منذ أن عمدت روسيا إلى استخدام ورقة الطاقة في إطار حملتها العسكرية لغزو الأراضي الأوكرانية ومواجهتها مع الدول الأوروبية، شكّلت الجزائر محورا هاما في هذه الحرب، فكانت العقبة الأبرز في تحقيق موسكو لأهدافها عبر إخضاع أوروبا بواسطة حرمانها من الغاز الروسي، الذي يشكل النسبة الأكبر من الاحتياجات الأوروبية للغاز الطبيعي.

الجزائر استفادت من أزمة الطاقة الناتجة عن وقف الإمدادات الروسية، وذلك عبر زيادة صادراتها من الغاز إلى الدول الأوروبية، لكن روسيا واصلت الضغط على أسواق الطاقة والنفط، عبر خطوات عدة أبرزها مؤخرا خفض الإنتاج، في محاولة للرد على العقوبات الغربية، لا سيما المتعلقة بوضع سقف لأسعار النفط الروسي.

مؤخرا زاد التقارب بين روسيا والجزائر، وقد سعت موسكو لتطوير علاقاتها مع الجزائر واستخدامها كبوابة للالتفاف على بعض العقوبات الغربية والتوسع في إفريقيا، لكن الجزائر أدركت مؤخرا أن مزيدا من التقارب مع روسيا قد يؤدي إلى فتح جبهة مع الغرب، الذي يسعى لعزل روسيا دوليا، فكيف ستؤثر الخطوات الجزائرية الأخيرة فيما يخص الطاقة على العلاقات بين الجانبين.

الجزائر تزيد إنتاجها

استفادة الجزائر من هذه الخطوة جاءت كذلك من الناحية الاقتصادية، فهي تسعى لزيادة إنتاجها من الغاز لتغطية جزء من حاجة السوق العالمية وخاصة في أوروبا، للحصول على عقود طويلة الأمد، خاصة وأن الجزائر تتمتع بميزات خاصة بالنسبة لأوروبا بسبب موقعها الجغرافي ووجود خطوط أنابيب قديمة تصلها بالقارة العجوز، فهل تكون الإجراءات الجزائرية سببا في فشل الخطة الروسية المتعلقة بحرب الطاقة.

ربما لا يعنيها الجزائر تلك المواجهة القائمة بين روسيا وأوروبا، أكثر مما يعنيها بأن تلك المواجهة ستقدم خدمات كبيرة للاقتصاد الجزائري وقطاع الطاقة، فقد أعلن مسؤول جزائري قبل أيام أن إنتاج بلاده من الغاز الطبيعي سيرتفع بمقدار 10 مليارات متر مكعب اعتبارا من مطلع العام القادم 2024.

هذه الزيادة ستسمح وفق تصريحات مدير الدراسات الاقتصادية والاستشراف بوزارة الطاقة والمناجم ميلود جلد ونقلتها صحيفة “القدس العربي”، بتلبية الطلب المتعلق بالعقود الدولية، وتأتي كذلك كنتيجة للاتفاقيات التي وقّعتها شركة المحروقات الحكومية في الجزائر “سوناطراك” مع شركات أجنبية لتطوير عدة مشاريع باستثمارات تصل إلى 6 مليارات دولار.

الكميات التي ستُزيدها الجزائر في الإنتاج، يُتوقع أن تذهب كلها للتصدير نحو أوروبا، وهي التي تنتج حاليا 130 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، تُصدر منها 56 مليار متر مكعب، وتستهلك نحو 50 أخرى في السوق الداخلية، والبقية يُعاد ضخّه في الآبار النفطية والغازية بهدف زيادة نسب الاسترجاع.

ميزات تتمتع بها الجزائر

الخبير في اقتصادات الطاقة نهاد إسماعيل، أشار إلى أن القرب الجغرافي الذي يتمتع به الجزائر من الدول الأوروبية، سمح لها بتوقيع اتفاقيات كبيرة في قطاع الطاقة، وسمح كذلك لأوروبا مواجهة إيقاف روسيا 90 بالمئة من إمداداتها النفطية إلى أوروبا، مشيرا إلى  أن زيادة الجزائر لإنتاجها من الغاز لن تكون المؤثر الأبرز على العلاقات الروسية الجزائرية، فهو قرار يتعلق بالاقتصاد الوطني.

إسماعيل قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “الجزائر كبقية الدول المنتجة للغاز، تسعى بالتأكيد للحصول على عقود طويلة الأمد، وحاليا العديد من الدول المنتجة وقّعت عقودا مع شركات أوروبية، منها قطر والإمارات والولايات المتحدة الأميركية وبالتأكيد الجزائر، لكن الأخيرة تتمتع بميزات خاصة، كقربها الجغرافي من أوروبا ووجود خطوط أنابيب تربطها مع الدول الأوروبية، خاصة مع إيطاليا، لذلك هي تعمل على تزويد إيطاليا بالغاز الطبيعي، وقبل عدة أسابيع تم توقيع اتفاق لتزويد ايطاليا بـ 28 مليار متر مكعب من الغاز سنويا”.

على الرغم من أن أوروبا لم تتخلص تماما من الاعتماد على الغاز الروسي في سد احتياجاتها من الطاقة، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها مؤخرا ساعدتها كثيرا على مجابهة روسيا، كزيادة الواردات من الجزائر، وتشييد محطات بهدف تسييل الغاز القادم من قطر والولايات المتحدة الأميركية عبر البحر.

روسيا خسرت حرب الطاقة؟

لم تعد روسيا قادرة على استغلال كرت الطاقة لابتزاز أوروبا وفق إسماعيل، خاصة وأن روسيا أوقفت 90 بالمئة من الإمدادات، في وقت تتجه فيه أوروبا إلى التّوقف تماما عن الاعتماد على الطاقة الروسية، إسماعيل أضاف كذلك “دول مثل الجزائر وقطر والإمارات وقّعت اتفاقات مع أوروبا لتزويدها بالغاز. الولايات المتحدة أيضا سترفع التصدير لأوروبا الى الضّعف خلال ثلاث سنوات بعد تنفيذ مشاريع توسع الإنتاج على سواحل خليج المكسيك، لذلك الخطوة الجزائرية منطقية ومبررة اقتصاديا، وروسيا فقدت دورها كلاعب هام في مجال الطاقة خاصة في أوروبا”.

قد يهمك: أميركا في آسيا الوسطى.. تبدد للنفوذ الروسي في دول “الاتحاد السوفييتي” السابق؟

إسماعيل استبعد بدوره أن تؤثر الخطوات الجزائرية على علاقتها مع روسيا، خاصة وأن الجزائر أصبحت من أهم منتجي الغاز وتريد بيعه لمَن يشتري، وبالفعل ربما لا تكون الخطوات المتعلقة بالطاقة هي المؤثر الأكبر على العلاقات، خاصة مع وجود تأثيرات ذات أهمية أعلى، متعلقة باستخدام روسيا للجزائر للتمدد في إفريقيا وغيرها من الملفات.

الجزائر تزوّد أوروبا بالغاز عبر خطّي أنابيب، الأول “ترانسماد-إنريكو ماتاي”، يصل إيطاليا عبر البحر المتوسط مرورا بتونس، والثاني “ميدغاز”، يمر من الساحل الشمالي الغربي للبلاد مباشرة إلى ألميريا جنوب إسبانيا، ما يعني أن أمر إمداد الجزائر لأوروبا بالغاز الطبيعي يتوقف حاليا فقط على وفرة الإنتاج التي تسعى الجزائر إلى تحقيقه خلال الفترة القادمة.

إذا فنجاح الجزائر في زيادة إنتاجها وتوفير المزيد من كميات الغاز الطبيعي إلى أوروبا سيكون سببا رئيسيا في فشل الخطة الروسية، حيث عمدت موسكو مؤخرا إلى خفض إنتاجها من النفط والغاز، بهدف التأثير على الكميات المعروضة في السوق العالمية وبالتالي زيادة التأثير السلبي على أزمة الطاقة، وخاصة وأن العالم يعيش منذ أشهر أزمة طاقة غير مسبوقة، وبشكل خاص الدول الأوروبية التي تسعى لإيجاد أمنها الطاقوي بعيدا عن هيمنة روسيا.

خفض الإنتاج بحسب تصريحات قالها نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك قبل أيام، سيشمل مقدار 500 ألف برميل يوميا أو حوالي 5 بالمئة في آذار/مارس القادم، إذ تحاول موسكو الرد على العقوبات الغربية والإجراءات المتعلقة بوضع سقف لأسعار النفط الروسي، التي بدورها تسببت بخسائر عديدة في الاقتصاد الروسي ليس أبرزها العجز نحو 147 مليار دولار في الموازنة الروسية، بحسب إعلان موسكو مطلع العام الجاري نتيجة الانخفاض في صادرات النفط.

بعيدا عن إمداد الغاز الروسي بشكل مباشر إلى أوروبا، فقد استطاعت الحرب توجيه ضربات عدة لروسيا منذ بدء حرب الطاقة، فكانت للعقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تأثيرات كبيرة على الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد على تصدير النفط كمورّد أساسي لخزينة الحكومة.

مع قرب قدوم الربيع وتقلص الاستهلاك وارتفاع نسب التخزين في خزانات الاحتياط الأوروبية، فضلا عن نجاح دول القارة في إيجاد بعض المصادر البديلة للغاز، كل ذلك مكّنت الدول الأوروبية من تحقيق هدف تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، فضلا عن انخفاض أسعار مصادر الطاقة.

يبدو أن الإجراءات السريعة التي اتخذتها أوروبا في الاعتماد على مصادر أخرى للحصول على الطاقة بعيدا عن روسيا، فضلا عن تشييد ودعم البنى التحتية الداخلية، ستساهم إلى حدّ كبير في ترجيح كفتها في حرب الطاقة، مما يعني أن روسيا ستخسر بطاقة هامة في حربها المستمرة في أوكرانيا، فهل ستكون نهاية الحرب في أوكرانيا من بوابة حسم نتيجة المواجهة المتعلقة بالطاقة والنفط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.