على خطى زيادة التقارب واستمرارا لما تم الإعلان عنه قبل نحو أسبوع حول عودة العلاقات بين السعودية وإيران برعاية الصين، تواصل وزيرا البلدين الإقليميين هاتفيا قبل يومين واتفقا على عقد لقاء ثنائي بينهما قريبا. وكانت التحركات الخارجية بين طهران والخليج من أبرز التطورات اللافتة خلال الأسبوع الماضي، ما يعني أن ثمة تغييرات في الوضع الإقليمي المتوتر. ومع ذلك، فإن هذه المسارات الجديدة ليست تحالفا سياسيا ودبلوماسيا نهائيا يعود بالنفع على جميع الأطراف بل قد يُلحق بهم ضررا أكثر من نفعهم.

تبدو عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بشكل عام إيجابية لاستقرار المنطقة، بسبب نفوذ الأخيرة في عدد من دول المنطقة، لا سيما اليمن، لكن هذا يترك تساؤلات شائكة ومعلّقة، ففي جردة حساب ما بين الأطراف الإقليمية والدولية فإنه لهذا التقارب نفعٌ للأطراف الموقّعة ولكن بعد إعادة حسابات الربح والخسارة.

من هذا المنطلق تثار تساؤلات حول أسباب اتخاذ تلك الأطراف لخطوة التقارب هذه، وما إذا كان هذا التقارب يضرّ بالقوتين الإقليميتين أكثر مما ينفعمها، والمستفيدون والخاسرون في الجوانب الاقتصادية والسياسية وحقوق الإنسان. وكذلك نتيجة هذا التقارب، تبرز تساؤلات حول حجم الخسائر التي سيتكبدها كل من هذه الأطراف وخاصة السعودية.

أسباب التقارب

في العاشر من شهر آذار/مارس الجاري أعلنت أبرز قوتين إقليميتين في المنطقة، أنهما ستعيدان فتح السفارات والممثليات الدبلوماسية في غضون شهرين. وينص اتفاقهما، على تنفيذ اتفاقية أمنية مبرمة عام 2001 ومرتبطة بمراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب.

أثناء إجراء اتصال هاتفي، اتفق وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله، يوم الأربعاء الماضي، مع نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان على عقد لقاء ثنائي بينهما قريبا. وبحسب “وكالة الأنباء السعودية” (واس)، فإن هذا اللقاء سيمهّد الأرضية لإعادة فتح السفارات والقنصليات بين البلدين.

بعد سنوات من الصراع على النفوذ في المنطقة اتفقت الرياض وطهران على استئناف العلاقات المقطوعة بينهما منذ 2016، وأكدت الأولى أن الاتفاق أُبرم على أساس عودة العلاقات الدبلوماسية، وسط رغبة مشتركة لدى الجانبين بحل الخلافات عبر التواصل والحوار.

هذا وبعد الاتفاق، صدر بيان ثلاثي عن الدول الثلاث تضمن البنود التي نص عليها، ومن بينها التأكيد على سيادة كل دولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، بالإضافة إلى عقد وزيري الخارجية السعودي والإيراني اجتماعا لتفعيل لترتيب تبادل السفراء، ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما، فضلا عن تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقّعة في 1998.

الباحث في العلوم السياسية، الدكتور عبد السلام القصاص، يتوقع أن يكون لهذا التقارب تداعيات إقليمية ودولية جمّة، لا سيما بعد سنوات عديدة من المواجهة بينهما، والحرب بالوكالة. وسبب تقارب الرياض لا شك أنه يمثّل أولوية قصوى لحماية أمنها القومي من الفوضى التي تسببها إيران، وكذلك توسّعها الذي يشكل مصدر قلقٍ لجميع دول الخليج وليس السعودية فقط.

قد يهمك: مستشار الأمن الإيراني في الإمارات.. ورقة “مهمة” تأمل طهران أن ترسلها بهذه الزيارة؟ – الحل نت

بالنسبة لطهران فلا يخفى على أحد أنها تحاول إنهاء العزلة الدولية المفروضة عليها، خاصة بعد دعمها لروسيا في الحرب بأوكرانيا، الأمر الذي فاقم حجم عزلة إيران الديبلوماسية، فضلا عن تدهور علاقاتها مع الدول الغربية، بجانب جملة الأزمات الداخلية، من تضخم اقتصادي وارتفاع مستوى الفقر والبطالة، ناهيك عن الاحتجاجات الشعبية اللافتة على إثر مقتل الفتاة الكُردية الإيرانية، مهسا أميني، وفق تقدير الباحث السياسي لموقع “الحل نت”.

من جانبها، يبدو أن بكين تريد أن تُظهر نفسها كقطب عالمي جديد، من خلال دورها كوسيط في هذه الاتفاقية بين أكبر منافسين في المنطقة، بالإضافة إلى أنها تريد حماية مشاريعها الاقتصادية، ولعل أبرزها مشروع “الحزام والطريق”، وزيادة علاقاتها النفطية، خاصة أن لها علاقات اقتصادية كبيرة مع الرياض ودول الخليج، وهي أكبر شريك اقتصادي لإيران، مما يدفعها إلى إحداث استقرار بالمنطقة، على حد تعبيره.

بحسب تقدير القصاص، ستضع هذه الاتفاقية على جدول أعمالها جميع القضايا الشائكة في المنطقة، وأبرزها الأمن البحري وأمن الطاقة، والميليشيات الموجودة في لبنان واليمن والعراق وسوريا. وبكين تحاول تهدئة أمن المنطقة لتمرير حركة تجارتها وليس أكثر من ذلك.

الصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني ولديها نفوذ اقتصادي كبير هناك. قبل إعلان يوم الجمعة، سمحت الصين لإيران بالاستفادة من أجزاء من الأموال في البنوك الصينية، التي يبلغ مجموعها 20 مليار دولار، والتي تم تجميدها عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وأعادت فرض العقوبات في 2018، حسبما ذكرت وكالة “مهر” الإيرانية، مؤخرا.

حسابات الربح والخسارة

مما لا شك فيه أن لهذا التقارب بين الخصمين تداعيات على المنطقة. يتوقع المراقبون أن تقلّص طهران محاولاتها لزعزعة استقرار دول مجاورة. كالعراق الذي تمارس فيه إيران نفوذا كبيرا من خلال الميليشيات والأحزاب المرتبطة بها. كذلك، ربما يتم التوصل إلى اتفاق أو تسوية ما في اليمن، وهو ما ترنو إليه الرياض.

صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية، تقول إن من بين أولويات طهران إنهاء الحرب في اليمن، وتسهيل عمليات تحويل العملات الأجنبية لطهران، الأمر الذي تعيقه العقوبات الأميركية، وأنها استعانت بالمؤسسات والشركات والمراكز الاستثمارية التجارية في الإمارات ضمن حيلها المتعددة للخروج من ضائقة العقوبات.

ما يزيد من هذا التكهن هو زيارة أمين “المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني” علي شمخاني، إلى الإمارات قبل أيام قليلة.

زيارة شمخاني ليست سوى رغبة إيرانية لإحداث تقاربات مع عدد من دول المنطقة لتخفيف الضغوط عليها، خاصة وأن أبو ظبي تُعدّ شريكا تجاريا مهما بالنسبة إليها، وهو أمر يخدم مصالح بكين أيضا، وفق القصاص.

كما أنها تسعى لتخفيف الحمولات الثقيلة حتى لو بصورة مؤقتة وترتيب أوراقها مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” للخروج من مأزق الملف النووي وتحييد دول الخليج في الصراع الأخير وبناء تحالف خليجي إيراني برعاية الصين، لكن كل ذلك ليس نهائيا وحتميا بل سيتوقف على مدى جدّية إيران في إنهاء دورها الفوضوي بدعم الميليشيات في اليمن والعراق وسوريا.

القصاص يقول إن هذه الاتفاقية ربما لها نفعٌ في مسارات معينة ومحدودة ولكنها لن تُنهي الصراع القائم في المنطقة، إذ إن هذه التغييرات ربما تحمل تفاعلات وواقع جديد في المنطقة بين القوى الإقليمية الأخرى، بالتالي لا يمكن التوقع بأن العلاقات ستسير بسلاسة وأن تمّ الاتفاق على كل الملفات بهذه السهولة، وسط التناقضات الموجودة. والملف اليمني هو الاختبار الرئيسي لهذا التقارب، فإن لم يشهد جدية من قبل طهران فيها فلن يكتب لهذا التقارب النجاح والمضي قدما.

بالنظر إلى أن تهدئة الأوضاع في اليمن يعد من أبرز شروط السعودية لإنجاز التقارب الدبلوماسي مع إيران، يرى القصاص أن طهران ستحاول بسياسة براغماتية تمضية هذه الاتفاقية، لإحداث انفراجة في بعض الضغوط التي تعاني منها، وهذا يعني أنها ليست جادة تماما في تقاربها مع السعودية، حيث إن تنازلها في ملف كبير مثل اليمن غير مرجح، فقد تقوم بتقديم بعض التنازلات في عدة ملفات، مثل تخفيف حدة الفوضى التي تسببها جماعة “الحوثي” في اليمن، لكنها في النهاية لن تهدم ما بنته لسنوات عديدة والتخلي عن مشروعها العدائي في المنطقة أمر مستحيل، وبالتالي يمكن أن تراوغ لفترات طويلة كما كانت ولا تزال تفعله مع الغرب في ملفها النووي، وهذا بالتأكيد سيكون له آثار سلبية كبيرة على السعودية.

قد يهمك: الدور الغريب للصين في التقارب السعودي الإيراني.. تحوّل في القوة أم رهان يثير المخاوف؟ – الحل نت 

بعض المحللين الغربيين يرون أن الاتفاقية لن تكون مستدامة دون مباركة “الحرس الثوري” الإيراني، وقال مسؤولون أميركيون وسعوديون إن إيران كانت هذه المرة متحمسة لإبرام صفقة مع أزمة عملة تعصف بالبلاد، مما أدى إلى زعزعة اقتصاد يعاني بالفعل من العقوبات الأميركية بسبب برنامجها النووي وبعد شهور من الاحتجاجات ضد حكم نظام الملالي.

هذا وتقود السعودية تحالفا عسكريا داعما للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، وتتهم طهران بدعم جماعة “الحوثي” الذين يسيطرون على مناطق واسعة في شمال البلاد أبرزها صنعاء. بالتالي يتعين إثبات تأثير هذا التقارب في الملف اليمني الذي يبدو أنه لا يشكل موضوعا أساسيا بالنسبة لإيران.

أما إذا ما تم الخوض في مجال حقوق الإنسان في كلا البلدين، فإن إعادة العلاقات السعودية الإيرانية الجديدة سيشكل تحديا أكبر في مجال حقوق الإنسان، وفقا لمراقبين. ويرى القصاص في هذا الإطار أن سجل طهران مليء بهذا الصدد وتقاربها مع السعودية سيعزز من قمعها للمعارضة وحركة الاحتجاجات الشعبية هناك. وفي الوقت نفسه لا تختلف السعودية كثيرا في هذا الجانب، فلديها انتهاكات متكررة بمجال حقوق الإنسان والتعامل مع المعارضين. ولعل عملية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 في قنصلية بلاده في إسطنبول دليل على ذلك، والصين أيضا لا تراعي مجال حقوق الإنسان، وبالتالي فإن التضييق الحقوقي من كلا البلدين ربما قد يضعهما في وضع حرج جدا أمام الغرب.

ضربة إسرائيلية؟

المعارضة الإسرائيلية لم تتردد في انتقاد حكومة بنيامين نتانياهو بعد الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني، معتبرة أنه يشكل “فشلا تاما وخطرا لسياسة الحكومة الإسرائيلية الخارجية”. ولم تنجح الحكومة الإسرائيلية في ضم السعودية إلى اتفاقيات “أبراهام” المبرمة عام 2020 مع جارتي المملكة، الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وإشراك الرياض فيها لو حصل، كان سيسمح في إنشاء تحالف إقليمي ضد إيران التي يشكل برنامجها النووي تهديدا مباشرا بالنسبة لإسرائيل.

بالتالي، فإن الوضع بالنسبة لإسرائيل مختلف، فإيران لا تزال موضع تهديد لها. ولعل التقارب بين الرياض وطهران الآن يمكن أن يغير من المشهد. إذ يمكن للسعودية أن تخرج نفسها من صراع مسلح محتمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى بسبب البرنامج النووي الإيراني، وفق مراقبين.

التقارب السعودية إيران

القصاص يقول إن إعادة العلاقات بينها والرياض لا يعني أنها ستتراجع عن طموحاتها النووية، بل وسيُزيدها إصرارا، خاصة وأنها تريد متنفسا اقتصاديا لإتمام طموحها هذا، وقد رأت أن التقارب مع السعودية وبوساطة الصين قد ينتشلها من مأزقها الاقتصادي.

بالنظر إلى أن المفاوضات النووية الإيرانية مع الغرب ليست على وشك أن تُستأنف، فإن السعودية تدرك تماما إصرار طهران في سيرها نحو النووي، وبالتالي هذا يعني أن احتمال الخيار العسكري من قبل إسرائيل ضد طهران بات الأكثر ترجيحا، وهذا سيكلّف الأطراف الكثير اقتصاديا وسياسيا، وربما بشريا، وقد يؤدي إلى مزيد من التشرذم وتفاقم الوضع في المنطقة.

ثمة شكوك من أن بكين قادرة على إتمام الاتفاقية التي هي رهن تغير السلوك الإيراني، حيث اقتصار أنشطتها في الشرق الأوسط على الجانب الاقتصادي قد يفشل هذه الاتفاقية، وهذا ما سيؤدي حينها إلى زعزعة العلاقات بين هذه الأطراف الثلاثة أكثر، بل وقد يولد مشاكل أكثر تعقيدا في المنطقة، خاصة إذا ما فُشل مشروع “الطريق والحزام”، الأمر الذي سيترتب عليه آثار جمّة ولكل الأطراف، وفق القصاص.

ما يُزيد من حجم الشكوك في قدرة بكين على إدارة الاتفاقية وإنجاحها، هو تقرير “بلومبيرغ” الأميركية، الذي قال إن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، تبرز مقاربة براغماتية لإنهاء الأوضاع التي أمست مهددة لاستقرار الأنظمة، وأن هذا الاتفاق الثلاثي يهدف إلى تأمين رؤية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والتي تقدر بمليارات الدولارات، خاصة بعد رفض واشنطن للطلب السعودي المتكرر حول حصوله على دعم بشأن تطوير برنامج نووي سلمي ومدني، والحصول على ضمانات تتصل بإمدادات السلاح مستقبلا، ومن ثم، تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فإن وساطة بكين، في كافة الأحوال، لا يمكن اعتبارها استدارة سعودية لواشنطن.

الرياض قد أبلغت الإدارة الأميركية بجهود الصين وترتيبات الاتفاق الثلاثي، وذلك بحسب مسؤولين أميركيين تحدثوا إلى موقع “أكسيوس“. بل إن الأطراف السعودية المنخرطة في المحادثات مع الإيرانيين كانوا مترددين في البداية من الاتفاق مع إيران، وقد اتصلوا بالبيت الأبيض قبل يوم من الإعلان عن الصفقة، وقالوا إنهم على وشك التوصل إلى اتفاق.

واشنطن من جانبها رحبت واعتبرت هذه بمثابة معاهدة سلام بقدر ما هي عودة إلى الوضع السابق قبل عام 2016، وأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا ترى مشكلة مع محاولة الصينيين تهدئة التوترات بين السعودية وإيران طالما أنها لا تتعلق بالتعاون العسكري أو التكنولوجي.

بمعنى أن الاتفاقية تنسجم مع التوجهات الأميركية نحو إرساء السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ورغم ذلك، تُعتبر واشنطن أهم شريك أمني لدول المنطقة، وأن القوى الأخرى لا تستطيع ملء هذا الفراغ. ولهذا فإن الاتفاقية جوهرها اقتصادي، يُستفاد منه بكين وطهران قليلا في بادئ الأمر، خاصة وأن العقوبات الغربية تقيّد من العلاقات الاقتصادية بين الرياض وطهران، لذلك فإن سياسة الخداع الإيرانية أو عملية التفاف ومراوغة إن صح التعبير التي تمارسها مع بكين ودول أخرى ستأخذ مجراها في المستقبل المنظور مع السعودية أيضا، وهذا ما قد يلحق خسائر بالسعودية وراعية هذه الاتفاقية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.