يبدو أن دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، تركز اليوم بشكل أساسي على تعزيز أمنها، وقد ازدادت هذه الجهود مع العديد من المتغيرات والتوترات الإقليمية والدولية. لذلك لا شك أن كل هذا المناخ المضطرب، بالإضافة إلى خطر التمدد الإيراني في المنطقة، خاصة بعد استهداف “الحوثيين”، حلفاء إيران، بطائراتها المسيّرة وصواريخها منشآت نفطية ومواقع استراتيجية أخرى في السعودية عام 2019، إضافة إلى شنّهم هجمات على الإمارات العربية المتحدة، دعت الرياض للتحرك نحو اتباع عدة استراتيجيات سواء أكانت مخططة في السابق حيث تمثّل أولوية قصوى لحماية أمنها القومي من الفوضى التي تسببها إيران، وكذلك توسّعها الذي يشكل مصدر قلقٍ لجميع دول الخليج وليس السعودية فقط.

في المقابل، أظهر تقرير لوكالة “بلومبيرغ” الأميركية، نُشر يوم الأربعاء الماضي، أن ثمة الكثير من الآمال والطموحات بشأن البرنامج النووي السعودي، لكن الواقع على الأرض مختلف. وتقول الوكالة إن جهود السعودية لأن تصبح في صفوف مورّدي اليورانيوم العالميين، ودعم برنامج الطاقة النووية الناشئ، آخذة في القصور، حيث فشلت استثمارات الاستكشاف في العثور على أي رواسب كبيرة من المعدن الثقيل.

بالتالي، تثار هنا عدة تساؤلات حول كيفية فهم مقاربة المملكة العربية السعودية السياسية والأمنية والإقليمية لقضية امتلاك الأسلحة النووية، وما إذا كانت هذه القضية مرتبطة فقط بالتهديد الإيراني، وهل يمكن اعتبار تصريح “بلومبيرغ” ضمن دعاية التهدئة السياسية بعد الاتفاق الثلاثي برعاية الصين.

بالإضافة إلى التساؤل الأبرز، ما إذا كان عدم حصول السعودية على أسلحة نووية هو العامل الأهم في ميلها إلى المصالحة مع طهران، وسبق وكشفت الصحف الغربية عن طلب الرياض من الإدارة الأميركية لجو بايدن وقبلها دونالد ترامب، المساعدة في برنامج نووي لأغراض سلمية مقابل التطبيع مع إسرائيل لكنه قوبل بالتجاهل والرفض، فكيف يمكن فهم تلك التطورات والتداعيات  في ظل سياقاتها السياسية والإقليمية المتفاوتة.

استراتيجيات السعودية

الاستراتيجيات السعودية في الوقت الراهن لعلها تكمن في تعزيز ترساناتها الأمنية، سواء كانت مساعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري أو الحصول على السلاح النووي، عبر عدة مسارات. أما الاستراتيجيات الأخرى فهي فكرة توسيع وتنويع علاقاتها مع عدة دول، لتحصين أمنها وتهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، نظرا لاقتراب الخطر من أمنها. وهذه الرؤية السعودية تبدو واضحة، من خلال توطيد علاقاتها مع العديد من الدول مؤخرا، لا سيما موقفها شبه المحايد من الغزو الروسي لأوكرانيا، بالإضافة إلى الحفاظ على علاقاتها مع شريكها الأمني الأول؛ الولايات المتحدة، ودليلا على ذلك عندما أبلغت الرياض الإدارة الأميركية بجهود الصين وترتيبات الاتفاق الثلاثي، وقد اتصلوا بـ”البيت الأبيض” قبل يوم من الإعلان عن الصفقة، وقالوا إنهم على وشك التوصل إلى اتفاق.

مشهد عام للعاصمة السعودية، الرياض
Credit: FAYEZ NURELDINE/AFP via Getty Images

واشنطن من جانبها رحّبت واعتبرت هذه بمثابة معاهدة سلام بقدر ما هي عودة إلى الوضع السابق قبل عام 2016، وأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا ترى مشكلة مع محاولة الصينيين تهدئة التوترات بين السعودية وإيران طالما أنها لا تتعلق بالتعاون العسكري أو التكنولوجي.

بالعودة إلى تقرير الوكالة الدولية، فإن كمية اليورانيوم التي تستحق التطوير أقل من تلك الموجودة في بوتسوانا أو تنزانيا أو الولايات المتحدة، وفقا لتقرير نشرته وكالة “الطاقة النووية” و”الوكالة الدولية للطاقة الذرية”. وهذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها الحكومة السعودية بيانات بهذا الشأن.

السعودية أنفقت أكثر من 37 مليون دولار منذ عام 2017 في البحث عن اليورانيوم لكنها تمكنت فقط من تحديد الاحتياطيات التي ستكون غير اقتصادية بالنسبة للتعدين. وقال وزير الطاقة السعودي، عبد العزيز بن سلمان، في وقت سابق من هذا العام، إن الرياض التي تريد تطوير صناعة تعدين كبيرة بحلول عام 2030، لا يزال لديها برنامج ضخم للتنقيب عن اليورانيوم في المستقبل، وأن عمليات التنقيب الأخيرة أظهرت وجود محفظة متنوعة من اليورانيوم في البلاد، وهذا الاستخدام يشمل إنتاج الكعكة الصفراء، واليورانيوم منخفض التخصيب، وتصنيع الوقود النووي، وكذلك التصدير، وفق “رويترز”.

في سياق مقاربة السعودية السياسية والأمنية والإقليمية لقضية امتلاك الأسلحة النووية، وما إذا كانت هذه القضية مرتبطة فقط بالتهديد الإيراني، يرى الأكاديمي السياسي والمراقب الدولي العسكري السابق لدى “الأمم المتحدة”، كمال الزغول، أنه من المستغرب ربط تقارب المملكة مع إيران بإنتاج الأسلحة النووية لأن الدولتين لا يمكن أن تتقاربا عن طريق بناء المفاعلات النووية.

في الحقيقة، التقارب الاستراتيجي مع إيران والصين وروسيا  يقوم على أساس تحولات سياسية حدثت بعد الحرب بأوكرانيا وعلى رؤية المملكة لعام 2030, فالتقارب يندرج تحت عنوان البحث عن الأفضل سياسيا وتجاريا وهذا ما قامت به السعودية، وفق تقدير الزغول لموقع “الحل نت”.

المملكة درست الحلول الممكنة ووجدت أن الاتفاق النووي الإيراني قد تعثر، الأمر الذي لا يخدم مصلحتها، وكذلك خمول الولايات المتحدة الأخير في المنطقة، ولا سيما في اليمن، اعتبرتها السعودية إهمالا كاملا لمصالحها، فاتخذت قرارات سياسية جريئة باعتمادها التوازن في سياستها الخارجية.

بعض المراقبين الأميركيين يقولون إن قرار الإدارات الأميركية المتعاقبة بتقليص انخراطها في المنطقة، أو في أفضل الأحوال إعادة توجيه أولوياتها نحو منطقة الهندي الهادئ، أدى إلى إفساح المجال أمام الصين وروسيا لاغتنام فرص جديدة. على الرغم من ذلك، قد تبقى الولايات المتحدة الشريك الأمني المفضل والأهم لدول الخليج. وبالنظر إلى أن الاتفاق جوهره القضايا السياسية والاقتصادية، يدلل هذا بأن قرار السعودية التعامل مع الصين ليس مجرد خطوة تكتيكية لتسجيل النقاط في وجه واشنطن بل هو قرار استراتيجي.

لتحقيق رؤية عام 2030؟

الوكالة الدولية لفتت إلى أن الدول والشركات تراقب عن كثب جهود المملكة لتطوير برنامج نووي. يقوم المسؤولون السعوديون بتقييم العطاءات لبناء مفاعلات، مع شركات من الصين وفرنسا وروسيا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، مضيفة أن السعودية تعمل بشكل وثيق مع المنظمين النوويين في “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” لتنفيذ القوانين اللازمة لبدء البرنامج. وقامت المملكة ببناء أول مفاعل أبحاث منخفض الطاقة ولكن لا يمكنها بدء العمليات حتى يتم تطبيق قواعد الحماية.

المملكة تعجّل بخطط لتطوير القدرة على توليد الطاقة النووية في إطار خطة إصلاح يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تهدف للحد من اعتماد الاقتصاد على النفط، وفق بعض التقارير السعودية.

أما مسألة امتلاك السعودية لترسانة صواريخ متوسطة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية هي مسألة أمنية سعودية، ولن تتوانى عن حماية مصالحها القومية سواء تقاربت مع إيران أم تباعدت عنها، وهو أمر يخضع لعنصر المفاجأة الاستراتيجية السعودية، وفق وجهة نظر الزغول.

الزغول يقول إنه من حق السعودية بناء مفاعلات نووية سلمية وهذا كان ضمن خطط اتصالات السعوديين بنظرائهم الروس وكوريا الجنوبية وباكستان، والسعودية قادرة على تأمين نفسها بالسلاح النووي إذا دعت الحاجة لكن تقاربها مع طهران ليس له علاقة بضعفها لامتلاك السلاح النووي وإنما هو استراتيجية جديدة مبنية على التحولات التي حدثت في العالم.

بحسب ما يحلله الأكاديمي السياسي فإن هذا التقارب يأتي لعدة أسباب؛ أولا، بناء شراكة سعودية أمنية في المنطقة ذات طابع مختلف. ثانيا، إدامة سلاسل التوريد ومصادر التصدير والاستيراد لمصادر الطاقة السعودية. ثالثا، التقدم والازدهار من خلال بناء مفاعلات نووية سلمية تخدم الصناعات وتسهم في رؤية عام 2030 الاقتصادية للمملكة.

سيناريوهات قديمة تتحقق الآن

في عام 2009، حذر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، دينيس روس السابق، وقال إن الرياض ستحصل على أسلحة نووية، وكانت المملكة العربية السعودية منذ ذلك الحين ترسل إشارات عديدة إلى واشنطن حول نواياها المستقبلية.

كذلك، لا يخفى على أحد أن السعودية استثمرت في مشروعات الأسلحة النووية الباكستانية، معتقدة أن بإمكانها الحصول على الأسلحة الذرية في الوقت الذي تشاء، حسب مصادر مختلفة لـ”بي بي سي”. وبالرغم من أن سعي السعودية للحصول على أسلحة نووية غالبا ما يندرج في إطار المنافسة التي يثيرها البرنامج النووي الإيراني، ولكن يبدو أن إهمال طلب السعودية بخصوص ضمانات أمنية ومساعدة لتطوير برنامج نووي مدني حتى الآن، من قبل الولايات المتحدة، مقابل إبرام صفقة تطبيع بين المملكة وإسرائيل، بحسب ما نقلت “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز”، شهر آذار/مارس الفائت، دفعتها بإبرام صفقات مع خصمها اللدود؛ طهران.

بعيدا عن كل ذلك، فإن الرياض منذ عام 2003 كانت تفكر باستراتيجية جدية بسبب البيئة الأمنية المتغيرة في المنطقة منذ زمن طويل وحتى اليوم واحتمالات الانتشار النووي فيها، وتحديدا من إيران، وورد في وثيقة سرّبها مسؤولون سعوديون في العام نفسه أن المملكة رسمت ثلاثة سيناريوهات مستقبلية للتعامل مع هذا الأمر؛ السيناريو الأول هو اقتناء الأسلحة النووية التي تحتاجها، والثاني هو عقد اتفاق مع قوة نووية أخرى لحماية المملكة، والسيناريو الأخير هو الاعتماد على إمكانية خلو منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، ويبدو أن هذه السيناريوهات تتحقق شيئا فشيئا، والاتفاقية الثلاثية مع إيران والصين خير دليل على هذا.

آرون ديفيد ميلر، الباحث الأول في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، قال في وقت سابق إن وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل أصدر تصريحا نافذ البصيرة حين قال ممازحا في إحدى المرات إن السعودية لم تعقد زواجا كاثوليكيا مع واشنطن، بل زواجا إسلاميا يسمح بتعدّد الزوجات. فالمملكة لا تريد الطلاق من واشنطن، بل ترغب فحسب في إقامة علاقات مع دول أخرى. وتجلّى هذا التصريح لسعود الفيصل بأبهى صوره في الوساطة التي أدتها الصين مؤخرا وأفضت بإبرام اتفاق مصالحة بين طهران والرياض.

لكن نظرا إلى العداوة الطويلة بين طهران والرياض منذ عقود، قد يكون تأثير الاتفاق أقل بكثير مما يبدو عليه للوهلة الأولى، أي أنه قد يشكّل تغييرا جزئيا تجاري الطابع بدل أن يكون تغييرا جذريا تحوّليا في علاقاتهما. كما أن سعي الصين إلى توطيد علاقاتها مع دول الخليج، تبدو خطوة قد تثبت على نحو متزايد أنها منافسة ذات حصيلة صفرية مع الولايات المتحدة. هذا الاتفاق السعودي الإيراني قد يؤدي إلى تهدئة الأوضاع في اليمن، ما يشكّل نقطة إيجابية للسياسة الأميركية.

عليه، وبالنظر إلى الدروس المستفادة من الاتفاقيات الدولية السابقة، لا سيما الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، فلا يُستبعد أن تفشل هذه الاتفاقية بين السعودية وإيران. حيث إن استمرار اتفاقيات السلام المبرمة بين عدوين؛ المملكة العربية السعودية وإيران، خاصة وأنه لا يثق كل منهما بالآخر، أمر يدعو للتساؤل والتشكيك به. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هل ضعف حصول الرياض على السلاح النووي أحد أبرز عوامل تقاربها مع طهران، برغبة من الصين  بهدف إما حيازتها للنووي في المستقبل المنظور واحتمائها بقوة نووية أخرى أو تحقيق مسألة خلو المنطقة من النووي كليا بغية تعزيز أمنها القومي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات