بعد 12 سنة من الحرب، لم تتحقّق أي حلول شاملة أو دائمة لإنهاء الصراع وإعادة الاستقرار والسلام إلى سوريا والمنطقة، وفي هذا السياق، يبرز دور “الجامعة العربية” كمنظمة إقليمية تضم 22 دولة عربية، بما في ذلك سوريا، التي تم تعليق عضويتها في عام 2011، حيث شهدنا بعض التحوّلات في المواقف العربية تجاه سوريا، وبدأت بعض الدول في التحرك نحو استعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع دمشق، والدفع نحو إعادة انضمامها إلى “الجامعة” العربية،  وهذه التحركات تعكس رغبة بعض الدول العربية في إعادة تأسيس نفوذها ومصالحها في سوريا، والتعامل مع التحديات الأمنية والإنسانية الناجمة عن الحرب.

لكن الأحداث الجارية المتعلقة بسوريا، خصوصا الموقف الأردني واللبناني، ثم الأوروبي والأميركي، وأخيرا الإماراتي لها أبعاد وتداعيات عميقة على الساحة الإقليمية والدولية، وتجعلنا نستحضر أهمية هذا الموضوع وتأثيره على مستقبل المنطقة؛ بدءا بتساؤلات حيوية تحتاج إلى إجابات واضحة، هل نحن على أعتاب عودة خلافات سوريا إلى الواجهة الإقليمية، وهل يُعتبر تعليق الاجتماعات مع دمشق خطوة استراتيجية أم مجرد مناورة سياسية تُستغل في الحسابات الدولية.

مواقف غير مشجعة

التحولات السياسية نحو سوريا ما تزال تتوالى يوما بعد يوم، بدءا من تصريحات الملك الأردني عبد الله الثاني، على هامش الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي ذكر فيها أن الرئيس السوري بشار الأسد، لا يستطيع بسط سيطرته على جميع البلاد، إلى الإعلان غير المشجع من مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسن، خلال جلسة الإحاطة بمجلس الأمن، أمس الأربعاء، حيث بيّن أن المسار السياسي في سوريا لا يزال متوقفا.

إعلان بيدرسن تزامن مع مواقف أخرى، إذ لفت المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات أنور قرقاش، إلى أن سوريا يجب أن تُظهر توجّها لمعالجة بعض القضايا، وهذا لن يكون إلا بدور وقرار عربي، في حين قال رئيس اللجنة العسكرية لقيادة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الأدميرال روب باور، في إطار زيارة غير معلنة المُدّة، إن الحلف سيقوم بكل ما بوسعه لدعم أمن الأردن.

هذه التطورات ليست محدودة في نطاق سوريا فقط، بل إنها تمتد لتشمل دور العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك الصين وروسيا وتركيا وإيران، فمع تواصل التحركات العربية التي تدور في فلك “المبادرة الأردنية” المطروحة للحل في سوريا، هناك مؤشرات توحي بعدم وجود تقدم ملموس في هذا الصدد على الأرض، وهذا أدى إلى تعليق اجتماعات اللجنة الوزارية التابعة لـ “جامعة الدول العربية”، التي تم تشكيلها للإشراف على “التطبيع” مع حكومة دمشق، بحسب تقارير لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، ووكالة أنباء “ريا نوفوستي”.

ما يتبادر للأذهان بعد هذه السلسلة من المواقف الدولية والإقليمية، هو سؤال عن انتهاء صفحة المصالحة العربية مع سوريا، أم أن هذا مقدمة لخط استراتيجي جديد، خصوصا أن قرقاش، أشار إلى أنه ليس هناك حلّ سحري، لكنها مسألة مؤسسات وممارسات، وأن الدور العربي لن يكون فاعلا على نحو مفاجئ، بل يحتاج إلى وقت.

المشترك في مواقف هذه الدول شيء واحد هو المخدرات، حيث أعلنت الأردن إحصائية مفزعة عن عملياتها خلال عام 2023 بتسجيل 88 حالة طيران مسيّر على واجهات المناطق العسكرية المختلفة، و98 عملية تسلل مضبوطة، فيما أعلنت الإمارات، الاثنين الفائت، عن إحباط أكبر عملية تهريب مخدرات على مستوى العالم، بواقع 13 طنا من أقراص “الكبتاغون” المخدرة، موزعة في 5 حاويات، قيمتها السوقية تجاوزت 3 مليارات درهم.

بالنسبة للدول العربية لا يُفهم من دمشق صمتها حول عمليات التهريب، إذ يفسر بعضهم أن هذه العمليات هي مصدر الدعم لحكومة دمشق التي تعاني من ضائقة اقتصادية في ظل التزاماتها أمام إيران وروسيا وميليشياتهما داخل البلاد، وذلك بناءً على التقارير والتحقيقات التي أثبتت ذلك، فيما آخرون يرون أن سوريا باتت خارج سلطة الحكومة الحالية، ومن يتحكم فيها هم البارونات التي أنتجتها تحالفات دمشق مع طهران وموسكو وبيلاروسيا، وبعض الحركات العربية.

 بداية النهاية؟

وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، حضر اجتماعين في العاصمة الأردنية عمان في وقت سابق من هذا العام، وأدى ذلك إلى إصدار بيان عمان، الذي تناول بالتفصيل سلسلة من الإجراءات “خطوة بخطوة” التي ستتخذها سوريا والدول العربية لـ “تطبيع” العلاقات، وفقا لما ورد في بيان عمان، مع قرار الأمم المتحدة رقم “2254” الذي يدعو إلى انتقال سياسي في سوريا.

“الجامعة العربية” طلبت من سوريا إطلاق سراح السجناء السياسيين وضمان العودة الآمنة للاجئين، والسماح بدخول المساعدات إلى كافة المناطق السورية والحدّ من تهريب المخدرات إلى الأردن.

مع ذلك، اشتكى وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، مؤخرا من أن تهريب المخدرات من سوريا قد زاد بالفعل منذ الاتفاق، وأضاف الصفدي أن الأردن ما زال ينتظر رد حكومة دمشق على المقترحات التي قدمها لإنهاء الصراع السوري.

المحلل السياسي الروسي المختص بشؤون الشرق الأوسط، فاتسلاف ماتوزوف، أوضح أن تعليق الاجتماعات مع دمشق قد يكون جزءا من مناورة سياسية للضغط على دمشق لإظهار مرونة وتعاون أكبر في المسار السياسي، ولكنه قد يعكس أيضا خيبة أمل وإحباط من قبل الدول العربية التي كانت تسعى لـ “تطبيع” العلاقات مع سوريا، فقد أظهرت الدول العربية استعدادا لإعادة سوريا إلى “الجامعة العربية” والمشاركة في إعادة الإعمار وحل الأزمة الإنسانية، شريطة أن تلتزم سوريا بالقرار الأممي “2254” والتّوقف عن انتهاكات حقوق الإنسان وتهريب المخدرات. 

لكن بحسب حديث ماتوزوف، فإن الحكومة السورية لم تبدِ أي تقدّم في هذه المجالات، وبدلا من ذلك استمرت في الاعتماد على الحل العسكري والدعم الروسي والإيراني، مما أثار غضب واستياء الدول العربية، وخاصة الأردن والإمارات، التي تعرضت لتهديدات أمنية من قِبل دمشق أو حلفائها.

إعلان بيدرسن عن توقف المسار السياسي في سوريا يرجع بحسب ماتوزوف إلى عدة أسباب، منها عدم التزام حكومة دمشق بالمفاوضات الجادة والبنّاءة مع المعارضة السورية في إطار اللجنة الدستورية، ورفضها الدخول في أي حوار حول الانتقال السياسي أو مصير الأسد أو الانتخابات الحرة والنزيهة.

أيضا يرجع ذلك، لعدم وجود ضغط دولي كافٍ على دمشق لإجبارها على الالتزام بالحل السياسي، وخاصة من قِبل روسيا وإيران، التي تدعمانها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وتعتبرانها حليفا استراتيجيا في المنطقة، فضلا عن عدم وجود تنسيق وتعاون بين الدول الغربية والعربية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، ووجود خلافات وتنافس بينها حول الأهداف والمصالح والأدوار في سوريا، مما يفتح المجال للتدخلات الخارجية والتصعيدات العسكرية والأمنية.

هل تعود العلاقات إلى نقطة الصفر؟

يمكن تفسير تصريح المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات حول دور وقرار عربي في حلّ القضايا السورية بأنه يعبّر عن رؤية الإمارات للتواصل السياسي والانفتاح والحوار مع دمشق، والتأكيد على أهمية الدور العربي في الملف السوري، والتشجيع على اتخاذ خطوات شجاعة لترسيخ الاستقرار والازدهار في المنطقة، كما يمكن أن يعكس تصريحه توجه الإمارات الرامي إلى خفض التوترات وتعزيز الدور العربي لإيجاد حلول لأزمات المنطقة.

لكن بحسب تقديرات ماتوزوف، فإنه لا توجد مؤشرات واضحة تشير إلى تراجع ملموس بجهود الحل في سوريا، بل على العكس، هناك مؤشرات إيجابية تدل على تقدم في هذا الاتجاه، مثل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين، وزيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى مصر، واجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وتبني قرار استعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية.

لكن في المقابل، فإن العوامل التي أدت إلى تعليق اجتماعات اللجنة الوزارية مع ممثلي سوريا هي عدم تجاوب الحكومة السورية مع الملفات التي حملتها المبادرة العربية للحل في سوريا، وفي مقدمتها مكافحة تهريب “الكبتاغون” وصناعته، وعودة اللاجئين، والانخراط في الحل السياسي. 

كما أن الرئيس السوري لم يقدّم التسهيلات الأمنية والسياسية المطلوبة لوقف تصدير الممنوعات، وبسط سيطرته على أراضيه، واستقبال اللاجئين، وكان في ذات الوقت قد هاجم “الجامعة العربية” وأبدى عدم اهتمامه بالتعامل بإيجابية مع مبادرتها، خلال مقابلته الأخيرة مع قناة “سكاي نيوز عربية”.

مع ذلك، لا يمكن القول بأن هذا التطور يشير إلى نهاية محتملة لعملية المصالحة مع سوريا، بل يرى المحلل الروسي، أنه يمكن اعتباره مرحلة من التوتر والتجاذب بين الدول العربية وسوريا، والتي قد تفضي إلى تعديل أو تحسين المواقف والسياسات في المستقبل، فالدول العربية لا تزال مهتمة بالحفاظ على العلاقات مع دمشق، وبالمساهمة في حل الأزمة السورية بما يحقق المصالح المشتركة والأمن والاستقرار في المنطقة؛ ولكن هذا يتطلب من أن تُظهر الحكومة السورية مرونة وتعاون أكبر مع الجهود العربية والدولية.

هذه التطورات بلا شك قد تؤثر سلبا على الوضع في سوريا وعلى الشعب السوري نفسه، إذا استمرت الخلافات والتوترات بين الدول العربية والحكومة السورية، وإذا لم يتم تحقيق أي تقدم في المسار السياسي أو الإنساني، فهذا قد يزيد من العزلة والحصار على سوريا، ويقوّض فرص الإعمار والتنمية والمصالحة الوطنية، ويزيد من المعاناة والبطالة والفقر والنزوح للشعب السوري؛ ولذلك إذا لم تستجب حكومة دمشق لمطالب ومبادرات الدول العربية، والعمل على تحسين العلاقات معها، فلن تكون هناك سُبل لإيجاد حلول سياسية وإنسانية شاملة ودائمة للأزمة السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة