا تزال بعيدة وذلك لسبب بسيط من وجهة نظر الهيتي، وهو أن العراق لا يزال يشهد تدخلات أمنية من جهات متعددة، ما يدفع بجميع الأطراف المحيطة به التعامل بحذر معه. بالتالي فإن تعامل الدول مع العراق بثقة تامة ودن الحاجة إلى توقيع اتفاقيات أمنية ثنائية سيبقى مقرون بتحول العراق إلى دولة قوية ومتمكنة.

في مقابل ذلك، تحدث مسؤول عراقي عن إن المذكرة تهدف إلى ضبط الحدود والتعاون المعلوماتي، إذ ركزت على تأمين الحدود المشتركة بين البلدين، كما أن المسؤولين السعوديين ركزوا على أهمية تولّي القوات النظامية ملف تأمين الحدود من الجانب العراقي مع السعودية، فضلا عن التعاون الاستخباري وتبادل المعلومات بشأن عمليات التسلل ومنعها.

طبقا للتفاهمات بين الجانبين التي أفضت إلى توقيع هذه الاتفاقية بحسب ما نقلته صحيفة “العربي الجديد”، المملكة اتفقت على تعزيز تواجدها الأمني على الشريط الحدودي؛ لمنع عمليات التسلل بين الجانبين، حيث إن الاتفاقات شملت تشكيل لجنة أمنية مشتركة لإدامة التواصل والتنسيق حول القضايا الأمنية المشتركة، لاسيما الحرب على الإرهاب.

العراق والسعودية ومشكلة الحدود

ملف الحدود وانتشار الفصائل المسلحة العراقية الحليفة لإيران، قرب الشريط الحدودي مع السعودية يُعدّ من أهم الملفات التي تسعى الرياض للتوافق بشأنها مع العراق، وقد جرت في السنوات السابقة زيارات لمسؤولين أمنيين سعوديين إلى بغداد، إلا أنها لم تنجح في حسم الملف.

إذ تنتشر فصائل مسلحة عدة، أبرزها “كتائب حزب الله”، و”سيد الشهداء”، و”جند الإمام”، و”العصائب”، في نقاط مختلفة بالقرب من الحدود التي تمتد بين العراق والسعودية لأكثر من 800 كيلومتر، وتبدأ من مدينة النخيب في محافظة الأنبار غربا، وتقابلها عرعر السعودية، وتنتهي في نقطة نقرة السلمان على مقربة من حدود البصرة جنوبا، والمقابلة لحفر الباطن سعوديا.

اقرأ/ي أيضا: عُمان واللجوء للمنصة الإلكترونية.. صعود في عالم الغاز الاستثماري؟

بالعودة إلى الهيتي، فقد لفت في حديثه لـ “الحل نت”، إلى أن هذه الاتفاقية هي شبه تأكيدات أمنية بين العراق والسعودية، تضمن بأنه لا وجود لتهديدات أمنية، وتؤكد على حسن نية الجوار أمنيا من الجانب العراقي للرياض؛ لأن هناك محاذير سعودية تجاه العراق، لذا فإن هذه الاتفاقية هي محاولة لتأمين الجانب السعودي من الاحتمالات العراقية الممكنة.

إلى ذلك، فإن ملف الحدود العراقية السعودية كان قد برز بشكل واضح، بعد الهجمات العنيفة التي طالت منشآت نفط تابعة لشركة “أرامكو” في مدينتي بقيق وخريص السعوديتين، منتصف أيلول/ سبتمبر 2019، إذ رجحت تقارير غربية حينها انطلاق الهجمات من العراق، بسبب قرب المسافة مقارنة بالمسافة التي تفصل مناطق سيطرة “الحوثيين” في اليمن عن المنشأتين.

لذلك نشط الحراك السعودي باتجاه العراق في ملف الحدود خلال تلك الفترة، خصوصا مع ما رافقها من نبرة التهديد من قِبل فصائل حليفة لإيران باستهداف مصالح سعودية من داخل العراق، وقد طالب السعوديون وقتها بضمانات عراقية بشأن ملف الحدود، وأجروا أعمال تحصين جديدة من قبلهم، بما فيها منظومات ضد الصواريخ، وأبراج المراقبة، وأجهزة رادار على الشريط الحدودي مع العراق.

وفق المعطيات الحالية، لا يمكن الجزم بأن توقيع مذكرة التفاهم الأمني بين العراق والسعودية، سيكون له أثرا على مستوى علاقات البلدين، بل الأمر قد لا يتجاوز حدود البروتوكول وإسقاط الحجة عن طرف، لاسيما في ظل الحديث عن فقر العراق بالجانب التقني الأمني، بل والعسكري أيضا، وذلك بحسب مراقبين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة