في الوقت الذي تحاول فيه الصين وروسيا، تقديم نفسيهما على أنهما شريكين استراتيجيين، يمكن أن يشكلا قطبية عالمية تمثل محورا لعديد من الدول المهمة، تبدو العلاقة الصينية الروسية ومن ناحية المصالح الصينية، أن ما تفعله روسيا ليست بالاستراتيجية، بقدر ما تمثله من مجازفة ربما تنتهي بروسيا التي تحاول الخروج من عزلتها الدولية التي تسبب بها غزوها لأوكرانيا إلى أن تكون رهينة إلى التأثير الصيني.

فبعد عزل روسيا بشكل واسع عن أوروبا منذ غزوها لأوكرانيا الذي شنته قبل أكثر من عام، قامت موسكو بتوجيه اقتصادها على نطاق واسع نحو الصين، مجازفة بأن تجد نفسها في علاقة غير متوازنة مع بكين، وفي موقف ضعيف أمامها، وجاء ذلك في إطار ما لوّح له رئيسا الصين شي جين بينغ، وروسيا فلاديمير بوتين، قبل ثلاثة أسابيع من بداية تدخل “الكرملين” في أوكرانيا، بشراكة غير محدودة بينهما، في رسالة بدت كما لو أنها موجهة كثقل موازن للغرب.

على وقع ذلك، تنامت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، وكثفت بكين وموسكو التبادلات التجارية رغم العقوبات الدولية على روسيا، وشهدت الفترة الماضية تنامي وجود الشركات الصينية على الأراضي الروسية، وجاء ذلك في محاولة تبدو كما لو أنها خطوة لملء الفراغ الذي تركته الكثير من الشركات الأجنبية التي غادرت روسيا.

نتيجة لذلك، بلغ حجم التجارة الثنائية بين روسيا والصين العام الماضي 190 مليار دولار، وفقاً للجمارك الصينية، وشكّل ذلك رقما قياسيا على مستوى التعاملات بين البلدين. كذلك، ارتفعت حصة اليوان في العملات المستخدمة في التجارة الخارجية الروسية، لتنتقل من 0.5 بالمئة إلى 16 بالمئة، ما أدى إلى انخفاض كبير لحصة اليورو والدولار في الصادرات الروسية 48 بالمئة حاليا، وشمل ذلك على مستوى الطاقة التي تُعد المصدر الرئيسي للتبادل بينهما، ما سرّع التقارب بين الجانبين.

التوغل الصيني في الاقتصاد الروسي

إلى ذلك، وخلال العام الماضي، ملأت الصين الفراغ الذي تركته مئات العلامات التجارية العالمية في روسيا عقب غزوها لأوكرانيا، وشمل ذلك كل شيء تقريبا بداية من الهواتف الذكية إلى السيارات، حيث تظهر بيانات الصناعة أن شركة الهواتف الذكية الصينية “شاومي”، وشركة صناعة السيارات “جيلي”، من بين الشركات التي شهدت زيادة في المبيعات في الأشهر الأخيرة.

فبعد أن كانت أجهزة “أيفون” و”سامسونغ كلاكسي” من الأكثر مبيعا قبل الغزو لأوكرانيا، حلت شركات “شاومي” و”ريلمي” محلها، وعلى الرغم من أن المصنّعين الصينيين كانوا قبل الحرب يتمتعون بشعبية كبيرة في روسيا، مستحوذين على ما يقرب من 40 بالمئة من سوق الهواتف الذكية في كانون الأول/ديسمبر 2021، إلا أنه الآن استحوذوا على ما يقرب من 95 بالمئة من السوق بعد عام، فيما جاءت شركتي “أبل” و”سامسونغ” تراجعا في المركز الأول والثاني من حيث الانخفاض في حصتهما المجمعة في السوق من 53 بالمئة إلى 3 بالمئة فقط خلال نفس الفترة التي انسحبت فيها من البلاد.

اقرأ/ي أيضا: “أبعد مما تراه العين”.. ماذا تعني المصالحة السعودية الإيرانية للعراق؟

كذلك، وعلى مدار العام الماضي، قفزت شركات صناعة السيارات الصينية “شيري”، و”كريت ول موتور” إلى أكبر 10 علامات تجارية لسيارات الركاب، في حين اختفت شركات “بي أم دبليو” و”مرسيدس” الألمانيتين، حيث اشترى الروس عددا قياسيا من السيارات الصينية العام الماضي، وبحسب تقارير، فإن مبيعات السيارات الصينية الجديدة في البلاد ارتفعت بنسبة 7 بالمئة في عام 2022 إلى 121.800 ألف سيارة.

كما سارع المستوردون الروس والموردون الصينيون إلى التغلب على مشكلات تحويل الأموال باستخدام ودائع اليوان الصيني، في وقت لم يخفِ فيه الرئيسان الصيني والروسي رغبتهما في أن تصل أرقام التبادل الثنائي بينهما إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024، غير أن اقتصاديين لفتوا إلى أن ذلك قد يؤدي إلى علاقة غير متوازنة بين الطرفين ما يضع روسيا بموقف ضعيف أمام الصين، التي تسعى هي الأخرى لبسط نفوذها العالمي.

لكن الباحث في الاقتصاد الدولي أحمد القاروط، يرى أن علاقات الصين وروسيا الاقتصادية، هي علاقة استراتيجية تحكمها اتفاقيات طويلة الأمد، لاسيما فيما يتعلق بمجال الطاقة الذي تحرص بكين على تأمين حاجتها العالمية منها، بالإضافة إلى الاتفاقيات في المجالات العسكرية والفضاء، مشيرا إلى وجود تحالف استراتيجي كبير بين الجانبين في مناوئة التوسع الأميركي، بالتالي أن هذه العلاقات ستمتد لمديات عميقة ولا تتأثر بالعزلة الغربية.

علاقة مدعومة بشعور الخوف

القاروط وفي حديث لموقع “الحل نت”، بيّن أن تلك العلاقات وعمقها يحتكم إلى طبيعة العلاقات الاستراتيجية المشتركة بين البلدين، مشيرا إلى أنه لا شك في أن كل طرف يحاول استثمار هذه العلاقة لمصلحته، لكن ذلك لا يمكن أن يكون في سياق محاولة اغتنام بكين لهذا الوضع الذي تمر به موسكو، إلى حد تجاوز الحدود الطبيعية، انطلاقا من الشعور بأن ما تمر به موسكو حاليا قد يحصل معها في المستقبل.

إذ إن عدم اصطفاف الصين إلى جانب روسيا في هذه الأزمة، وبحكم العلاقات المشتركة بينهما، خصوصا بعد الحرب الأوكرانية التي تمثل في الأساس صراعا على صورة وشكل النظام العالمي الجديد، من دون التفكير بطريقة استغلالية في الوقت الحالي، فإن ذلك سينعكس مستقبلا على مصيرهم، بحسب الباحث في الاقتصاد الدولي، والذي بيّن أن الصين بشكل عام لا تحاول التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتدخلاتها تدور في إطار الحصول على الصفقات التجارية والعسكرية، مع عدم الاهتمام في التأثير على أشكال الأنظمة في البلدان.

اقرأ/ي أيضا: إسقاط المسيرة الأميركية.. علامة على تصاعد التوتر بين روسيا والولايات المتحدة؟

في مقابل ذلك، كان متوسط صادرات الاتحاد الأوروبي إلى روسيا قد بلغ 101 مليار دولار في عام 2021، بمتوسط 8.4 مليار دولار شهريا. ومع وصول صادرات الصين إلى روسيا إلى 73 مليار دولار، العام الماضي، توضح الزيادة الصينية في الصادرات إلى روسيا، أن روسيا تمكنت من استيعاب حوالي 10 بالمئة من إجمالي خسائر واردات “الاتحاد الأوروبي” من الموردين الصينيين في فترة الأشهر الأربعة من آذار/مارس إلى تموز/يوليو الماضي. 

نظرا لارتفاع الواردات الروسية من أسواق أخرى مثل البرازيل والهند وفيتنام هذا العام، ويجري تطوير طرق جديدة لسلسلة التوريد، فمن المتوقع أن يزداد هذا الاتجاه، ويمكن تقدير أن حوالى 25 إلى 30 بالمئة من واردات روسيا لعام 2021 من “الاتحاد الأوروبي” قد تم استبدالها الآن من مصادر أخرى، ومع السماح بالواردات الموازية اعتبارا من أوائل شهر تموز/يوليو الماضي، يبدو أنه من حيث حجم المستهلك، ستكون روسيا قادرة على استيعاب خسارة الواردات الأوروبية بحلول أواخر عام 2024.

وفقا لـ “المفوضية الأوروبية”، تصدرت الصادرات الرئيسة لـ “الاتحاد الأوروبي” إلى روسيا، العام الماضي، الآلات والمعدات 19.7 بالمئة، والسيارات بنسبة 9 بالمئة، والأدوية 8.1 بالمئة، والمعدات والآلات الكهربائية 7.6 بالمئة، والبلاستيك 4.3 بالمئة.

الاقتصاد بين بكين وموسكو

إلى ذلك، يعد الاقتصاد الصيني أكبر بنحو 10 مرات من نظيره الروسي، وبينما بلغ الفائض التجاري للصين 676 مليار دولار، سجلت روسيا في العام نفسه 197.3 مليار دولار من الفوائض، بفعل عائدات النفط والغاز ليس إلا.

“صندوق النقد الدولي” يتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 30 تريليون دولار بحلول عام 2027، وأن يتوقف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا عند أقل من تريليونَي دولار، ومن ثم، هناك خلل في الشراكة الاقتصادية بين شريك ضخم وآخر ضئيل، ففي عام 2021، شكلت بكين 18 بالمئة من تجارة روسيا، وهي أكبر شريك تجاري لها، بينما مثلت موسكو 2 بالمئة فقط من حصة التجارة الصينية، وهي فجوة ما انفكت تتزايد بسبب الحرب الأوكرانية. 

بالتالي منح الصراع الدائر في شرق أوروبا الصين نفوذا هائلا داخل الاقتصاد الروسي، لكن بكين تدير توازنا صعبا بعدم التضحية بمصالح الصين الاقتصادية مع أوروبا مقابل إنقاذ بوتين، ولا يمكننا تجاهل ما حققته الصين من أرقام قياسية بفعل الركود الذي غرق فيه الاقتصاد الروسي، وزاد من اعتماده على الصين، حيث أخذت الشركات الصينية تملأ الفراغ الفسيح الذي شكله انسحاب الشركات الغربية من السوق الروسي، وتشير الأرقام إلى ارتفاع إجمالي تجارة السلع بين الصين وروسيا في الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي إلى 117.2 مليار دولار، بزيادة بلغت 31 بالمئة.  

من وجهة نظر اقتصادية، تُعد روسيا في ظل ركودها الاقتصادي المستمر أقل أهمية في نظر بكين، بحسب تقارير متخصصة، وتشير إلى أن ذلك من دون حساب صادرات الطاقة التي تمثل 70 بالمئة، من صادرات روسيا إلى الصين، وأغلبها من الغاز والنفط، ولكن تلك النسبة باتت مهددة في العقود القادمة، ومعها أيضا أهمية موسكو بصفتها موردا مهما للطاقة، نظرا لأن بكين تخطو نحو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري عموما، في خضم خطة جديدة تستهدف تصفير انبعاثات الكربون، وزيادة حصة طاقة الرياح والطاقة الشمسية.

 استنادا على تلك الأرقام، لا يمكن نظريا بأي حال وصف العلاقة بين روسيا والصين بالتحالف الاستراتيجي، لأن الجانبين لديهما مصالح محددة لا تتداخل دائما، وليست فيها تلك التنازلات التي تستوجبها طبيعة التحالفات الدولية الأخرى، فقد حوّل البلدان علاقتهما من الخصومة خلال النصف الثاني من الحرب الباردة إلى شراكة براغماتية ذات هدف مشترك، يتمثل في مراجعة أسس النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب. ولكن مع الفروقات الكبرى بين البلدين في الحضور العالمي، حيث أن الصين قوة اقتصادية صاعدة، وروسيا دون وزن اقتصادي يُذكر؛ فإن زحف بكين قد يقلص الدور الروسي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.