ما إن بدأت ملامح فصل الصيف تلوح في الأفق، حتى بدأ جرس أزمة المياه يدق في العراق، حيث بثت مقاطع فيديوية تم توثيقها لأجزاء من نهري دجلة والفرات، مشاعر الخوف والقلق بين العراقيين، لما يظهر فيها من جفاف مساحات شاسعة، وصل في بعض المناطق إلى حد ظهور قاع النهرين بشكل مجرد، تحديدا في محافظتي ميسان وذي قار جنوبي البلاد.

الأمر الذي أثار الفزع من تفاقم الأزمة خلال فصل الصيف المقبل باعتبار أن الأزمة المتكررة بدأت مبكرا هذا العام، في حين اعتبر مراقبون أن ما يحدث بمثابة جرس إنذار من خطر مقبل قد يكبّد البلاد خسائر فادحة في أراضيه الزراعية، وقد يولّد مشكلات اقتصادية ومناخية وبيئية خطيرة مستقبلا، لاسيما وأن أزمة شح المياه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، قد أَجبرت بعض سكان المناطق الوسطى والجنوبية على اللحاق بركب “هجرة المناخ”، حيث دفعت بعشرات القرى التي تقطنها شريحة واسعة من الفلاحين على النزوح إلى مناطق أخرى، أملا في مستقبل أكثر أمان.

صور متداولة أظهرت عبور مجموعة من المواطنين لنهر دجلة في محافظة ميسان سيرا على الأقدام وممارسة ألعاب رياضية في قاع النهر الذي ظهر بسبب موجة الجفاف، فيما رصد مواطنون تراجع منسوب مياه النهر إلى حدّ غير مسبوق، مع ترسب الأملاح والأتربة في قاعه. الأمر الذي دفع بوزارة الموارد المائية لتصدر تحذير من أن وضع البلاد بات على المحك، وأن الخزين المائي وصل إلى مراحل حرجة، حتى قبل بداية موسم الصيف.

أما في محافظة ذي قار، فقد أظهر فيديو جفاف نهر دجلة وتحديدا من الجهة التي تربط قضاءين زراعيين ببعضهما، حيث وثّق المقطع ظهور دعامات الجسر الرابط بينهما. ما دفع السلطات العراقية إلى عقد اجتماع موسع طارئ لمناقشة تداعيات ملف المياه والمشكلات الناجمة عن شح المياه والتغييرات المناخية، وحضره كلا من وزير الموارد المائية عون ذياب، فيما ترأسه رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد وشارك فيه عدد من ممثلي “الأمم المتحدة” و”البنك الدولي” وبعض السفراء في العراق.

وضع حرج

بعد ذلك، قال وزير الموارد المائية عون ذياب خلال ظهوره في إحدى المحطات المحلية، إن العراق في وضع لا يُحسد عليه وعلى المجتمع الدولي دعمنا بالنسبة لازمة المياه، مبينا أن هناك صراعات قد تحدث بين دول المنبع والمصب، مضيفا أن البلاد تمرّ بوضع صعب ولا يُحسد عليه فيما يخص أزمة المياه، في حين سبق وقال خلال الاجتماع الموسّع إن العراق توصل إلى تفاهم خلال اجتماع عُقد مع وزير الطاقة الإيراني علي أكبر محرابيان حول تبادل المعلومات ونصب محطات قياس على الأنهر الحدودية المشتركة بين البلدين.

أقرأ/ي أيضا: سعي الجزائر لدور قيادي في مالي.. انخراط متزايد وحفاظ على النفوذ؟

ما يجدر ذكره وسط هذا، إن العراق يعتمد على مياه الأنهر الآتية من دول الجوار وهي تركيا وإيران، لا سيما دجلة والفرات بنسبة 70 بالمئة، بينما تشكل مياه الأمطار حوالى 30 بالمئة من ثروته المائية، لكن منذ سنوات يعاني العراق من عدم تأمين حصصه المائية، فيما بدأت الأزمة تتفاقم أخيرا نتيجة ما باتت تُعرف بالـ “الحرب المائية” من قبل تلك الدول التي تبرر سلوكها بأن الجانب العراقي لم يشرّع في بناء السدود وتحديث طرق الري لضمان احتياجاته من المياه.

بحسب وزير الموارد المائية، أن مياه دجلة والفرات كانت تأتي جميعها الى العراق ولكن بعد عام 1979 بدأت تركيا بإنشاء السدود وآخرها سد “اليسو” على نهر دجلة ما أدى الى انخفاض مياه النهرين، في الوقت الذي بلغت فيه السدود على حوضي نهري دجلة والفرات أكثر من 104 سد، بيد أن العراق لم يستطع إيصال حجم المشكلة التي يعانيها إلى المجتمع الدولي ولكن الآن يسعى إلى إيصالها بعد أن وصلت الأمور لوضع لا يُحسد عليه بعد تراجع حجم المياه التي تمر بنهري دجلة والفرات إلى مستويات هي الأشد منذ عام 1933.

وسط ذلك، فإن الوضع المائي في العراق، تحول من مرحلة الأزمة إلى مرحلة المعضلة المائية، كما يرى الخبير البيئي رمضان حمزة، ويشير إلى أنه بعد ثلاث مواسم من الجفاف قد أصبح العراق على شفا كارثة إنسانية، مبيّنا أن دول الجوار استمرت في فرض الأمر الواقع بإكمالها مشاريع السدود والأنفاق ونقل الماء إلى خارج أحواض الأنهر، فأصبح موقف العراق رهنا بقرارات هذه الدول، فمستقبلا ستكون هناك مقايضة رسمية للماء مقابل النفط.

عجز حكومي

في حديث لموقع “الحل نت”، بيّن حمزة، أنه في الوقت الذي تعدى العراق مرحلة المعضلة المناخية والمائية، وبات الوضع حاليا على شفا كارثة إنسانية، فإن وزارتي الموارد المائية والزراعة ليس لديهما تعاون جيد، ومنظومات الري قديمة وكلاسيكية، فيما لم يتقدم العراق في تحديث منظومته المالية لترشيد الاستهلاك، وكذلك الحال في الصناعات النفطية التي تستهلك الكثير من الماء.

كما لفت الخبير البيئي، حول السدود التي يتم إنشاؤها من قبل تركيا وإيران، إلى أن  هذه الدول استغلت حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي شهدها العراق منذ العام 2003، لبناء هذه السدود.

هذا ويُعتبر العراق من بين دول العالم الخمس الأكثر عرضة للتصحر والتغير المناخي، وسط تحذيرات الخبراء من وقوع “كارثة بيئية” نتيجة تراجع كميات المياه القادمة من دول الجوار، فبحسب مؤشر “الإجهاد المائي”، سيصبح العراق أرضا بلا أنهار في حدود العام 2040 بعد أن يجف نهري دجلة والفرات.

أما في العامين المقبلين، فإنه من المتوقع أن تظهر ملامح الجفاف بشكل كبير في عموم البلاد، في حين يصل الجفاف إلى مستوى شبه كلي في نهر الفرات باتجاه الجنوب، فيما يبدو أن الحكومات العراقية فشلت خلال السنوات الماضية في توقيع اتفاق ملزم مع الجارتين يضمن حقوق بلاد ما بين النهرين بشكل دائم.

حاجة العراق المائية

إجمالي معدل الاستهلاك لكافة الاحتياجات في البلاد يبلغ نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما تقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب، وإن نقص واحد مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيّز الإنتاج.

في غضون ذلك، يقول المتحدّث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، في تصريحات صحفية، إن العراق خسر نحو 70 بالمئة من حصته المائية، وإن الإيرادات الحالية التي تأتي من دول الجوار لم تتجاوز الـ 30 بالمئة، مشيرا إلى أن من بين أسباب انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات في جميع المحافظات، هو عدم التزام دول المنبع بسياسة الاستحقاق العادل بين الدول المتشاطئة.

اقرأ/ي أيضا: انفصال في العلاقات.. هل يمكن للعراق أن ينتصر في معركته ضد واردات الغاز الإيراني؟

بالمقابل، تستمر تركيا في بناء سدود ضخمة على نهري دجلة والفرات، ومنها “سد أتاتورك” العملاق على الفرات الذي أنجزته في عام 1990، وتبلغ الطاقة التخزينية لبحيرته نحو 48 مليار متر مكعب، ما يؤدي إلى تراجع حصة العراق المائية بنسبة 80 بالمئة من النهر، وفقا لتقارير دولية، في حين قبل العام 2002 كانت تركيا تملك 276 سدا، لكن حاليا باتت تمتلك 579 سدا، يتجاوز مخزونها 650 مليار متر مكعب من المياه.

مشهد، على ما يبدو ما لم يتم تداركه من خلال دعم دولي وتحرك عراقي جاد لإلزام الجانبين الإيراني والتركي باتفاقية تضمن حصص جميع الأطراف، بما تتماشى معه حاجة البلدان دون الإضرار ببعضها، فإن العراق سيكون مقبلا على مشهد مأساوي يفقده الكثير من خواصه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة