في بداية تأسيسه وإلى سنوات طويلة ما بعد النشأة، اعتمد “حزب الله” اللبناني، على الدعم الإيراني بالمال والعتاد ومثل ذلك أمرا مصيريا آنذاك، فمع جهود الحزب التأسيسية وفي الوقت الذي كان يكسب فيه جموعا من الجماهير الشيعية المهمشين ما بعد الحرب الأهلية، كان الحزب يفقر إلى التمويل الخاص في لحظة حاسمة بتاريخه، وهو ما جعله يتكئ أكثر على التمويل الإيراني.

 كان الحزب وقتئذ بحاجة ماسة للأموال لتشغيل هياكله الإدارية، وتفعيل شبكته الخدمية التي أسسها بهدف بناء قاعدة جماهيرية أكبر بين الشيعة اللبنانيين، وحتى في تمويل عملياته العسكرية في الداخل اللبناني وخارجه، لذلك مثلت مسألة التمويل نقطة الضعف الأكثر خطورة في جسد “حزب الله”.

فرغم الالتزام الكامل من قبل إيران نحوه، فإن مكانتها المهتزة في النظام الدولي وخطوط التمويل المباشرة عبر سوريا وضعت الحزب دوما تحت رحمة الاضطرابات السياسية في إيران وسوريا، ولم تكن ضريبة “الخمس” التي يجمعها رجال الدين من الشيعة اللبنانيين الفقراء كافية لسد العجز المالي، ومواجهة أزمات التمويل المتتالية التي واجهها الحزب عاما بعد عام.

نتيجة لذلك، وللعقوبات الدولية على إيران وأنشطتها أدرك “حزب الله” أنه بحاجة إلى مصادر مالية مكملة أو بديلة عن الاعتماد الإيراني، بشرط يمكن الاعتماد عليها في ضوء التضيق الدولي على طهران، مثل خطف عماد مغنية أحد أبرز قيادات الحزب وقائده العسكري لأكبر عدد من الأميركيين قبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001.

رحلة “حزب الله” بتجارة المخدرات واستغلال رجال الأعمال

مغنية الذي قتل عام 2008، أسس الشبكة المالية لـ “الحزب” من خلال إنشاء وحدة شؤون مالية تابعة للجناح العسكري، وهي الرحلة التي بدأ الحزب بها بإدارة نشاط مالي تتدفق من خلاله ملايين الدولارات لميزانية “الحزب”، وذلك من صناعة ما وصفته الولايات المتحدة الأميركية لاحقا بأنه تحالف غير مسبوق بين جماعات مسلحة أيديولوجية إقليمية وبين الشبكات العالمية لتجارة المخدرات والجريمة المنظمة.

اقرأ/ي أيضا: “خان الذهب“.. دراما عراقية تقترب من المتابع وتبتعد عن الواقع

الأموال كانت تأتي عبر منظومة من العمليات التجارية الشرعية وغير الشرعية تبدأ من تجارة السيارات المستعملة مرورا بالسجائر والأجهزة والمنتجات المقلدة ووصولا إلى تهريب المخدرات والأسلحة وعمليات تبييض الأموال العابرة للحدود.

لكن عملية إدارتها واستدامتها بقيت خفية لسنوات طويلة، قبل أن يتم الكشف عمّا وراءها، عندما وضعت وزارة الخزانة الأميركية رجل أعمال لبناني الأصل يعيش في إحدى دول أميركا اللاتينية على قائمة العقوبات عام 2004، المدعو “أسعد بركات”، ووصف أسعد حينها الذراع الأيمن لزعيم “حزب الله” حسن نصر الله في أميركا الجنوبية، وتهمته إدارة شبكة سرية لجمع الأموال لصالح “حزب الله” عبر تهريب المخدرات والسلع المقرصنة.

الحزب استغل تواجد المهاجرين اللبنانيين الأوائل في أميركا اللاتينية والذين وصلوا إلى المنطقة أواخر القرن التاسع عشر، وتبعتهم جحافل أخرى خلال الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من موجة هجرة كبيرة خلال الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وهي التي حملت معظم المهاجرين اللبنانيين إلى المنطقة، حيث استقروا بصحبة عائلاتهم وشرعوا في تأسيس أعمالهم الخاصة مستفيدين من المكانة التجارية البارزة لمدينة الشرق، بما فيهم “أسعد بركات”.

وفقا لما أكدته إفادة خطّية مقدمة في أيلول/سبتمبر 2016 للمحكمة الجزئية في ميامي، فإن “حزب الله” قد قدر أهمية نشاطاته بالمخدرات أنها قد تدمر أو تضعف أعداءهم سواء في شكل إدمان للمخدرات، أو من حيث التكاليف الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بمكافحة الاتجار والإدمان.

بحسب تقارير مختصة، فقد كان بركات مجرد حلقة أولى في شبكة “حزب الله” المزعومة، ففي عام 2008 أُلقي القبض على “نمر زعيتر” بتهمة محاولة تهريب الكوكايين للولايات المتحدة، وفي وقت لاحق عام 2013 قُبض على شقيق أسعد، حمزة علي بركات، بتهمة تأسيس شبكة احتيال وتهريب بصحبة مجموعة من المهربين اللبنانيين في منطقة الحدود الثلاثية، وفي منتصف العام الحالي 2018، اعتقل شخص آخر من العائلة هو محمود علي بركات بتهمة تبييض الأموال لصالح الحزب.

إلى ماذا يهدف “حزب الله” بالتعامل مع رجال الأعمال؟

“حزب الله” يهدف من تلك الأعمال إلى جني الأموال وتمويل نشاطاته، خصوصا مع تراجع حجم التمويل الذي كان يحصل عليه من إيران، وبدأ في ذلك من خلال توظيف رجال أعمال وموالين له في غرب إفريقيا والشرق الأوسط، وصولا حتى إلى أوروبا، وهدفت تلك العلاقة إلى لكسب المال من كل شيء بداية من البضائع المزيفة مثل الساعات ونظارات الشمس والإلكترونيات المقلدة وأقراص الدي في دي المقرصنة، مرورا بتجارة السجائر وتهريب البشر.

تلك الأنشطة الممنوعة تأتي في سياق سلسلة من الأعمال التي ينشط فيها “حزب الله” وصولا إلى عمليات غسيل الأموال وتجارة المخدرات، بهدف إيجاد موارد دخل إضافية لمواجهة الأزمات المالية المتلاحقة التي ضربت صفوف الفاعل غير الحكومي المسلح الأبرز في الشرق الأوسط.

اقرأ/ي أيضا: بعد حادثتي بغداد والأنبار.. أسباب وأرقام صادمة وراء انهيار المباني المتكرر في العراق؟

بحسب الباحث في الشأن الإيراني، إسلام المنسي، فإنه لا يخفى على “حزب الله” تكوينه شبكة من الداعمين السياسيين له، فقد كون أيضا شبكة من رجال الأعمال الداعمين له، والذين ترتبط مصالحهم بمصالح الحزب، حيث استفادوا من ذلك نتيجة لوجود الحزب في السلطة. 

هذا الأمر كانت له عواقب سلبية لم تتضح الكثير منها في البداية، ثم اتضحت بعد ذلك بأنه عندما ترتبط مصالح رجل أعمال بميليشيا إرهابية سيكون عرضة للتقلبات السياسية والعقوبات الدولية.

إسلام المنسي لـ”الحل نت”.

الباحث في الشأن الإيراني أضاف، “لقد رأينا تورط رجال الأعمال في دعم حزب الله أدى إلى فرض عقوبات على أولئك الأفراد، وانهيار أعمالهم الخاصة، بالتالي فإنه مع ارتفاع علاقة الحزب بالكثير من الشخصيات يدفعهم للسقوط فجأة نتيجة لقرار أميركي، أو نتيجة تحولهم إلى شخصية منبوذة في عالم رجال الأعمال”.

خلال الفترة الأخيرة وبحسب المنسي، ثبت أن التعامل مع “حزب الله” مكلف جدا، وأن فترة المنفعة من الحزب لم تعد كما كانت، على الرغم من ازدياد نفوذه داخل لبنان وخارجه عبر صلته بشبكات الجريمة المنظمة، لكن العقوبات التي فرضت على الحزب مؤخرا وعلى داعميه أرسلت رسائل غاية في السلبية إلى المتعاونين مع الحزب اقتصاديا ومن يساعدونه في أعمال ذات طبيعة اقتصادية؛ مفادها أن هذا التعامل سيكون مكلفا ولن يمر دون عقاب، وهذا الأمر كان له انعكاسات سلبية على من يتعاونون مع “حزب الله”، والأخير قد اعترف بأن المتعاملين معه قد تضرروا خلال الأزمات السابقة.

تدابير دولية للحدّ من نشاطات “حزب الله” المالية

في السنوات الأخيرة، قيّدت مجموعة من التدابير الأميركية عمليات “حزب الله” المالية، لكن الضغط ازداد بسبب “قانون مكافحة تمويل “حزب الله” دوليا. ووفقا لتصريح سابق للقائم بأعمال وكيل وزارة الخزانة الأميركية آدم زوبين، تمر المنظمة حاليا في أسوأ حالاتها المالية لعقود، في حين أنه من الصعب تقييم الصحة المالية لـ “حزب الله” بشكل مؤكد، تبذل وزارة الخزانة الأميركية جهدا متعدد السنوات لاستهداف مصالح الحزب التجارية المستخدمة من أجل توليد الدخل وتوفير التغطية التجارية للأنشطة غير المشروعة.

في العام 2018، اعتقلت السلطات في باراغواي اللبناني محمود علي بركات 40 عاما بتهمة تبييض الأموال لصالح ميليشيا “حزب الله” الإرهابية، وهو تاجر هواتف خلوية، اعتقله إنتربول باراغواي اللبناني البرازيلي وسط العاصمة خلال وجوده في مكتبه، وفقا لمذكرة توقيف وطلب تسليم من قاضي الولايات المتحدة، وقبل ذلك بقرابة الشهر ونصف قامت السلطات في بارغواي باعتقال اللبناني نادر فرحات، بتهمة تبييض أموال المخدرات، والتعامل مع ميليشيا “حزب الله”.

قبل ذلك في العام 2016، كشفت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، عن عملية دولية أسفرت عن اعتقال أفراد شبكة تابعة لـ “حزب الله” اللبناني متورطة في عمليات تهريب وتجارة مخدرات بملايين الدولارات، بهدف تمويل عمليات إرهابية في لبنان وسوريا، ومن بين الشخصيات عدد ممن كانوا يعرفون بأنهم رجال أعمال بارزون.

عملية ملاحقة وتحجيم رجال الأعمال الذين يعملون مع “حزب الله” لم تنتهِ عند هذا الحد، وشملت أسماء عدة، آخرها كان الاسم البارز في لبنان حسن مقلد الذي قالت عنه وزارة الخزانة الأميركية، في كانون الثاني/يناير الماضي، إنها فرضت عقوبات عليه وشركة الصرافة التي يملكها بسبب علاقات مالية مزعومة مع “حزب الله”. حيث يعمل مقلد مستشارا ماليا لـ “حزب الله” المدعوم من إيران، والذي يخضع أيضا لعقوبات أميركية، وقام بمعاملات مالية نيابة عن “الحزب” أدت إلى تربّحه مئات الآلاف من الدولارات.

“حزب الله” استخدم الكثير من رجال الأعمال الحقيقين ليكون له عائد مالي، حتى أجبرهم على تبييض أموال تجارة المخدرات أو غيرها من التجارة غير المشروعة، وهذا أدى لوضع رجال الأعمال على قوائم العقوبات، وانهيار تجارتهم الخاصة. وبسبب مغريات الحزب بتحقيق عوائد مالية عالية، انخرط العديد من رجال الأعمال بأنشطة غير قانونية تفوق بكثير أي مكاسب محتملة أدت إلى مواجهة تهم جنائية وعقوبات قانونية، فضلا عن الضرر بسمعتهم، وفقدان شركاء عمل وعملاء، وتكاليف مالية واجتماعية أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات