بعض المحددات التي قد تبلور نظرية سياسة الرئيس السوري، بشار الأسد، في تشكيل حلفائه، تُظهر أنه دائما يلعب في فلك متغير ومتقلب، فالأسد قد يتخذ قرارات غير متوقعة أو متناقضة، بحسب تقييمه للمواقف والفُرص والتحديات التي يواجهها، بعيدا عن أي تحالف متين، فالصداقة بالنسبة له تحكمها المصالح وليست الأيديولوجيا.

إن إعلان “الحوثيين” عن فشلهم في التمثيل الدبلوماسي في سوريا يكشف عن تصاعد التوترات والخلافات بين الجانبين، ويشير إلى أن هناك تحوّلا جذريا في علاقتهما، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيكون هذا التحول بدايةً لمزيد من التوترات في المنطقة، أم أنه سيترك الباب مفتوحا لتطبيع العلاقات بين دمشق والسعودية؟

ما لم يخطر ببال زعيم الجماعة اليمنية، عبد الملك الحوثي، أن الحفاظ على السلطة والنظام، هو الهدف الأول والأساسي للأسد، وهو ما يدفعه إلى البحث عن حلفاء قادرين على دعمه عسكريا وسياسيا واقتصاديا في مواجهة المعارضة الداخلية والضغوط الخارجية، وفي هذا الإطار، يبرز دور إيران وروسيا كأبرز حلفاء الأسد، فضلا عن “حزب الله” اللبناني، وبعض الميليشيات العربية والإسلامية.

“الموضوع يشكل فاجعة”

إذا كان هناك من يعتقد أن خطاب الأسد بالقمة العربية التي عُقدت في جدّة السعودية في أيار/مايو الفائت، عن نظرية “الأحضان والانتماء” بأن الأولى عابرة فيما الثانية دائمة، بمعنى أن التنقل بين الأحضان لا يعني التخلي عن الانتماء، هي رسالة عرضية، فهذا غير صحيح، بل هي لفته سياسية واضحة جدا للقادة العرب، مفادها أن سوريا جزء من أي منظومة تقدّم لها الدعم مشروطا ببقاء سلطته.

مدير وزارة المالية التي تشرف عليها ميليشيا “الحوثي” بصنعاء، خالد العراسي، قدّم اعترافا مثيرا، أمس الأربعاء، حيث أكد أن السلطات السورية أبلغت جماعته بتفريغ مقر السفارة اليمنية في دمشق، مشيرا إلى أن هذه الخطوة تمثّل فشلا مدوّيا بالنسبة للميليشيا في مجال تمثيلها بالعلاقات الدولية.

ميليشيا “الحوثي”، كانت قد عيّنت في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، عبدالله صبري، سفيرا لها في سوريا، خلفا لسفيرها السابق، نائف القانص الذي قامت بتسميته سفيرا لها بدمشق في آذار/مارس 2016، كأول سفير للميليشيات في دولة خارجية.

القيادي في جماعة “الحوثي”، أفاد بأن القرار بإغلاق السفارة اليمنية في دمشق صدر من السلطات السورية قبل أربعة أيام، وتم تنفيذه بعد انقضاء فترة الحِداد على ضحايا تفجير “الكلية الحربية” في حمص، وأكد أيضا في منشور نشره على صفحته الشخصية في “فيسبوك”، أن هذا القرار ليس بالأمر السهل والعادي، وأنه يمثّل حدثا مأساويا بسبب الفشل الواضح في تحقيق التمثيل الدبلوماسي.

السفير اليمني لدى المغرب، عز الدين الأصبحي، لفت إلى أن السلطات السورية طالبت بما وصفهم “منتحلي الصفة الدبلوماسية” لجماعة “الحوثيين” بترك المبنى الدبلوماسي اليمني، وهذا القرار جاء نتيجة للتواصل الأخير بين وزير الخارجية في الحكومة اليمنية، أحمد بن مبارك، ونظيره السوري، السيد فيصل المقداد، في القاهرة يوم 9 أيلول/سبتمبر الماضي على هامش اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، وهو اللقاء الأول بين وزراء خارجية البلدين منذ ما يقارب الـ12 عاما، وتحديدًا منذ عام 2011.

موفدو ميليشيا “الحوثي” بما في ذلك ياسر المهلهل، ورضوان الحيمي، ومعتز القرشي، وعمار إسماعيل، بدأوا بعمليات إخلاء السفارة، وقاموا بنقل محتوياتها رغم توجيهات السلطات السورية بعدم التلاعب بأي من أجهزتها أو ممتلكاتها الدبلوماسية أو سياراتها.

حلف الميثولوجيا والعمائم

في السياسة لا حليف دائم، ولا عدو دائم، بل هناك مصالح دائمة، هذه المقولة تعبّر عن حقيقة مهمة في عالم السياسة، وهي أن العلاقات بين الدول تتحدد بحسب المصالح المشتركة أو المتضاربة، وليس بحسب المشاعر أو الأفكار؛ لذلك، قد نجد تغيرات كبيرة في مواقف الدول تجاه بعضها البعض، بحسب التطورات والظروف التي تواجهها. 

مثال على ذلك هو حالة بشار الأسد وجماعة “الحوثي”، فكلاهما يحظى بدعم من إيران، التي تعتبر نفسها قائدة “محور المقاومة” ضد إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما في المنطقة؛ لذلك، قد يظن البعض أن الأسد و”الحوثي” هما حلفاء دائمون، وأنهما يتشاركان نفس الرؤية والأهداف.

لكن هذا ليس صحيحا تماما، فالأسد لا يتفق أيديولوجيا مع “الحوثي”، ولا يرى فيهم شركاء حقيقيين في المشروع الإيراني، بل إن اعترافه بهم كان فقط لمناكفة السعودية ودول الخليج ردّا على دعمهم للمعارضة السورية، وطرد دمشق من جامعة الدول العربية، وأيضا إرضاءً لإيران تحت بند “محور المقاومة”.

وفي ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة، خصوصا مع عودة العلاقات العربية السورية، وطرح مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، وجد الأسد نفسه في موقف صعب، يضطر فيه إلى الاختيار بين حلفائه التقليديين وخصومه المحتملين، لذلك أصدرت السلطات السورية قرارا بإغلاق سفارة ميليشيا “الحوثي” في دمشق، وإخلاء ممثّليها منها، وهذا القرار يعكس تغيّرا في موقف الأسد تجاه “الحوثي”، ورغبته في التقارب مع السعودية، التي تعتبر “الحوثي” عدوا لها ولأمنها القومي.

أيضا ووفقا لنظرية حلف الميثولوجيا والعمائم، فإن الأسد وجماعة “الحوثي” هما أساس حلف صوري مغشوش، يتحالفان مع إيران لأسباب مصلحية، ولكنهما يتصارعان على النفوذ في المنطقة، كما أنهما يتجاهلان معاناة الشعب الفلسطيني، وهذا يجعلهما جزءا من المشكلة، وليس من الحل.

لكن، هل يعني هذا أن الأسد سيخون حليفه “الحوثي” وينحاز للسعودية، هذا بحسب حديث الصحفي اليمني، محمد الدميني، لا يمكن الجزم به، فالأسد قد يلعب لعبة معقدة، يحاول فيها استغلال المصالح المتبادلة بين الأطراف المختلفة، والحفاظ على خياراته مفتوحة. 

الأسد وفق تقديرات الدميني، يعلم أن السعودية لا تثق به، ولا تنسى دوره في الوقوف ضدها وتقديم الدعم لعناصر “الحوثي” بإنشاء معسكرات لهم في سوريا، وأن إيران لا تتخلى عنه، ولا تسمح له بالانفصال عن محورها، لذلك، قد يكون الأسد يسعى إلى تحسين علاقاته مع السعودية، دون أن يفقد علاقاته مع إيران، وإلى تخفيف ضغط “الحوثي” عليه، دون أن يقطع علاقاته معهم.

وهذا هو جوهر السياسة، فلا حليف دائم، ولا عدو دائم، بل مصالح دائمة، والأسد هو سياسي يجيد التلاعب بالمصالح والظروف، والتكيف مع التغيرات، لكن هذا لا يضمن له البقاء أو النجاح في المستقبل، فالسياسة مجال متغير ومتقلب، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث غداً، حسب وصف الدميني.

التحوّل الأيديولوجي للأسد

قطعا تُعتبر العلاقة بين التحوّل الأيديولوجي للأسد وما حدث منذ عام 2011 موضوعا ليس بالمعقد والمتشعب، فالأسد قام بتغيير مواقفه وسياساته تجاه بعض الدول والقضايا في المنطقة، استجابة للتحديات والفرص التي أحدثتها الأزمة السورية، وهذا التغيير كان محاولة للحفاظ على السلطة والنظام في سوريا، والتكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية.

 بعد وفاة والده حافظ الأسد في عام 2000، وتوليه السلطة، سعى بشار ليكون ممثلا لجيل جديد من القادة، أكثر تعليما وانفتاحا على العالم، وأطلق ما سُمِّي بـ”الانفتاح الدمشقي”، وهو حركة إصلاحية تهدف إلى تحديث النظام السوري وتطوير الاقتصاد والمجتمع، ومن أبرز مظاهر هذا التحوّل هو التقارب مع تركيا وفرنسا والسعودية والإمارات، وخفض علاقاته مع إيران ولبنان.

في بداية عهده، كان الأسد يسعى إلى تحسين علاقاته مع تركيا، التي كانت تمثل شريكا اقتصاديا وسياسيا مهما لسوريا، كما كان يحاول التخفيف من التوتر مع إيران، التي كانت تدعمه عسكريا وماليا، لكنه لم يشارك في مشروعها الإقليمي.

لكن بعد اندلاع الاحتجاجات في عام 2011، انقلبت الموازين، فالأسد اعتمد بشكل كبير على إيران و”حزب الله” اللبناني وجماعة “الحوثي” وروسيا، لقمع الانتفاضة المدنية ضده، وعاد بدوره كجزء من “محور الممانعة”، بينما تحولت الدول العربية من حليف إلى عدو.

أيضا التغيير في موقفه من قضية فلسطين كان الأبرز، فقبل عام 2011، كان الأسد يدَّعِي أنه من قادة “المقاومة” ضد إسرائيل، وأنه يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، كما كان يدعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، مثل “حزب الله” و”حماس”، لكن بعد هذا التاريخ، أصبح الأسد يستخدم قضية فلسطين كذريعة لتبرير قمعه لشعبه، واتهام خصومه بأنهم عملاء لإسرائيل والغرب، كما أصبح يستخف بالشعور الفلسطيني تجاه مجزرته في سوريا، ويرفض أية مبادرات سلام مع إسرائيل.

اليوم وبعد إعلان وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع نظرائهم في دول الاتحاد الأوروبي على دعم العملية السياسية في سوريا، بما يتماشى مع القرارات الدولية وقرار مجلس الأمن الدولي “2254”، مؤكدين دعمهم لجهود لجنة الاتصال العربية للوصول إلى حلّ تدريجي، وتعليق السعودية لتسمية السفراء بين البلدين، يبدو أن الأسد قرر طرح ورقة الاستغناء عن “الحوثي” التي لا تقدم له سوى بند المتاجرة والتفاوض مع الرياض.

خطوة الأسد في هذا الأسبوع، تأتي بعد  إعلان تعليق اجتماعات اللجنة لعدم تجاوب دمشق مع “خريطة الطريق” التي رسمتها لإعادة “تطبيع” العلاقات العربية – السورية، فمنذ حضور الأسد، اجتماعات القمة العربية، وما تلا ذلك من لقاءات رسمية جانبية، وصولا إلى الاجتماع الأول لـ”لجنة الاتصال العربية” في القاهرة، آب/أغسطس الماضي، لم يطرأ أي جديد على الملفات الثلاثة التي شكّلت أساس الانفتاح العربي على دمشق.

الوزراء خلال الاجتماع الـ27 للمجلس المشترك لدول الخليج العربي والاتحاد الأوروبي في العاصمة العُمانية مسقط، الذي عُقد يومي 9 و10 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أكدوا التزامهم بالتوصل إلى حلّ سياسي شامل للأزمة السورية، يحافظ على وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها ويلبي تطلعات شعبها ويتوافق مع القانون الإنساني الدولي، ويتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي “2254”.

في النهاية، يبدو أن الأسد اتخذ خطوة الطعن في الظهر للحلفاء غير المهمّينَ بالنسبة له، بسبب الاستعصاء السياسي في العملية السياسية، ودفعه لإيجاد أساليب وطرق يستطيع من خلالها حلحلة الأمور، وكان أولها ورقة “الحوثي” التي كانت خطوة رمزية لابتزاز السعودية، خصوصا أن الأسد وعبد الملك الحوثي، لا يتفقان أيديولوجيا أو ميثولوجيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات