في خضم المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة وتعدد العلاقات الاستراتيجية وتشابك المصالح، تم الإعلان مؤخرا عن مشروع الممر الاقتصادي “ممرات خضراء” خلال قمة مجموعة العشرين، والذي يربط جنوب آسيا وأوروبا عبر الخليج العربي والشرق الأوسط وهو ما يعتبر تطورا استراتيجيا مهما في الخرائط السياسية والاقتصادية العالمية.

يعتبر هذا الاتفاق التاريخي الذي خرجت به القمة الدولية والتي اختتمت يوم السبت الماضي في نيودلهي، أول اتفاق استراتيجي في تاريخ قمم مجموعة العشرين، حيث يهدف المشروع الضخم إلى تنمية اقتصادية عالمية من خلال تعزيز التواصل بين الدول الفاعلة، في حين يرى الخبراء أنها خطوة لمواجهة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.

مما يثير العديد من التساؤلات حول أهمية وأهداف مشروع “الممرات الخضراء” العابرة للقارات، وكيف ستستفيد دول الشرق الأوسط، وخاصة دول الخليج، من هذا المشروع النوعي، وفيما إذا يعتبر تحديا لمشروع “الحزام والطريق” وتداعياته على النفوذ الصيني في المنطقة.

أهمية مشروع الممرات الخضراء

على هامش قمة مجموعة العشرين، أعلن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء، عن تطوير ممر جديد طموح للنقل بالسكك الحديد وعبر البحر يربط الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وذلك في حضور رئيس القمة ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد.

قمة مجموعة العشرين- “وكالات”

بن سلمان أردف في سياق ذلك أن هذا المشروع هو “تتويجا لجهودنا المشتركة على مدى الأشهر القليلة الماضية”، وهو مبني على مبادئ تحقق المصالح المشتركة من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي والتأثير الإيجابي لدى شركائنا في الدول الأخرى والاقتصاد العالمي ككل.

كما أن المشروع سيوسع الخطوط الخاصة بالكهرباء وتجارة الهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمية، إضافة إلى كابلات نقل البيانات العالية الكفاءة والموثوقة عبر الحدود. ويكمل أحدث مشروع للنقل والاتصال الرقمي خطط التكامل الإقليمي القائمة، بما في ذلك مشروع السكك الحديد الذي يربط بين دول “مجلس التعاون الخليجي”.

البيت الأبيض، قال في بيان، إن هذا الممر التاريخي، سيُدخل الدول القائمة عليه في عصر جديد من الاتصال من خلال السكك الحديدية، المرتبطة عبر الموانئ التي تربط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

فالولايات المتحدة وشركاؤها مصرون على ربط القارتين بمراكز تجارية، لأن هذا شرط أساسي لتسهيل تطوير وتصدير الطاقة النظيفة كجزء من الجهود المشتركة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ودمج جوانب الحفاظ على البيئة، ومد كابلات تحت البحر وربط شبكات الطاقة وخطوط الاتصالات لتوسيع نطاق الوصول الموثوق إلى الكهرباء.

عبر هذا الممر الاستراتيجي، ستنتعش التجارة والتصنيع الحاليين، ويتعزز الأمن الغذائي وسلاسل التوريد. وسيطلق العنان لاستثمارات جديدة، وفق ما يقول بيان “البيت الأبيض”. الممر يهدف أيضا إلى تعميق الروابط الاقتصادية والسياسية بين دول شريكة. ويضم المشروع ممرين؛ شرقي بين الهند والخليج العربي. شمالي بين الخليج وأوروبا.

يرى الباحث والمحلل في الاقتصاد السياسي الدكتور عبد السلام القصاص أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تسعى منذ فترة إلى إقامة العديد من الشراكات والاتفاقيات الاقتصادية الضخمة، من أجل تحقيق العديد من المصالح المشتركة والاستراتيجية في ظل تزايد الجهود التي تبذلها الصين تجاه العديد من دول العالم.

كما يؤكد القصاص في حديثه لموقع “الحل نت” على أهمية مشروع الممر الاقتصادي باعتباره يعزز التجارة وسلاسل التوريد ونقل الطاقة والاتصالات الرقمية. كما تعمل على تسريع التبادل التجاري بين الشرق والغرب، حيث تشير بعض التقديرات إلى أنها ستوفر مسافات كبيرة ذات أبعاد كبيرة بين القارات.

إضافة إلى ذلك فإن المشروع الاستراتيجي سيعزز تقارب وجهات النظر السياسية في المنطقة، كما أن مردوده التنموي سيؤدي إلى رفع مستوى اقتصاد البلاد وخاصة التي تعاني من أزمات اقتصادية وبالتالي تقليل حدة الصراعات والنزاعات. وسيحث الدول المعنية على تظافر الجهود والتعاون من أجل إنجاح مشروع “الممرات الخضراء” بغية استفادة الجميع منه.

المشروع ليس فقط ذات أهمية اقتصادية فحسب، بل تكتسب أهمية سياسية أيضا، خاصة وأن هناك توافقا في وجهات النظر حول العديد من القضايا والملفات بين دول مجموعة العشرين، على عكس الخلافات الموجودة بين دول “البريكس” والدول التي تتعامل معها الصين ووقعت شراكات ضمن مشروعها “الحزام والطريق” أو ما يعرف بـ”طريق الحرير”، بحسب تحليل القصاص.

الأطماع الصينية تضعها في “الفخوخ”

لعل الطموحات الصينية في جعل نفسها كواحدة من القوى العظمى عالميا من خلال إقامة سلسلة من المشاريع التي تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات في مناطق مختلفة من العالم، ولا سيما مبادرة “الحزام والطريق”، جعلتها تواجه الغرب، وهو ما لا تستطيع بكين مجابهته، وفق وجهة نظر الباحث في الاقتصاد السياسي.

القصاص يعتقد أن مشروع الممر الاقتصادي سيكون أحد التحديات الكبرى التي تواجه مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وإن كان البعض يراها مكملا وليس منافسا أو تحديا، إذ لم تتضح شروط المشروع كاملة بعد، بالإضافة إلى أن الدول لا تستطيع ضخ أموال ضخمة في عدة مشاريع.

الرئيس الصيني زار السعودية في ديسمبر 2023-“أ ف ب”

لذلك، إذا كانت “الممرات الخضراء” ستحقق التنمية المستدامة والبنية التحتية والاستثمارات الاقتصادية الكبيرة، وتدعم الابتكارات في تكنولوجيا الطاقة النظيفة المتقدمة، وتنعش التجارة والتصنيع الحاليين، وتعزز الأمن الغذائي وسلاسل التوريد، وهو ما يميزها كمشروع استراتيجي، خاصة وأن الدول عموما تثق بالسوق الأميركية والأوروبية وبعملة الدولار، وبالتالي فإن مستقبل المشروع الصيني سيكون مشكوك في نجاحه، طبقا للقصاص.

هذا واعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن، أن هذا المشروع عصر تواصل جديدا، لكن خبراء يرون أنه تحد جدي تضعه الولايات المتحدة وحلفاؤها أمام مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.

بكين كانت قد أطلقت، قبل نحو 10 سنوات، مشروع “الحزام والطريق” ببنية تحتية قدرت قيمتها بنحو تريليون دولار، بهدف ربط الصين ببقية العالم، لكن يبدو أن المنافسة ستكون شديدة، وربما لم تتوقعها الصين.

تشمل خطة بايدن، التي أُعلن عنها في قمة مجموعة العشرين في الهند، الاتحاد الأوروبي وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. وتظهر الخطة الطموحة أن الولايات المتحدة يمكنها الاعتماد على حلفائها في الشرق الأوسط في جهودها لاحتواء صعود الصين.

استراتيجية “التوازن”

بايدن متحمس للمشروع خاصة أنه سينفذ مع حلفاء مثل السعودية التي توترت علاقته فيها منذ توليه الرئاسة، وقبل أن يزور المملكة لتلطيف الأجواء، والإمارات التي تحافظ على توزان حذر في العلاقة الاقتصادية بين العملاقين، أميركا والصين، وفق تقرير لموقع “الحرة”.

الباحث السياسي يرى أن رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 تتطلب منها الدخول في اتفاقيات وشراكات ضخمة من أجل تحقيق أهدافها، وتسعى المملكة اليوم بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان إلى الحظي بموقع ومكانة بارزة على خريطة العالم سواء كانت اقتصادية أو سياسية، وهو ما ظهر جليا مؤخرا من خلال التحركات السعودية الأخيرة على المستويين الإقليمي والدولي.

من الواضح أن مشروعي “الممرات الخضراء” و”الحزام والطريق” سيدخلان مرحلة تنافس محمومة خلال الفترة المقبلة.

خاصة وأن حكومتا السعودية والولايات المتحدة وقّعتا عقب القمة مذكرة تفاهم لوضع بروتوكولٍ يسهم في تأسيس “ممرات خضراء” عابرة للقارات، بحسب ما نقلته “وكالة الأنباء السعودية” (واس). واعتبر الرئيس جو بايدن أن المشروع سيغيّر قواعد اللعبة ويشكل خطوة هائلة إلى الأمام، بحسب كلمته خلال القمة.

كان نائب مستشار الأمن القومي الأميركي جوناثان فاينر قد قال للصحافيين يوم السبت الماضي في نيودلهي في اليوم الأول للقمة، إن الخطة هي أكثر من مجرد مشروع للبنية التحتية، من دون أن يعطي جدولا زمنيا لاستكمالها، رافضا الفكرة التي تفيد أن المشروع مرتبط بمواجهة النفوذ الصيني في الأسواق الناشئة.

من الواضح أن مشروعي “الممرات الخضراء” و”الحزام والطريق” سيدخلان مرحلة تنافس شديد خلال الفترة المقبلة، ويرى القصاص في هذا السياق أن مشروع الممر الاقتصادي سيحظى بالصدى والقبول الأكبر، عازيا ذلك إلى أن المشروع الجديد يتضمن نقاطا استراتيجية مهمة ويؤسس لمراحل شراكة أعمق وأوسع بين الغرب والشرق، وهو ما يفتقده مشروع “الحزام والطريق” الذي لم يحقق نتائج كبيرة حتى الآن.

صحيح بكين زعمت خلال الشهر الماضي إنها وقعت على مر السنين وثائق تعاون لمبادرة “الحزام والطريق” مع أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية، إلا أن خطتها واجهت عدة مشاكل، بما في ذلك نقص التمويل، وبعض المعارضة السياسية، مما أدى إلى توقف بعض المشاريع.

تدعيما لهذه الفرضية، هو حديث الرئيس جو بايدن حين قال خلال قمة مجموعة العشرين إن الاتفاق الذي تم الإعلان عنه في القمة يعتبر “صفقة كبيرة”، مضيفا إن العالم يقف عند نقطة انعطاف في التاريخ وأن الاستثمار في الخطة اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.

مواجهة الأطماع الصينية والروسية

في الإطار ذاته، تقول، سينزيا بيانكو، الزميلة الزائرة في مركز أبحاث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، في حديث لشبكة “سي إن إن” الأميركية، إنه من المحتمل ألا يكون هناك حجم تجارة كاف في المنطقة لجعل مشروع “الممرات الخضراء” ومشروع الصين قابلين للتطبيق في نفس الوقت. وأضافت أن جوهر الأمر هو أنها بديل لـ”مبادرة الحزام والطريق” الصينية.

بيانكو تعتقد أن الشركاء في الممر التجاري الجديد لديهم أيضا الأموال والإرادة السياسية اللازمة لتحقيق المشروع في وقت كاف، ليكونوا قادرين على تحدي المشروع الصيني، فيما تقول صحيفة “ووال ستريت جورنال” الأميركية إنه من شأن ممر العبور الجديد أن يعزز العلاقات بين واشنطن والرياض، التي توترت بسبب قضايا تشمل حقوق الإنسان وسياسة النفط. وتسعى دول الخليج إلى خلق سياسة توازن مع يحقق مصالحها الوطنية، وتريد أيضا أن تبقى محايدة عن الصراعات السياسية التي تجري بين العديد من الدول.

من جانبهم، يرى خبراء في دول الخليج أن الممر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ليس بالضرورة بديلا لـ”مبادرة الحزام والطريق”، بل هو مكمل لها. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء الغربيين أن قرار دول الخليج بالانضمام إلى المشروع الجديد قد يكون مدفوعا أيضا بتباطؤ الاقتصاد الصيني.

هذا وتأتي قمة مجموعة العشرين وإعلان الممر الاقتصادي بعد أسابيع فقط من دعوة السعودية والإمارات ومصر للانضمام إلى مجموعة “البريكس”. واعتبر البعض أن غياب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن قمة مجموعة العشرين ليست سوى محاولة لهز مكانة المجموعة باعتبارها منتدى القيادة العالمية البارز، وبعض المراقبين الهنود يرون أن بكين تريد إفساد الحدث الهندي في وقت تشهد العلاقة بين البلدين احتكاكا ثنائيا بشأن الحدود المتنازع عليها.

يبدو جليا أن السياسة الأميركية في الوقت الحاضر تتحرك في اتجاهات عديدة للحفاظ على مكانتها مع العمل في اتجاه محدد لبناء تحالفات عدة لا تتوقف عند مواجهة مجموعة الـ “بريكس” الراهنة، أو غيرها من التحالفات المحتملة والمشاريع والأطماع التي تسعى إليه الصين وحتى روسيا.

لذلك فإن الإدارة الأميركية لا تقف في مكان واحد منتظرة ما ستفعله أو ما ستتبعه من سياسات في مواجهة المشاريع والأطماع العدائية للصين وروسيا في العديد من المناطق. بل وكأنها بدأت تتبنى مقاربات مرحلية وتبني خرائط سياسية وجيوسياسية جديدة، تكشّفت أولى ثمارها اليوم، وهو إعلان مشروع الممر الاقتصادي الضخم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات