ثمة ارتباط لافت ومتكرر بين الجماعات المنتمية للإسلام السياسي بجناحيه السني والشيعي وشبكات تهريب والاتجار بالمخدرات. لا يبدو هذا غريبا أو مباغتا رغم فتاوى التحريم من الجماعات الأصولية. فجماعة “طالبان” متورطة في الاعتماد على مادة الأفيون الذي يشكل جزءا مهما من قوام اقتصادها الذي يدعمها حركيا وتنظيميا. وفي ما يبدو أن التعاطي البراغماتي مع مسألة تهريب المخدرات ينطبق كذلك على النسخة الشيعية للتنظيمات المماثلة كما هو الحال مع “حزب الله”.

هذا الحزب في لبنان والمدعوم من إيران ينشط في هذا النطاق الحيوي بالنسبة له ويفرض هيمنته على المناطق الحدودية التي تنتعش فيها التجارة، كما تتمدد قبضته الخشنة بحيث تمنع التنمية في هذه المناطق التي تعاني الفقر والإهمال بل والتهميش، الأمر الذي توظفه ميليشيات “حزب الله” لصالحها بحيث تظل بيئة مواتية لشروط هذه التجارة وتحافظ على بنية قابلة للتهريب من خلال حواضن تعمل ضمن شبكاتهم المشبوهة. واللافت أن أبناء هذه المناطق في غالبيتهم يتسربون من التعليم تحت وطأة الحرمان المجتمعي وغياب الدولة وتقدم “حزب الله” بنفوذه السياسي والميداني والميليشياوي، بما يجعل هؤلاء الأفراد فئات مرشحة طوال الوقت لعمليات التعبئة داخل التنظيم المدعوم من إيران والقيام بمهام متفاوتة.

تخدم هذه التجارة اقتصاديات “حزب الله” والتي تجري خارج نطاق القانون وبعيدا عن رقابة الحكومة أو مسائلة البرلمان. فإيران، التي تعاني من عزلة دبلوماسية تمتد آثارها وتداعياتها إلى شركائها ووكلائها المحليين، تعتمد، بشكل رئيسي، على اقتصاد مواز من خلال عمليات التهريب المستمرة بحيث تتفادى العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة عليها، وبحيث تحصل على الموارد والسلاح بالإضافة إلى اعتبار تجارة المخدرات سلاحا ضد خصوم إيران الإقليميين. فينتشر الحشيش كما حبوب “الكبتاغون” في عدة مناطق منها السعودية خصمه الإقليمي. وهناك بيئة شعبية تحافظ ميليشيات “حزب الله” عليها وهي التي تتواجد فيها الحشيش تحديدا في البقاع شرق البلاد، وفي شمالها أيضا، بجانب مساحات واسعة من الأراضي السورية ولا سيما المناطق الحدودية مع محافظة حمص السورية.

“حزب الله”، اتُّهم بالتورط في تهريب المخدرات، لا سيما في إنتاج وتوزيع الحشيش والكوكايين. ونفت الجماعة هذه المزاعم وأكدت أنها ملتزمة بمكافحة تهريب المخدرات. ومع ذلك، فإن الحزب، الذي انحرف سريعا وتلقائيا من كونه حركة “مقاومة”، بحسب دعايته الأيدولوجية والسياسية، وقد تشكل في ظرف سياسي معين لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إلى قوة سياسية انخرطت في صراع طائفي محموم بلبنان، بينما جعل كل منطقة تقع تحت وطأة العسكرة والأمننة الطائفية والمذهبية، يتسابق على نحو هائل لتراكم الثروة والسلطة والسلاح حتى تضحى مكتسبات تؤهلها للصعود وامتلاك مساحات أوسع من الحكم بلبنان.

من هنا، كان لا بد من طرح بعض التساؤلات حول مدى تورط “حزب الله” في تهريب المخدرات، وعواقب فشل “حزب الله” في حكم لبنان بشكل سليم، بل وكيف ساهم دوره السياسي المحلي والخارجي في تدهور الأوضاع في البلاد لدرجة بات وضع لبنان الاقتصادي من بين أسوأ ثلاث أزمات بالعالم. كذلك، ثمة تساؤلات حول تأثير تورط الحزب في تهريب المخدرات على علاقته مع الأحزاب السياسية الأخرى في لبنان، وحاضنته الشعبية التي تتمرد عليه كما حدث في احتجاجات تشرين/أكتوبر 2019.

تكتيكات مصادر تمويل الحزب

“حزب الله” يعد ضمن الأحزاب الولائية بالمنطقة والتي تحمل أدبيات الخمينية السياسية وتأبيد سلطة “الولي الفقيه” في المدى السياسي الحيوي لما يعرف بأدبيات الثورة الإيرانية “الهلال الشيعي”. وبعد وفاة عباس الموسوي في عام 1992، صعد لقمة الحزب حسن نصر الله.

مشروع الحزب هو جعل لبنان ضمن “الجمهورية الإسلامية” وفق تصريح سابق لزعيم الحزب حسن الله. حيث قال “مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى، التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق، الولي الفقيه الإمام الخميني”.

إيران تشتهر بأنها من أكبر مصدري المخدرات، حيث إن تجارة التهريب ضمن خططها الاستراتيجية للحصول على الموارد والنفقات المطلوبة على السلاح ودعم الميليشيات في سوريا والعراق واليمن ولبنان. بل إنها تعتمد هذا التكتيك لتفادي العقوبات والخروج من عدة أزمات تحاصر اقتصادها. فهي تتبع استراتيجيات عدة ملتوية عبر ميليشياتها بغية تأمين مصدر تمويل لهم، ويشكل تجارة المخدرات ثلث ثروة “حزب الله”، الذي بدأ رائحته تخرج للعلن تدريجيا، ففي عام 2005، ألقت الشرطة الإكوادورية القبض على شبكة تهريب مخدرات، على رأسها اللبناني راضي زعيتر، الذي كان يدير مطعما في العاصمة كويتو، ومن ثم كشفت التحقيقات هناك، أن عصابة زعيتر تمول “حزب الله” بـ70 بالمئة من أرباحها من تجارة المخدرات. وفي نهاية 2006، أدرجت السلطات الأميركية صبحي فياض على قوائم الإرهاب، باعتباره أحد أهم الناشطين التابعين للحزب بالمنطقة الحدود الثلاثية بين الأرجنتين والبرازيل وباراغواي، متهما إياه بتورطه في تجارة المخدرات مع آخرين لصالح الحزب منذ 1995.

أيضا خلال 2008، ألقت واشنطن القبض على فايد بيضون المعروف بـ”ميجال جارسيا” في مطار ميامي الدولي. وتبين فيما بعد أن بيضون أنه يتاجر بالكوكايين أيضا لصالح الحزب. وتتالت الاعتقالات لأشخاص وخلايا لبنانيين موجودين في عموم الدول الغربية، منها في هولندا وألمانيا متهمين بتهريب أموال إلى لبنان ناتجة عن تجارة المخدرات. أدت هذه الحوادث إلى تشكل مخاوف بشأن تورط الجماعة في نشاط إجرامي وقدرتها على الحكم ببيروت بشكل فعال.

قد يهمك: ضياع “حزب الله” وخيارته.. مصير مأساوي للبنان بعد مكاسب الحزب السياسية – الحل نت 

بالتدريج، وفي 2011، ظهر أيضا تاجر المخدرات الكولومبي وليد مقلد على شاشة التلفزيون الكولومبي ليتناول تصنيع والاتجار بالمخدرات الذي يمتهنه “حزب الله” في فنزويلا، وكان “مجلس الشيوخ الأميركي” أقرّ في عام 2015 بغالبية ساحقة مشروع القرار رقم 2297 ضد الحزب، وإدراجه كمنظمة تهريب مخدرات أجنبية ومنظمة إجرامية عابرة للحدود.

في العام ذاته، أصدرت الخزانة الأميركية قرارا فرضت بموجبه عقوبات على عدد من اللبنانيين. وظهرت صور ومقاطع فيديو لتاجر المخدرات اللبناني نوح زعيتر أثناء تفقده مراكز “حزب الله” في جبال القلمون السورية، وصور أخرى تجمعه بقيادات ميدانية للحزب لتؤكد الدور الذي يلعبه الحزب في ترويج وصناعة المخدرات، واليوم أدرجته واشنطن ضمن عقوبات جديدة مع حسن دقو، رجلا تجارة المخدرات.

إذاً، منذ التسعينيات وتمويل الحزب من تجارة المخدرات، غير أن الإنتاج الأضخم لهذه الممنوعات دخل الأراضي السورية بعد عام 2011، لا سيما بعد مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية إلى جانب حكومة دمشق، ومن ثم بدء الحزب بضم مساحات كبير عبر الحدود في جبال القلمون السورية ومدينة حمص لزراعة الحشيش وتطوير صناعته، كما أنه نقل بعض منشآت التصنيع إلى داخل سوريا، مثل محافظة دير الزور الذي كشفت تحقيقاتٌ في السابق بوجود 7 مصانع لـ”الكبتاغون” للحزب بالتعاون مع “الحرس الثوري الإيراني”، هربا من الملاحقة القانونية اللبنانية والدولية، مدعوما بالطبع من الحكومة السورية.

استخدام لبنان كساحة تجارة

الحكومة اللبنانية إزاء انتشار هذه الأعمال اتخذت بعض الخطوات لمعالجة قضية تهريب المخدرات، بما في ذلك إنشاء وحدة متخصصة لمكافحة المخدرات. ومع ذلك، فإن انخراط “حزب الله” بالسلطة هناك وإدارته المافوية للدولة أدى قيام القيادات الكبرى بغض النظر عن القيادات الصغرى والأعضاء الذين تحولوا فيما بعد لتجار مخدرات دوليين.

مع انخراط “حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني” في الحرب السورية، تزايدت هذه التجارة بالتزامن مع السيطرة الأمنية على المعابر الحدودية المتاخمة للحدود، مع الأخذ في الاعتبار الدور الرئيسي الذي تضطلع به الفرقة الرابعة في الجيش العربي السوري والتي كشفت تقارير صحفية غربية عن دوره الرئيسي في تجارة “الكبتاغون”. بل إن مسار الحرب في سوريا وصعوده نجم عنه تنامي في عدد مصانع المخدرات، والتي تتواجد في المناطق الحدودية تحت إدارة الميليشيات المسلحة.

كما وثمة مناطق سورية مثل مضايا والزبداني، شهدت بناء هذه المصانع المعنية بالمخدرات، وهي القرى والبلدات التي لجأ إليها السوريون قسرا في نزوحهم المستمر هربا من الحرب. وهناك مخاوف أبعد من هذه التجارة التي لا تبدو أنها مؤقتة بل باتت تشكل شبكات مجتمعية لها ارتباطات براغماتية ومصلحية من بقاء هذه المناطق غارقة في هذا النشاط المشبوه والتجارة غير المشروعة، بما يؤثر سلبا على التماسك المجتمعي في حال إذا ما تم تسوية الصراع وعاد السكان المحليون لمناطقهم التي تغيرت معالمها الديمغرافية والمجتمعية.

من المعروف أن “حزب الله” يملك سلطة مباشرة على المعابر البرية والبحرية والجوية بلبنان، وهي القنوات التي استخدمتها جهات، إما تابعة له أو على صلة به، لتهريب الممنوعات بمختلف الاتجاهات الخارجية، عطفا على تهريب الدولارات والبضائع والأسلحة والمحروقات، حسبما يوضحه الكاتب السياسي اللبناني، ريكاردو الشدياق.

أضف إلى ذلك، أن مؤسسات تنضوي في ظلّه تعتمد على الحق القانوني لـ”المقاومة” في استيراد وتصدير المواد الغذائية والصناعية وغيرها من دون دفع رسوم جمركية، وهو الأمر الذي سهل لتجار، من الطائفة الشيعية، فتح مصالح تجارية تقوم بمنافسة غير مشروعة في وجه بقية المؤسسات، ما أثار استياء مؤسسات أخرى وأصحابها من سياسيين وأحزاب ومصرفيين واقتصاديين حيال “حزب الله”، على حدّ تقدير الشدياق لموقع “الحل نت”.

نشر الفساد والجريمة المنظمة

بيئة هذا الحزب طورت موضوع زراعة الحشيش، انطلاقا من مناطق بقاعية، ثم بدأت بتصنيع مختلف أنواع المخدرات وأبرزها “الكبتاغون” وحصلت محاولات عدة لتهريبها إلى دول عديدة ولا سيما الخليج بأساليب تهريب محترفة، لكن الأجهزة الأمنية في الدول العربية والخليجية ضبطت هذه العمليات مرات عدة وأوقفت التهريب عند حدود معينة وكشفت المهربين وخلفياتهم. كما وضبطت الأجهزة الأمنية اللبنانية تهريب أنواع عدة من المخدرات إلا أن التدابير اللبنانية حالت دون ذكر هوية المصدر المهرب. هذا فضلا عن تقاعس نسبة كبيرة من الأجهزة مع الحزب، أو ربما يكونون من رجال الحزب نفسه، وفق ما يقوله الشدياق.

هذا الأداء، وغيره من الممارسات الخارجة عن الشرعية تسببت في أن الدولة اللبنانية تعاني العزلة عن المجتمع الدولي وكذا الدول العربية التي أوقفت المساعدات للبنان وعطلت الاستثمارات العربية في لبنان حتى تتم معالجة الأمور، ودخل البلد تباعا في مرحلة التدهور السريع في قيمة الليرة اللبنانية غارقا في أزمة مالية مصرفية لم تجد سبيلا لأي مخرج في ضوء عدم التزام السلطة اللبنانية بتطبيق الإصلاحات المطلوبة في مختلف القطاعات والإدارات، وهي حتى اليوم تتهرّب من ضبط التهرب الضريبي وتعجز عن وضع حدود للتهريب وغسيل الأموال، وترفض نشر عمليات التدقيق في الحسابات المالية لكبرى المؤسسات، حسبما ما يحلله الشدياق.

هذا الواقع ترتب عليه فرض عقوبات أميركية طاولت شخصيات قيادية في “حزب الله” أو أشخاص يعملون في سلكه بعد ممارسات مسّت بالأمن القومي لدول عدة، منها السعودية والإمارات وإسرائيل وأيضا مصالح واشنطن والعديد من الدول الأوروبية، وفق منظور الشدياق.

التملص من جريمة المخدرات

خلال عام 2020، أحبطت الشرطة الإيطالية صفقة مخدرات ضخمة كانت في طريقها إلى الموانئ الأوروبية، بعدما تمكَّنت عناصر الأمن في ميناء “ساليرنو” الإيطالي من ضبط ثلاث سفن قادمة من ميناء اللاذقية السوري وعلى متنها كمية من مخدر “الكبتاغون”، سرعان ما اتجهت أصابع الاتهام نحو دمشق وحليفتها “حزب الله”، لكن بعد بضعة أشهر على الواقعة، خرج حسن نصر الله نافيا هذه الاتهامات، ومنتقدا استهداف الحزب بـ”أخبار كاذبة ودعاية غربية”، بل وزعم “موقفنا من المخدرات بكل أنواعها واضح، يحظر دينيا تصنيعها وبيعها وشراؤها وتهريبها واستهلاكها”، متملصا بذلك عن هذه الأعمال، بغية عدم تراجع حاضنة الحزب الشعبية.

قد يهمك: مجزرة اقتصادية.. عواقب لتحديد المحال اللبنانية الأسعار بالدولار؟ – الحل نت 

إلا أن شعبية الحزب تراجع كثيرا وفقد فريقه لا سيما بعد دعمه للرئيس السوري بشار الأسد، والمشاركة العسكرية الواسعة في الحرب على مدار عقد كامل، وارتكابه العديد من الانتهاكات والجرائم، ومن ثم تورطه في عمليات التهريب والجرائم المنظمة، ونظر العديد إلى هذا الدعم على أنه اصطفاف طائفي أعمى إلى جانب طرف علوي يتحكم بسدة الحكم بسوريا.

كما أثار حفيظة غالبية الشعوب العربية ازدواجية حسن نصرالله في موقفه من ثورات الربيع العربي. وهكذا تدهور شعبية الحزب في الشارع العربي والإسلامي، وتحديدا في إيران، وظهر ذلك جليا عندما انحاز الناخبون اللبنانيون منتصف العام الماضي إلى خصوم الحزب، وعلى رأسهم حزب القوات اللبنانية، في النتائج الرسمية للانتخابات النيابية.

بينما جادل البعض بأن النتائج كانت بداية نهاية هيمنة الحزب على السياسة اللبنانية، ادعى آخرون أن الصندوق اللبناني لم يعد مهما لأقوى حزب عسكريا في البلاد، والذي أصبح جزءا من خريطة القوة الإقليمية بحيث يصعب إزالته بهزيمة انتخابية بهذه السهولة.

لكن في العموم حاضنة الحزب الشعبية تراجعت بالفعل وفقد ثقة الفرقاء السياسيين اللبنانيين به، على إثر كشف حقيقته على مدار السنوات الماضية، من ارتكاب أعمال غير مشروعة، من اغتيالات واحتجاز الرهائن إلى تجارة المخدرات وتبني ولاية الفقيه في كل شيء تقريبا، ووقفه إلى جانب أكبر نظام قمعي في العالم، النظام السوري، وهذا ما أدخل لبنان لدرك مظلم، من حيث استمرارية أزمة الشغور الرئاسية إلى جانب أسوأ الأزمات الاقتصادية والمعيشية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات