على وقع انهيار بنك “سيليكون فالي” بالولايات المتحدة، الذي يُعد أحد أهم المقرضين للأعمال التجارية في المرحلة المبكرة في قطاع التكنولوجيا، والذي كان شريكا مصرفيا لما يقرب من نصف شركات التكنولوجيا والرعاية الصحية المدعومة من المشاريع الأميركية في الداخل والخارج التي تم إدراجها في أسواق الأسهم العام الماضي، يتجدد قلق الناس مرة أخرى فيما يخص القطاع المصرفي، بعد الانهيار الاقتصادي الذي ضرب العالم عام 2008.

المخاوف العالمية قد ازدادت من أن يتسبب إغلاق “سيليكون فالي”، الذي تلاه انهيار بنك “سيغنتشر” بعد يومين، من حدوث أزمة عالمية في القطاع المصرفي، الأمر الذي دفع بالرئيس الأميركي جو بايدن، بالإسراع لتأكيد أن النظام المالي آمن، بجانب اتخاذ إجراءات طارئة في الولايات المتحدة لإتاحة مزيد من التمويل للبنوك.

لكن إجراءات الرئيس الأميركي لم تبعث الاطمئنان في المستثمرين، إذ لا يزال المستثمرون يشعرون بقلق بالغ، بينما ينتظرون مزيدا من الوضوح حول مدى انتشار التداعيات، وذلك في الوقت الذي تشهد فيه العملات التقليدية مزيدا من الإقبال بوصفها ملاذا آمنا يمكن من خلالها للمستثمرين حماية مصالحهم.

ما هي الملاذات الآمنة؟

إلى ذلك، وفي الوقت الذي بدأت أسهم المصارف تتداعى عالميا، شهدت العملات التي تُعد ملاذات آمنة مثل الدولار والين، إقبالا الخميس الماضي، وذلك بعد انتقال تأثير انهيار بنك “سيليكون فالي” بالولايات المتحدة عبر المحيط الأطلسي إلى بنك “كريدي سويس” بسويسرا، حيث هوت أسهم الأخير الأربعاء الماضي، بما يصل إلى 30 بالمئة، بعدما قال أكبر مساهم في البنك إنه لا يمكنه تقديم المزيد من الدعم إليه.

في غضون ذلك، ومع تنامي طلب المتعاملين بالعملات التي يمكن أن تكون أكثر أمانا لهم، شهدت العملات التقليدية دعما كبيرا، وسط مخاوف متزايدة من أن الضغوط التي بدأت تتكشف بين البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا قد تكون نذيرا لأزمة واسعة النطاق، حيث قفز الين نحو 0.5 بالمئة في التعاملات الآسيوية المبكرة، وسجل في أحدث تداول 132.73 مقابل الدولار، بعد تحقيق مكاسب الأربعاء بلغت 0.6 بالمئة.

اقرأ/ي أيضا: إسقاط المسيرة الأميركية.. علامة على تصاعد التوتر بين روسيا والولايات المتحدة؟

في المقابل، خسر الدولار بعضا من الارتفاع الذي سجله في الجلسة السابقة وبلغ 2.15 بالمئة، وهو أكبر مكسب يومي منذ عام 2015، لكنه أبقى الفرنك السويسري قريبا من أدنى مستوى في أسبوع، في حين عوض اليورو بعض خسائره في التعاملات الآسيوية المبكرة، إذ ارتفع في أحدث تعاملات 0.04 بالمئة إلى 1.0582 دولار، بعد أن تراجع 1.4 بالمئة في الجلسة السابقة.

أيضا زاد الجنيه الإسترليني 0.18 بالمئة إلى 1.20775 دولار، بعد أن هبط نحو 0.9 بالمئة الأربعاء الماضي، في الوقت الذي تراجع مؤشر الدولار، الذي يقيس أداء العملة الأميركية مقابل مجموعة من العملات، 0.07 بالمئة إلى 104.58 بعد أن قفز نحو 1 بالمئة في جلسة ما قبل ذلك.

بالتالي وعن مدى جدوى التوجه إلى العملات التقليدية التي تشهد تزايدا في الطلب، يشرح الخبير الاقتصاد السياسي بيار خوري، في حديث لموقع “الحل نت”، أن قبل انهيار بنك “سيليكون فالي” وبعده، لا يمكن لنوع واحد من الأصول أن يشكل ملاذا آمنا، وبغض النظر عن قوته وارتفاعه المستمر، إذ إن الملاذات الآمنة، حتى لو وجدت يجب أن تكون ضمن توليفة استثمارية، تسمى بالمحفظة.

 هذه المحفظة يجب أن تتشكل من مجموعة واسعة من الأصول، امتدادا من شديدة الخطورة إلى شديدة الآمن، وكل ذلك بفعل أزمة “سيليكون فالي”، لأن هذه الأزمة تمثل نتيجة للسياسات النقدية، التي اعتمدها الاحتياطي الفيدرالي والتي جعلت المال في الولايات المتحدة الأميركية مالا ليس رخيصا، بمعنى ارتفعت أسعار الإقراض وباتت هناك جاذبية لدفع السيولة نحو سندات الخزينة ذات العائدات المرتفعة، وهو ما تسبب بزيادة الطلب الكبير على سحب الودائع وفي الوقت عينه لم تصمد محفظته الاستثمارية التي كانت غير متنوعة، بحسب خوري.

انحياز المحفظة الاستثمارية وخطره على المستثمرين

خبير الاقتصاد السياسي، بيّن أن “سيليكون فالي” لم ينوع محفظته الاستثمارية بل وضع معظم سيولته في سندات الخزينة الأميركية، والتي اشتراها قبل الارتفاع ومن ثم هوت أسعارها، ولذلك يمكن الاستنتاج أنه إذا وضعت الأموال أو الاستثمارات في نوع واحد من الأصول سوف يتسبب بمشكلات مهما كان حجم الاستثمار، على اعتبار أن ما مر به “سيليكون فالي” ليس استثناء، بخروجه عن القاعدة الأساسية للاستثمار، وهو شبيه مع ما حصل بالبنوك اللبنانية التي حصرت الجزء الأكبر من أموالها مع الدولة و”البنك المركزي”، ما تسبب بانهيارها.

خوري أوضح، أن تنويع المحفظة الاستثمارية، يعني أن تكون هناك محفظة تحتوي على سندات الخزانة الأميركية التي تُعد أكثر أمانا، بجانب العملات المشفرة التي تُعد الأكثر خطرا، وبينهما يجب توفر الذهب، والسلع مثل أسهم الطاقة، خاصة أن لا أحد يمكنه التكهن بتوجه الظروف الجيوسياسية العالمية ما يوفر ذلك أمانا أكثر للمستثمر، وبناء على ذلك، إن تزايد الإقبال على العملات التقليدية، سيمثل خطرا بذاته لأن كل انحياز في المحفظة يمثل مزيدا من الخطر على القيمة الإجمالية للمحفظة مع أي تغير دراماتيكي في وضع الأسواق.

اقرأ/ي أيضا: تحول في علاقة أربيل وبغداد.. ما الذي دفع السوداني لزيارة كردستان؟

بعد ما سحب المودّعون أرصدتهم، انهار بنك “سيليكون فالي” في العاشر من الشهر الجاري، مما تسبب في أكبر فشل مصرفي منذ الأزمة المالية عام 2008، ويعد هذا ثاني أكبر فشل في تاريخ الولايات المتحدة.

مع حالة الهلع التي انتابت الجميع، انهيار سهم بنك “سيليكون فالي” الذي تهاوى بنسبة تزيد على 70 بالمئة، في حالة بدت رحلة سقوط حر لا وقوف لها، ومع المزيد من الانهيار في قيمة السهم، انهالت طلبات آلاف المودعين بسحب ما قيمته 42 مليار دولار من الودائع في يوم واحد، وهو أمر يستحيل على أي بنك مهما كانت موارده المالية أن يلبيه، الأمر الذي عرّضه لظاهرة “التزاحم المصرفي”، وهي الظاهرة الاقتصادية الشهيرة المرتبطة بفزع المودّعين من قرب إفلاس البنوك وعدم قدرتها على رد الودائع.

وسط ذلك، تراجع “البنك” عن اتجاهه لإصدار المزيد من السندات، وبدأ بعرض نفسه للبيع المباشر للمستثمرين في حلٍّ أخير للخروج من الأزمة بدلا من الوقوع في المزيد من الخسائر، لكن هذه التحولات السريعة التي حدثت في ظرف يومين اثنين فقط لأهم بنك في عالم الشركات الناشئة في أميركا ومناطق كبيرة حول العالم، أدت إلى تزايد موجة الهلع وإقبال المودعين والمستثمرين على سحب أموالهم من البنك في زمن قياسي.

خصوصا مع نداءات المستثمرين المؤثرين في “سيليكون فالي” إلى مؤسسي الشركات الناشئة بسحب أموال شركاتهم في أقرب وقت، وإلا فستتعرض أموال الشركات إلى التجميد لفترة طويلة.

امتدادا للسقوط الحر 

نتيجة لذلك، قامت المؤسسة الاتحادية لتأمين المودّعين التابعة للحكومة الأميركية، في العاشر من الشهر الجاري، بإغلاق البنك كليا والبدء في إجراءات توفير السيولة للعملاء، لتقوم المؤسسة بتوفير الأموال لجميع المودّعين في البنوك المتعاملة معها، بحد أقصى ربع مليون دولار للحساب الواحد، لكن المفاجأة كانت أن 3 بالمئة فقط من حسابات المودّعين في البنك ينطبق عليها تغطية التأمين، وأن 97 بالمئة من الحسابات خارج التغطية المباشرة.

هذه الأحداث، تسببت بخسائر كبيرة لأسهم البنوك، حيث خسرت أسهم المصارف الأسترالية الكبيرة “إيه إن زد” ، و”وستباك”، و”إن إيه بي” أكثر من 2 بالمئة، وهوى المؤشر الفرعي للقطاع المصرفي في بورصة طوكيو 6.7 بالمئة في مستهل التعاملات مسجلا أدنى مستوياته منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي.

في السياق، خسرت البنوك الأميركية حوالي 90 مليار دولار من قيمتها بسوق الأسهم حتى الاثنين الماضي، لترتفع خسائرها خلال جلسات التداول الثلاث الماضية إلى نحو 190 مليار دولار، وكذلك وتواصلت خسائر أسهم القطاع المصرفي في مستهل جلسات التداول الآسيوية بفعل انهيار بنك “سيليكون فالي”.

كما تكبدت البنوك الإقليمية الأميركية أكبر الخسائر، وهبطت أسهم “فيرست ريبابلك بنك” أكثر من 60 بالمئة، إذ لم تفلح أنباء عن تمويل جديد في طمأنة المستثمرين، وراجعت وكالة “موديز” تصنيفها للبنك بالخفض، وأغلق مؤشر القطاع المصرفي الأوروبي حتى الاثنين الماضي منخفضا 5.7 بالمئة، فيما هوى سهم “كومرتس بنك” الألماني 12.7 بالمئة، و”كريدي سويس” 9.6 بالمئة مسجلا مستوى قياسيا منخفضا.

وفق هذه المعطيات، فإن لجوء المستثمرين إلى العملات التقليدية والتي تمثل الاحتياطي المالي العالمي، قد تكون خطوة مجازفة أخرى، وبدل أن توفر فرصة للهروب من تداعيات أزمة “سيليكون فالي”، قد تسبب في أزمة مضاعفة جديدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.