بعد أن عقدت الصين قمة صينية خليجية في أوائل كانون الأول/ديسمبر الماضي، ثم قمة صينية سعودية، وقمة صينية عربية، كان من الواضح أن بكين كانت تحاول كسب السعودية إلى جانبها، خاصة وأن الأخيرة غنية جدا بالنفط والوفرة الاقتصادية للاستثمارات، وبكين في أحوج ما يكون للاستثمار المالي في الوقت الراهن. لكن يبدو أن الرياض كانت لديها مطالب محددة آنذاك؛ وهي التقارب مع إيران من أجل حل العديد من قضايا المنطقة وتحديدا حماية أمنها القومي من التمدد الإيراني بالمنطقة، ونظرا لأن عقلية بكين “تجارية”، فقد تمكنت قبل يومين من خلق نوع من التقارب بين الرياض وطهران.

لكن معالم هذا التقارب وإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما وبرعاية “الحزب الشيوعي” الصيني الحاكم في بكين، حتى الآن، يبدو مجهولا وغامضا. حيث سادت التكهنات حول عدم نجاحها أو سيرها قُدما نحو تعزيز العلاقات أكثر بين الرياض وطهران، بالنظر إلى سجل الأخيرة في التقاعس وعدم جدّيتها في أي محادثات أو اتفاقيات إقليمية ودولية، ولا يخفى على أحد أنها اليوم نتيجة للضغوط التي تواجهها وتحديدا الداخلية من الاحتجاجات الشعبية، فإنها تسعى من كل حدب وصوب لتخفيف حدة التوترات مع الدول لغض النظر عن مشاكلها وتحسين واقعها الاقتصادي المتداعي، ومن ثم تخفيف الضغط عليها ككل.

كذلك عقلية الصين واستراتيجيتها التي تأخذ كل شيء تقريبا بـ”عقلية التاجر”، إلى جانب السياسة الاقتصادية السعودية التي تشبه “الأخطبوط”، وبالتالي إذا لم يُرَ نوعا من التغيير في سلوك طهران، فلن تكون السعودية ملزمة بإتمام هذا الاتفاق أو تطويره من دون تحقيق نتائج مرجوة، وهذا ما أكدته المملكة عندما قالت إن “طهران ستبقى تحت المراقبة في الشهور القادمة لحين تلمّس تغيير في سلوكها”.

مما لا شك فيه أن الاتفاق الذي تمّ بين السعودية وإيران برعاية الصين يمكن تناوله على أكثر من مستوى؛ أولا الشق الاقتصادي والتجاري بين البلدين وعلاقته بالعقوبات والتي ستكون عملية التفاف جديدة مثلها مثل غيرها مما تقوم به طهران مع بكين وفنزويلا وكوريا الشمالية. ثانيا، تثار تساؤلات حول مدى التفاؤل بعودة متينة للعلاقات الديبلوماسية والسياسية في ظل تناقضات جمة وتنافس على ملفات عدة، وتحديدا سوريا واليمن، إذا ما ثمة تسوية باليمن، أو عودة قريبة لدمشق لـ”جامعة الدول العربية”.

ثالثا، موقف أميركا من دبلوماسية الصين بالشرق الأوسط، ثم مدى جدّية إيران المتوقعة للالتزام بهذا الاتفاق وهل بمقدور بكين أن تكون معها ضمانات بهذا الشأن.

لا علاقات اقتصادية متينة

بعد 5 سنوات من وصف ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، للمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، بأنه “هتلر جديد في الشرق الأوسط”، كان الخبر الأبرز هذا الأسبوع يتمثل في إعادة السعودية وإيران لعلاقاتهما الدبلوماسية. وبعد سنوات من المواجهة في صراعات بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، كان الاتفاق السعودي الإيراني مصدر ارتياح لطهران التي تعاني من اضطرابات داخلية واقتصاد يرزح تحت وطأة العقوبات القاسية، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز“.

يوم الجمعة الفائت، توسطت الصين في اتفاق لاستعادة العلاقات بين إيران والسعودية، بعد مرور سبع سنوات من القطيعة. واتفق البلدان على استئناف العلاقات وإعادة فتح السفارتين خلال شهرين. تقارير صحفية أشارت بأن القمة الأوسع بين إيران و”مجلس التعاون الخليجي” المؤلف من ست دول، والتي لم يتم الإبلاغ عنها من قبل، تمضي قُدما في وقت لاحق من هذا العام.

في الحقيقة إن الاتفاق تناول في أحد بنوده تفعيل الاتفاقيات التجارية بين البلدين، وهذا الملف سيكون ضمن النقاشات والمحادثات التي ستجري فيما بعد. وهو بلا شك لن يشهد أي تقدم ما لم يسبقه تقدم في الملفات المهمة والتي لها أولوية وهي اختبار التعاون فيما يتعلق بتدخلات إيران وعلاقاتها بميليشياتها في المنطقة، وفق تقدير المحلل السياسي والباحث في “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية”، محمود حمدي أبو القاسم.

علما أنه خلال الفترة التي شهدت تحسّن للعلاقات مطلع الألفية لم تشهد العلاقات تبادل تجاري وتعاون اقتصادي ذا أثر. يعود ذلك لأسباب هيكلية واقتصادية تتعلق بتشابه هياكل الإنتاج التي تتمحور حول النفط وصادرات الطاقة والصناعات المرتبطة بها. كما كان يعود إلى الحساسية التي تهيمن على العلاقات حتى في وقت الانفراج والخلافات الأيديولوجي الواسع الذي يشمل منافسة إقليمية فضلا عن منافسة على قيادة العالم الإسلامي، وهو ما كان له أثر على حدود التعاون الاقتصادي، حسبما يوضح أبو القاسم لموقع “الحل نت”.

قد يهمك:  الغموض النووي يغذي العداء الإسرائيلي تجاه إيران.. النتائج والتوقعات

هذا وقطِعت العلاقات بين إيران والسعودية عام 2016 بعد هجوم من قبل محتجين على سفارة المملكة في طهران وقنصليتها بمشهد، احتجاجا على إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي، نمر النمر. وجاء قطع العلاقات بينهما بعد عام على تدخل تحالف عسكري تقوده السعودية في اليمن عقب سيطرة المتمردين “الحوثيين” الموالين لطهران على أجزاء كبيرة من أفقر دولة في شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك العاصمة صنعاء.

لحماية أمنها من إيران؟

المحلل السياسي، أبو القاسم يقول إذا ما أضفنا إلى هذه العوامل العقوبات الاقتصادية الراهنة والمتوقع أن تتزايد ما لم تعود إيران إلى التفاهم مع الغرب والولايات المتحدة، فإن العقوبات تلك ستكون قيد وعقبة أمام تطوير العلاقات الاقتصادية بين الرياض وطهران، وستحدّ بصورة كبيرة من تفعيل الاتفاق في هذا الجانب.

بعض المراقبين يرون أن الرياض لديها مكاسب من الاتفاق شرط أن يترسخ التعاون الجديد، حيث يمكن لاستئناف العلاقات بين البلدين أن يهدّأ من التوترات الإقليمية التي أشعلت الحروب وأثارت خلافات إعلامية وأرسلت طائرات مسيّرة وصواريخ عبر شبه الجزيرة العربية.

يبدو جليا أن حل النزاعات التي استنزفت ميزانية الحكومة السعودية، حيث قامت بإصلاح اقتصاد المملكة على أمل تحويلها إلى مركز عالمي للأعمال والثقافة، فضلا عن تخصيص ميزانية ضخمة في سبيل تطوير مجال التسليح العسكري الذاتي. وبالتالي فإن سياسة الرياض حاليا باتت تركز بشكل أساسي على تهدئة الأوضاع بالمنطقة ويعتقد بن سلمان أن ذلك مرتبطٌ بشكل كلّي مع إيران، وهذا ما دعاه لأن يتصالح مع طهران، التي تراوغ وتلعب على عدة حبال بحسب مصالحها، ولا يبدو عليها أنها ترغب باستقرار أوسلام على حساب مشروعها العدائي.

التداعيات على الشرق الأوسط

مسألة التأثير السريع للاتفاق السعودي الإيراني على الوضع في الشرق الأوسط، لا تزال محل تساؤل، لا سيما وأن “وجود السفراء سابقا لم يفضي بأني شيء إيجابي يذكر لتخفيف حدة العداء” بين الرياض وطهران، كما يقول الكاتب، بوبي غوش، في عموده بموقع “بلومبيرغ” الأميركية.

وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، كان قد غرّد على منصة “تويتر” بعد الإعلان، قائلا “يجمع دول المنطقة مصير واحد وقواسم مشتركة تجعل من الضرورة أن نتشارك سويا لبناء أنموذج للازدهار والاستقرار لتنعم به شعوبنا”.

بينما قالت ياسمين فاروق، الباحثة غير المقيمة بـ”مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”، وهي مجموعة بحثية بواشنطن، “الأمر لا يتعلق بأن السعودية لا تدرك أن الضمان الأمني الصيني له حدود. بل على مدى السنوات الماضية، تعلّم السعوديون دروسا صعبة للغاية، وأن من بين تلك الدروس التي تعلّموها هي مواصلة تنويع علاقاتهم.

بالعودة إلى أبو القاسم، فإن الاختبار الحقيقي للاتفاق الذي ترعاه الصين، هو مدى استجابة إيران للمطالب السعودية بالحد من تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. وبالنظر إلى سياسة إيران الخارجية وتطلعاتها إلى الهيمنة الإقليمية فإن المتصور أن تنفيذ الاتفاق في هذا الجانب بالتحديد سيحتاج إلى تضحيات. ومن المبكّر الجزم بأن إيران لديها استعداد لتقديم هذه التنازلات. فالنفوذ الذي راكمته في العراق وسوريا ولبنان وكذلك في اليمن من الصعب التخلي عنه. و”الحرس الثوري” الذي لديه مسؤولية عن رعاية هذه الجهود الإقليمية قد لا تصب هذه التغييرات في صالحه.

لكن مع ذلك فإن الرغبة في التهدئة قد تدفع إلى تفاهمات في ملف مثل اليمن رغم الصعوبات والتحديات والتعقيدات المرتبطة بهذا الملف. لكن في الحقيقة رضى السعودية عن المضي قدما مرتبط بصورة أساسية بالتقدم في هذا الملف تحديا، حسبما يحلل أبو القاسم.

على أي حال لا يجب أن “نفقد الأمل في إيران لا سيما أنها تواجه تحديات كبيرة على الساحة الداخلية وضغوط دولية أثرت على شرعية النظام ووضعته في موقف داخلي حرج”، ومثل هذا الاتفاق قد يكون نافذة لكسر العزلة عن النظام على الأقل على المستوى الإقليمي، وقد يخفف من الضغوط السعودية التي قادت خلال المرحلة الأخيرة حملة واسعة لتغيير سلوك النظام ودفعه نحو سياسات تدعم الاستقرار والتهدئة، وفق وجهة نظر أبو القاسم.

أما عن سوريا، فيبدو أن الاتفاق بلا شك سوف يمنح الرئيس السوري بشار الأسد مزيدا من الشرعية، وسيفتح أمامه فرصة العودة إلى “الجامعة العربية” ربما، لكن هذا سيكون مرهون بالحسابات والتنازلات المتبادلة بين الخليج وإيران، وفق تقدير أبو القاسم.

لتأكيد عدم جدّية والتزام طهران بالاتفاقيات مع الدول، يقول غوش إن “أكبر تهديد للخليج يتمثل في هجمات إيران وفي الغالب من خلال وكلاء في اليمن والعراق على أهداف سعودية، ولكنه يصعب الوثوق بالثعلب للتعاون في تأمين حظيرة الدجاج”.

كما ويرى أن الاتفاق السعودي الإيراني حتى يكون له أي أساس، كان يتعين على الإيرانيين إيقاف دعمهم لوكيلهم في اليمن، حيث تورطت السعودية في صراع مع ميليشيا “الحوثي”.

خطوة تكتيكية إيرانية؟

مبادرة الرئيس الصيني شي جين بينغ، تُظهر الدبلوماسية الصينية أن بكين ترى دورا مركزيا لها باعتبارها وسيطا جديدا للسلطة في الشرق الأوسط، وهي منطقة استراتيجية كانت الولايات المتحدة فيها اللاعب الخارجي الأكثر نفوذا لعقود. ويبدو أنه لم يعد تركيز الصين حصريا على الطاقة وتدفقات التجارة، ويشير دخول الصين في سياسات المنطقة إلى فصل جديد في المنافسة بين بكين وواشنطن، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال“.

أبو القاسم يقول إنه لا شك أن ثمة قيود أيديولوجية وخبرة تاريخية تشكك في نوايا إيران وتعزز عم الثقة بها. وأنها ربما أجبرت على التوقيع على هذا الاتفاق تحت تأثير الضغوط الداخلية والضغوط الصينية. لكن بالنظر إلى المصالح المُلحّة بما فيها تجاوز الأزمات الراهنة، وتهدئة حالة عدم الاستقرار في الداخل وتمهيد الطريق نحو تفاهمات مع الولايات المتحدة، قد تدفعها إلى الاستمرار والتمسك بمسار الدبلوماسية مع المملكة ودول المنطقة.

بالتالي يُعد وجود الصين ورعايتها للاتفاق ورقة ضغط مهمة على طهران بما تمتلكه بكين من أوراق مؤثرة بما في ذلك كونها المنفذ التجاري لإيران في ظل العقوبات، وأهمية الصين كشريك دولي في مواجهة الولايات المتحدة، فضلا عن أنها قبلة النفط الإيراني الذي يتمّ تهريبه بعيدا جدا عن العقوبات والذي يوفر للنظام الإيراني الموارد التي يعتمد عليها خلال المرحلة الراهنة.

الصفقة السعودية الإيرانية، التي تم تجزئتها خلف أبواب مغلقة في بكين الأسبوع الماضي، تتناول بعضا من أكثر القضايا حساسية بين دولتين كانتا على طرفي نقيض في صراعات بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط منذ سنوات. لكن إعادة فتح السفارات وتجديد العلاقات الدبلوماسية ليس من المرجح أن يخفف من التوترات الأمنية الطويلة بهذه السهولة التي قسمت الرياض وطهران لعقود من الزمن وغذت تنافسهما على الهيمنة الإقليمية.

يقول بعض المحللين الغربيين والإيرانيين إن الصفقة لن تكون مستدامة دون مباركة “الحرس الثوري” الإيراني، وقال مسؤولون أميركيون وسعوديون إن إيران كانت هذه المرة متحمسة لإبرام صفقة مع أزمة عملة تعصف بالبلاد، مما أدى إلى زعزعة اقتصاد يعاني بالفعل من العقوبات الأميركية بسبب برنامجها النووي وبعد شهور من الاحتجاجات ضد حكم نظام الملالي. العملة الإيرانية، الريال، ارتفعت بأكثر من 10 بالمئة إلى 450 ألف ريال مقابل الدولار الأميركي يوم السبت بعد اتفاق يوم الجمعة لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الرياض.

يقول المسؤولون الإيرانيون إنهم يتوقعون فوائد اقتصادية من التقارب مع السعودية في وقت تشهد فيه طهران عزلة سياسية ومالية شديدة. وبالتالي وفق تقدير المحللين فإن الصفقة الإيرانية مع السعودية ليست سوى خطوة تكتيكية من جانب إيران، في ظل عزلة دولية هائلة وانهيار اقتصادي داخلي قريب.

هل تنجح الصين في إتمام الصفقة؟

الصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني ولديها نفوذ اقتصادي كبير هناك. قبل إعلان يوم الجمعة، سمحت الصين لإيران بالاستفادة من أجزاء من الأموال في البنوك الصينية، التي يبلغ مجموعها 20 مليار دولار، والتي تم تجميدها عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وأعادت فرض العقوبات في 2018، حسبما ذكرت وكالة “مهر” الإيرانية.

في حين يأمل المسؤولون السعوديون في أن تتمكن بكين من استخدام علاقاتها الاقتصادية للتأثير على سلوك إيران، وهو أمر كافحت الولايات المتحدة لتحقيقه من خلال العقوبات أو المفاوضات أو التهديد بعمل عسكري. لكنهم ومسؤولين خليجيين آخرين عبّروا عن شكوكهم سرا من أن الصين، التي اقتصرت أنشطتها في الشرق الأوسط في الغالب على تعميق العلاقات الاقتصادية، ستنجح في خوض واحدة من أكثر المنافسات الشائكة في العالم.

هذا ويمنح الاتفاق السعودية وإيران شهرين للتوصل إلى تفاصيل قبل إعادة فتح السفارتين. ومن المفترض أن يجتمع وزيرا الخارجية السعودي والإيراني بعد ذلك لإبرام الاتفاق.

بناءً على كل ما سبق، فمن غير المرجح أن يغيّر الاتفاق المعلن في الصين مخاطر الصراع بين إيران والسعودية، خاصة في اليمن، لكنه يمنح بكين مشكلة معقدة مجانا في منطقة تشهد أكثر الملفات تعقيدا وشائكة، سيما وأن الأموال والعقود الاقتصادية لا تُمنح على طبق من فضة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة